تقتضي الانقلابات المحتملة في الإقليم نظرة أخرى على الدور الإيراني وموازين القوى التي قد تستجد إثر التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي في مباحثات فيينا الماراثونية. العودة إلى الاتفاق النووي يفضي مباشرة إلى تمركز إيراني جديد في معادلات الإقليم أكثر ميلاً إلى إعادة تعريف دورها ومصالحها في نظام إقليمي جديد يكاد أن يولد بالتزامن مع نظام دولي جديد تتشكّل حقائقه الأساسية تحت وهج النيران في الأزمة الأوكرانية.توجد الآن حالة تأهّب واسعة بالإقليم ترقب ما يحدث وتتحسب للنتائج. هناك ميل عام إلى التمركز من جديد انتظاراً لما قد يحدث من تطورات وتفاعلات تنعكس بالضرورة على أوزان وأحجام القوى الإقليمية المتنازعة. كانت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد للإمارات لافتة في توقيتها ومغزاها، فقد تؤشر إلى قرب عودة سوريا إلى الجامعة العربية. لم يعد مستبعداً أن يشارك الأسد في القمة العربية المقررة بالجزائر. هذا ما يمكن استنتاجه من دون عناء. لم تكن الزيارة مفاجئة بذاتها، فقد أعيدت العلاقات الديبلوماسية الكاملة وسط مراسم احتفالية، وجرى تبادل للزيارات على مستوى وزاري. الحدث يكتسب قيمة إضافية من سياقه ورسائله في لحظة تحول مزدوجة بالنظامين الإقليمي والدولي. بدت الحفاوة التي استقبل بها الأسد، بعد 11 عاماً من القطيعة السياسية، رسالة انفتاح على اللاعبين الروسي والإيراني الداعمين له في الأزمة السورية. الولايات المتحدة أعربت عن رفضها للتطبيع مع الأسد، وإسرائيل أبدت ضيقاً بالغاً من دعوات إعادة إدماج دمشق في محيطها العربي.
لم يكن هناك ما يستدعي عقد قمة مصرية- إماراتية- إسرائيلية في شرم الشيخ، ولا كان مقنعاً أن جدول الأعمال تطرّق إلى الأمن الإقليمي، والأمن الغذائي، واستقرار أسواق الطاقة، فليس لدى إسرائيل ما تقدّمه ولا هي معنية بأية قضية خارج حساباتها الأمنية والقضية الفلسطينية تحت مقصلة التقتيل اليومي. ما يعنيها ويقلقها - أولاً - أن تتضرر تحالفاتها الإقليمية إذا ما ارتفعت وتيرة إدماج دمشق في محيطها العربي وتراجع موجة التطبيع معها. وما يعنيها ويقلقها - ثانياً - أن يتسع حجم الدور الإيراني على حسابها في عالم جديد يكاد يعلن عن نفسه. وما يعنيها ويقلقهاً - ثالثاً - أن تدخل مصر إلى ساحة الحوار مع إيران لاعباً أساسياً بحكم حجمها ودورها التاريخي في العالم العربي. رد الفعل الإسرائيلي على زيارة الأسد أقرب إلى محاولة قطع طريق على أية تغييرات إيجابية في تفاعلات الإقليم قد تواكب تآكل مكانة الولايات المتحدة كقطب وحيد في نظام دولي متهالك يومئ بالغروب.
لوقت طال نسبياً جرت جولات حوار بين إيران والسعودية في سلطنة عمان ثم في العراق من دون أن تصل إلى نتائج ملموسة، انتظاراً لما قد تسفر عنه التغييرات المحتملة في النظامين الدولي والإقليمي من أوضاع وحسابات جديدة. في البداية أبدت إيران حماسة أكبر للتوصل إلى تفاهمات بشأن الأزمة اليمنية، التي تتصدر اهتمامات الرياض أكثر من أي أزمة أخرى، ومانعت السعودية رهاناً على الدعم الأميركي والقدرة على الحسم العسكري. عندما ظهر أن إحياء الاتفاق النووي ممكن ومتاح التفتت السعودية إلى قناة الحوار شبه المعطلة، طالبة من إيران التدخل بالوساطة مع الحوثيين، غير أنها فوجئت برد أقرب إلى الرفض: «هذه أزمة يمنية... تفاوضوا مباشرة». كان ذلك تعبيراً عن اعتقاد راسخ بأن تأجيل البت في الملف اليمني لما بعد إحياء الاتفاق النووي يضع إيران في موضع قوة نسبي. هكذا فإن الأزمة اليمنية في وضع انتظار لما قد يحدث بعد انتهاء مباحثات فيينا.
إعادة التمركز عنوان رئيسي في كل ما يحدث حولنا


بنصيحة أوروبية دعت السعودية إلى مؤتمر وطني يمني لا يستثني أحداً لتجديد هيكل القيادة حتى تكون أكثر كفاءة في أية مفاوضات تحدث تالياً. لم يتجاوب الحوثيون مع أية مبادرة سعودية. كان ذلك استثماراً سياسياً مبكراً في ما قد يحدث بعد العودة إلى الاتفاق النووي حين تتضح مراكز الأطراف الإقليمية المتنازعة في عالم يتغير. كانت العمليات الحوثية الأخيرة على مواقع حساسة بالسعودية بصواريخ باليستية ومجنحة وطائرات مسيرة رسالة سياسية صريحة وواضحة، لا مفاوضات الآن.
إعادة التمركز عنوان رئيسي في كل ما يحدث حولنا. التمركزات الجديدة لا تتعلق بتعديلات جوهرية في السياسات والتحالفات، بقدر ما هي حالة تأهب خشية أن تداهم عواصف التطورات حساباتها ومصالحها. أين مصر من ذلك كله؟ إنها بحاجة أن تقرأ المتغيرات حولها، حتى لا تجد نفسها في وضع ابتزاز تحت ضغط أزماتها الاقتصادية، أو أسيرة حسابات قديمة تنال من سلامة أمنها القومي. تأخرت بأكثر مما ينبغي في اقتحام الأزمة السورية بتطبيع العلاقات الديبلوماسية الكاملة مع دمشق. استعادة سوريا لكامل عافيتها مسألة أمن قومي مصري. الحوار مع إيران في العلن الديبلوماسي عنوان آخر للمصالح المصرية العليا. هناك تباينات وخلافات تحتاج إلى مقاربات مختلفة، بخاصة في ملفي: «أمن الخليج» و«نزيف اليمن»، وملفات أخرى ملغمة بالتساؤلات القلقة والشكايات المعلقة في لبنان والعراق وسوريا. الحوار مدخل ضروري لتخفيض منسوب العنف والقلق في الإقليم المنكوب. الشرط الأول لنجاحه، أن يكون صريحاً وواضحاً، يعترف كل طرف فيه للآخر بما هو مشروع من دون تغول. والشرط الثاني، أن يضطلع بمهمة إدارة الحوار طرف لم يتورط في دم ويحظى تاريخياً بقبول واسع من أطرافه كلها.
هناك من لا يريد لمصر أن تخرج إلى إقليمها، تفاوض وتحاور باسم العالم العربي، تبني علاقاتها على أسس من المصالح المشتركة. «لماذا مصر؟»، هكذا تساءل ذات حوار مسؤول سعودي رفيع تعليقاً على ما كتبته قبل سنوات من أن مصر يمكن أن تلعب دور «محامي الخليج» في أي حوار مفترض مع إيران. «من إذاً؟»، أجاب بوضوح: «نحن»!
تكبيل السياسة الخارجية المصرية مسألة زادت عن حدها. في عام 1979 جرى بالتزامن تحولان جوهريان في الإقليم وحساباته. الأول، الثورة الإيرانية، التي أفضت إلى إنشاء سفارة فلسطينية في نفس مقر سفارة «الدولة العبرية» وتغيير بوصلة توجهات طهران عما كانت عليه في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان ينظر إليه كـ«شرطي أميركا في الشرق الأوسط». والثاني، معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، التي أفضت إلى خروج أكبر دولة عربية من الصراع العربي- الإسرائيلي وانفراد إسرائيل بالدول العربية واحدة إثر أخرى، حتى كادت تتبدد أنبل القضايا.
على مدى سنوات طويلة طرح السؤال نفسه: «متى تعود العلاقات الديبلوماسية بين مصر وإيران؟». يميل أغلب الديبلوماسيين المصريين إلى أن هناك ضرورات لعودة العلاقات في العلن الديبلوماسي وعدم الاكتفاء بتفاهمات الكواليس الأمنية، التي شملت الحوثيين في أوقات سابقة. «أليسوا جزءاً من الشعب اليمني؟» - بنص عبارة لمسؤول رفيع.
هكذا جرى تكبيل حرية الديبلوماسية المصرية بحساسيات مفرطة من بعض الحلفاء المفترضين، أو من الإدارات الأميركية المتعاقبة. كان مثيراً أن جميع دول الخليج، إضافة إلى الولايات المتحدة والدول الغربية بلا استثناء، تجمعها علاقات ديبلوماسية مع إيران بينما مصر وحدها تقاطع! التطورات الجارية ترشح إيران لاستعادة كافة علاقاتها الديبلوماسية والاقتصادية. المأساة اليمنية تستحق المبادرة لحلحلتها من دون أن يكون لأحد حق الاعتراض.
في حوار مع وزير الخارجية سامح شكري، عقب صعوده إلى منصبه عام 2014، قال حرفياً: «أنا مع عودة العلاقات مع إيران... لكن ليس الآن». بعد نحو ثماني سنوات فإن السؤال الإيراني يطرح نفسه مجدداً بأوضاع مستجدة وعاصفة: «متى تعود العلاقات؟ ما نقاط الاتفاق والاختلاف؟ كيف نسد الفجوات ونؤسس لأوضاع أكثر عدالة في الإقليم المضطرب؟».
الحوار مع إيران الآن... وليس غداً.

* كاتب وصحافي مصري