كأن العرب استقالوا من التاريخ ومن صنعه. ليس هناك من استشارة دوليّة لمواقف الدول العربيّة ـــــ وهي تتجاهل أهواءَ شعوبها. الثراء العربي يزداد، والسقم السياسي العربي يزاد معه. كان العرب أكثر تأثيراً عندما كانوا أفقر: كان ذلك قبل اختراقنا من قبل المنظمات غير الحكوميّة ووسائل الإعلام الجديد (أي المُموَّلة من الغرب). يتحدّث البعض في صحف الهيمنة النفطية، وفي إعلام الترفيه السعودي ــــ الإماراتي عن زمن الاستعمار الجميل، لكن ينسون أن فترة التحرّر منه أدخلت العرب في التاريخ العالمي. كانت القرارات الدوليّة مستحيلة من دون مساهمة عربيّة فيها، ومن جمال عبد الناصر شخصيّاً الذي شكَّل شخصيّة محوريّة لم تتكرّر منذ رحيله. لم تكن أميركا التي كانت تعاديه وتحاربه تجرؤ على طرح مبادرة عربيّة من دون استشارة عبد الناصر في الصياغة وفي المواقف. القرار 242 كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير لو أن عبد الناصر المهزوم لم يحاول التخفيف من سوئه ـــــ والقرار من أسوأ القرارات لأنه لم يذكر كلمة فلسطين. تقرأ مذكرات سفير ترامب في القدس المحتلّة، ديفيد فريدمان، وهي صدرت حديثاً بعنوان «المطرقة الثقيلة»، وتلاحظ أنهم في الغرب لا يكترثون لمواقف العرب عندما يقرّرون مصائر العرب. يصنعون اتفاقيات ويقرّرون أمرنا بين واشنطن وتل أبيب ثم يعرضونها على الطغاة العرب ضامنين موافقتهم. أحياناً، تجرى عمليات بيع وشراء، كما يجري الآن بين إدارة بايدن ومحمد بن سلمان. ليس هناك من يحسب حساب العرب بعد اليوم، والشعب العربي مسؤول عن ذلك أيضاً. هل استقال عن ممارسة دوره في تقرير مصيره؟

كان الصهاينة والمستعربون في وزارة الخارجيّة الأميركيّة يتصارعون في الستينيّات والسبعينيّات حول الدور السياسي للرأي العام العربي. كان المستعربون يحاججون بأن من الضروري في اتخاذ قرارات في السياسة الخارجيّة الأميركيّة أن يؤخذ في الاعتبار مواقف الرأي العام العربي وتوجّهاته. وكان المستعربون يفوزون بالصراع أحياناً ـــــ من يتصوّر أن السياسات والقرارات الأميركيّة الجائرة والفظّة نحونا كانت أحياناً تأخذ في الاعتبار الرأي العام العربي؟ وقرارُ التمنّع عن نقل السفارة الأميركيّة من يافا المحتلّة إلى القدس المحتلّة كان واحداً من هذا القرارات، مع أن الكونغرس سنَّ قانوناً بنقل السفارة منذ التسعينيّات في عهد رئيس مجلس النوّاب، نيوت غينغرتش. أمّا الصهاينة (في شلّة «مؤسّسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، والتي باتت محجّة للساسة والإعلاميّين والناشطين العرب) فهم كانوا يحاججون بأن الرأي العام العرب، ووطأته على السياسة شأنٌ مبالغٌ فيه وأنه يمكن لِـ، أو يجب على، أميركا اتخاذ قرارات معادية للرأي العام العربي. وكان المستعربون يستعينون بحجّة أننا لا نريد أن نرى سفارة أميركية تحترق في عاصمة عربيّة، فيما كان الصهاينة يولون مصلحة إسرائيل ويعوّلون على قدرة طغاة أميركا بقمع المعارضة العربيّة لأي قرار أميركي مزعج للرأي العام. وفي السنوات الأخيرة، كان الصهاينة يذكّرون بأن عبد الناصر مات وأنه ليس من مُحرِّك للرأي العام العربي، و«الجزيرة» باتت صادحة بأجندة «الناتو» وليس بعواطف القوميّة العربيّة.
لم يعد هناك من مستعربين في وزارة الخارجيّة وإدارات الدولة. لقد سيطر الجهاز الصهيوني بالكامل على كل مقدرات صنع السياسة الخارجيّة نحو بلادنا (وجرى الشيء نفسه في كندا منذ أواخر التسعينيّات، وكانت دوائر السياسة الخارجيّة في كندا منفتحة ومتنوّرة ومُجاهرة بدعم الحق العربي. كنت عندما ألتقي دبلوماسيّين كنديّين في أوتاوا، أقولُ لهم لو أن دبلوماسياً أميركيّاً يقول لشخص عربي مثلي ما تقولونه لكان تعرَّضَ للطرد من العمل على الفور). والرأي العام العربي أثبت بطلانه ــــــ من وجهة نظر الحكومات الغربيّة. عدة عوامل ساهمت في ذلك:
1) سياسة الإلهاء المقصودة والتي أوعزت فيها الحكومة الأميركيّة لحكومات السعوديّة والإمارات وقطر للإفراط في إعلام التسلية والرياضة والفنّ وكل ما هو بعيد عن فلسطين.
2) فعاليّة القمع العربي في خلق حالة استكانة وخوف عند السكان. الإمارات تفرض عقوبة 15 سنة سجناً على تغريدة واحدة أو إعادة تغريدة. كيف لا تُصاب بالذعر هناك؟
3) الشعور بالإحباط والعجز عند العرب.
4) غياب زعامات عربيّة تتحدّى الواقع الراهن الخاضع لنفوذ أميركا.
5) ضعف القضايا المركزيّة بفعل سقوط منظمة التحرير وانتهاج ياسر عرفات لمسيرة أوسلو التي قضت على المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة في «عمودها الفقري».
6) ظاهرة مواقع التواصل التي توهم الفرد بأن كتابة تغريدة هي بنفس قوّة تظاهرة أمام مبنى حكومي أو سفارة أجنبيّة. كانت التظاهرات أمام مقارّ السفارات الغربيّة تؤثّر على عمليات صنع القرار في الغرب، لا من أجل صنع قرارات منصفة لنا، وإنما من أجل التخفيف من وطأة قراراتهم الظالمة. الصهاينة في واشنطن يحاججون اليوم بأن كل القرارات والسياسات الاستفزازيّة للإدارة الأميركيّة لم تلقَ أيّ احتجاجات يمكن أن تشير إلى رأي عربي غاضب.
الخلاصة في ترصّد آثار الرأي العام العربي الغاضب وسياسات الغرب تشير إلى أن العنف السياسي (بكل أنواعه) كان مؤثّراً على الغرب أكثر من أي عنصر آخر، مثل الدبلوماسية أو المفاوضات أو قرع الطناجر في الأحياء (الغريب أن دول الغرب لم تنصح شعب أوكرانيا، كما هي تنصح العرب عبر العقود، بالاكتفاء بقرع الطناجر والتوسّل لسفارات الغرب كمظاهر احتجاج واعتراض على تدخل عسكري أجنبي). كان العرب مؤثّرين عندما كان هناك خيار عسكري للأنظمة في علاقاتها مع الغرب أو من قبل منظمات فلسطينيّة في علاقتها مع الأنظمة ومع دول الغرب.
في السنوات الأخيرة، كان الصهاينة يذكّرون بأن عبد الناصر مات وأنه ليس من مُحرِّك للرأي العام العربي، و«الجزيرة» باتت صادحة بأجندة «الناتو»

نستطيع أن نتبيّن أن القضية الفلسطينيّة خرجت من دائرة الاهتمام الغربي منذ أن سلّم ياسر عرفات سلاحه، وقبل سلاحاً إسرائيليّاً بديلاً للتفرّغ لمنع حركات المقاومة من إيذاء إسرائيل (لا يهمّ أنه في سنواته الأخيرة عاد واكتشف بطلان خياره وأنه بدأ بالسماح لميليشيا «فتح» باستعمال العنف المسلّح، لكن سقفه كان دائماً تحسين شروط التفاوض مع الغرب وليس مشروع مقاومة بهدف التحرير). كان الحضور العربي الشعبي في الساحات والشوارع عنيفاً في الماضي، وكانت التظاهرات تلاحق زيارات وزراء خارجيّة الغرب إلى بلادنا. لم يجرؤ هنري كيسنجر على زيارة بيروت في 1973 لأنه كان يخشى على أمنه الشخصي.
دول الغرب في الخمسينيات والستينيات كان تحرص على مداراة الدول العربية وحتى على إرضاء عبد الناصر لأنه كان هناك خيار عسكري مطروح في التعامل مع الخطر الإسرائيلي. لكن رحيل عبد الناصر سمح لدول الغرب بتدمير الخيار العسكري للأنظمة العربيّة، الواحد تلو الآخر، إمّا بالمفاوضات ونزع مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، أو بتدمير المجتمع والدولة في عدد من الدول العربية، ليبيا وسوريا والعراق واليمن. ليست هذه دعوة لإحياء العنف العبثي للأنظمة، والذي وسم مرحلة سابقة في التاريخ العربي المعاصر، لكن المرحلة التي تلتها شهدت عنفاً أكبر بكثير. يتحدّث كثيرون وبحق عن العنف في علاقات حزبَي «البعث» مع بعضهما ومع مجتمعهما، وكانت نتيجة هذا التقاتل كارثيّة على العرب، لكن عنف وتدمير الغرب لليبيا والعراق وسوريا واليمن وحتى لبنان ــــــ لا ننسى أن إشعال حرب لبنان كان مخططاً أميركيّا ــــ إسرائيليّاً وبتنفيذ حزب الكتائب وأعوانه من ميليشيات إسرائيل ــــــ كان أكبر وأفظع بكثير. لكن الغرب لم يأخذ العرب على محمل الجد ولم يحسب لهم حساباً إلا عندما كان خيارهم العنفي مطروحاً، لفظاً وفعلاً. نحن أصبحنا في يوم زعيم حركة التحرّر الوطني الفلسطيني (المفترض)، محمود عبّاس، يهدّد فيه العدوّ بالمقاومة السلميّة ـــــ هذا عندما يغضب ويزمجِر.
أهميّة جمال عبد الناصر ومشروعه في الصراع مع إسرائيل أنه ــــــ وبالرغم من الهزيمة الكارثيّة ــــــ لم يتخلّ عن الخيار العسكري، لا بل سارع بعد أيّام من الهزيمة إلى العمل الجاد والدؤوب لإعادة بناء القوات المسلّحة المصريّة والإصرار على تحرير الأرض. ولهذا اضطرّت أميركا إلى التعامل معه ليس كنظام مهزوم بل كمشروع ملؤه العزيمة والتصميم والإصرار على ربط مصائر كل دولة عربيّة بتحرير فلسطين (يمكن مراجعة واحدة من آخر مقابلاته مع مراسل «نيويورك تايمز» على «يوتيوب»). قارن ذلك بياسر عرفات الذي، بسبب فشله الذريع في إدارة العمل العسكري في لبنان، رضخ لشرط إخراج المقاومة المسلّحة من لبنان وتحويلها إلى حرس رئاسي منتشر في أصقاع الأرض، ومُتمركزة في تونس كمقرّ، حيث الموساد يسرح ويمرح. قارن ذلك أيضاً بوليد جنبلاط الذي ردّ على الغزو الإسرائيلي للبنان بـ: 1) استقبال شمعون بيريز في المختارة واستضافته على مائدة جبليّة. 2) حلّ الحركة الوطنيّة اللبنانيّة بمبادرة منه إرضاءً لحزب الكتائب ورعاته في الغرب والسعودية وتل أبيب. الخيار العسكري والصمود في الموقف هو الذي حافظ على مكانة عبد الناصر العالميّة.
كما أن الاقتتال والمزايدة بين الأنظمة كانا في مصلحة الجو الوطني العام وفي منع الخيانة المنتشرة اليوم (الخيانة هنا بالمعنى الدستوري أي التعاون مع العدوّ خدمةً له وعلى حساب المصلحة الوطنيّة). كانت الأنظمة تخشى من ارتكاب الخيانة ومن التعامل والتعاون مع إسرائيل لأنها كانت تخشى افتضاح أمرها، أو أن تتعرّض لمزايدة وتجريح في الإعلام العربي المعادي. والغضب الشعبي العربي الذي كان يتفجّر في الشوارع شكّل رادعاً بحدّ ذاته. كان هو الذي يسبق الانقلابات العسكريّة. لم تكن الانقلابات تأتي من عدم، بل كانت عادة تلي سلسلة من التظاهرات الشعبيّة ردّاً على أحداث سياسيّة. واستسهال الخيانة اليوم واستقبال الخارج من سجون لبنان بتهم العمالة لإسرائيل استقبال العائد من السياحة الدينيّة هو دليل على غياب الرادع الشعبي الزاجِر.
الغرب الاستعماري هو الذي طلعَ بمقولة «إن العرب لا يفهمون غير لغة القوّة». وصهاينة أميركا، وخصوصاً فؤاد عجمي وبرنارد لويس، ذكّروا الإدارة الأميركية بعد 11 أيلول بصوابية المقولة وأن العنف على مستوى شامل سيحقّق التغيير المنشود. وغرور القوّة هو الذي أقنعَ إدارة بوش بأن السيطرة على العراق وأفغانستان ستكون سهلة، وأن إيران وسوريا ستتساقطان مثل أوراق اللعب («الكوتشينة» باللهجة المصرية، والكلمة من الإيطاليّة). كان السؤال عند الأميركي عن حروبه هو نفسه: السؤال ليس إذا كان العنف بحد ذاته فعالاً ضد الملوّنين، بل عن حجم العنف المطلوب ومستواه. هذه قصّة الاستعمار الأميركي للفيليبّين (لا تزال بعض السرديّات العربيّة تصدّق أنه ليس لأميركا تاريخ استعماري. (ترجمة كتاب «كيف تخفي إمبراطوريّة» لدانييل إميرفاهر، وهو من أفضل الكتب التي قرأتُها في السنوات الماضية، إلى العربيّة بات ضروريّاً). تاريخ الحرب الأميركيّة في الباسيفيك (هناك كتاب «حرب من دون رحمة» لرصد وتوثيق الوحشيّة الأميركيّة) هو تاريخ الرفع المستمر لمنسوب العنف ضد السكّان ــــــ المدنيّين ــــــ في اليابان. وأيزنهاور درس إمكانيّة استعمال السلاح النووي في الحرب الكوريّة، كما درس نيكسون استعمال السلاح النووي في حرب فييتنام. ووصف الجنون لا يُطلق إلا على أعداء الولايات المتحدة. حتى هاري ترومان (الذي لم يفقه شيئاً في السياسة الدولية والذي رسائله من أوروبا في الحرب العالميّة الأولى، عندما خدم في العسكرية، كانت مليئة بشكاوى من نوع: لا يهمّني لو طُليت أوروبا بالأحمر أو الأخضر، أنا فقط أريد العودة إلى بلدي) لم يوصف بالجنون عندما رمى سكّاناً مدنيّين في اليابان بالنووي من دون أي سبب أو ذريعة عسكريّة، كما يقول الأميركيّون، كأن هناك سبباً أو ذريعة عسكريّة لرمي الناس بالسلاح النووي).

الغرب لم يأخذ العرب على محمل الجدّ ولم يحسب لهم حساباً إلّا عندما كان خيارهم العنفي مطروحاً لفظاً وفعلاً


والغرب لا يتعامل معنا إلا بالقوة ولا يغادر إلا بالقوّة. قصة أن بريطانيا غادرت الهند لأن غاندي سحرهم باللاعنف هي مثل قصّة أن جورج نادر وفوج قرع الطناجر ستحرّر مزارع شبعا. وحركة تحرّر الهند لم تكن على السلميّة التي تصوّرها دعاية اللاعنف الغربيّة المشبوهة. بريطانيا لم تقصّر في فرض العنف، والهنود قاوموا بما استطاعوا حتى بوسائل عنفيّة. وهو افترض أن القوّة كفيلة بتطويعنا. فشل الغرب في التطويع في معظم التاريخ المعاصر حتى حرب الخليج في عام 1991. هنا زال الانقسام العربي وشارك النظام السوري والمصري، بالإضافة إلى أنظمة الخليج، في حرب مدمّرة كانت بالفعل تدشين الاحتلال الأميركي للمنطقة العربيّة برمّتها. كل ما تلا من إعلانات عن حروب ضد الإرهاب وعن عمليّات تدريب للجيوش المحليّة ليست إلا ذرائع من أجل الإبقاء على القوّات الأميركيّة في ربوعنا. وفي كل تجربة، من فييتنام إلى العراق إلى أفغانستان، يُقنع المحتلّ الأميركي نفسَه بأن المزيد من العنف كان يمكن أن يحقّق الأهداف. يُقنع نفسه بأنه رحيم ورؤوف بحياة الشعوب خلافاً لأعدائه (قتل أميركا في العراق في الأسابيع الثلاثة من الحرب على العراق أكثر من عشرة أضعاف ما قتله الروس في أوكرانيا ــــــ ولا يجوز الاستهانة بأي حياة بريئة، وأنا استعنت بأرقام الأمم المتحدة حول ضحايا أوكرانيا). حنة أرندت حذّرت الصهاينة في الخمسينيّات من أن المقولة أن العرب لا يفهمون إلا لغة القوّة أثبتت بطلانها، وأن العكس هو الصحيح. العنف لم يُطوِّع العرب، لكن الإفساد والشرذمة والتقسيم وتدمير الهويات والمجتمعات طوّعت الشعوب. العراق باتَ مجموعة من الكانتونات، والكانتون الكردي جزيرة موساديّة منفصلة تعتاش من ثروة شعب العراق.
القضيّة الفلسطينيّة هي المثال الأبلغ. من 1948 حتى 1967 نبذ الشعب الفلسطيني العنف بأمر من كل الدول العربيّة (سوريا ولبنان والأردن) باستثناء مصر التي حاولت في الخمسينيّات إطلاق أوّل مقاومة فلسطينيّة فاعلة ضد إسرائيل. وكانت فاعلة إلى درجة أن العدوّ هدّد سلامة مصر برمّتها. وبعدها، انصرفت الدول العربيّة إلى شؤونها الداخليّة مع وعود بالإعداد لعمليّة غير محدّدة، لكن موعودة لتحرير فلسطين. الحكم الناصري انشغل بحرب اليمن ــــــ وحرب اليمن هي حرب عالمية ضد النظام الناصري، وشارك فيها كل الذين يشاركون اليوم في الحرب ضد إيران وحزب الله. لم يكن لدى الحكم المصري خيار، وخصوصاً أنه كان يدعم تجربة إقامة نظام جمهوري ثوري في شبه الجزيرة التي تعجّ بالسلالات الحاكمة المرتبطة بالاستعمار. صحيح أنّ تولّي المشير عامر شؤون الحرب وتولّي أنور السادات الإشراف السياسي ضمنا تعثّر مشروع المواجهة. استكان الشعب الفلسطيني بالإكراه، فيما كانت المخيّمات تغلي كالمرجل (المخيّمات اليوم مشغولة إمّا بشاشات الترفيه أو بشؤون الفكر التكفيري أو بمسابقات حفظ القرآن). كان التحضير لإطلاق منظمات فلسطينيّة جارياً وكانت «فتح» في طور السريّة، فيما كانت حركة القوميّين العرب تضمّ فرعاً لفلسطين. وتأسيس منظمة التحرير في عام 1964 كان من أجل إخماد نار الغضب الفلسطيني والاعتراف بخصوصيّة الوضع الذي تراكمت فوقه شعارات الوحدة العربيّة وضرورة نبذ الهويّات القطريّة. حرب 1967 قضت على محاولة تسكين غضب الشعب الفلسطيني. انطلقت المقاومة الفلسطينية وسمع العالم بخطف الطائرات وتفجيرات لمصالح غربيّة وأحياناً عربيّة، لكن العالم، وخصوصاً الغربي المتكبِّر، انتبه لوجود الشعب الفلسطيني للمرّة الأولى. حتى في القرار 242 في 1967، لم يكن الشعب الفلسطيني معروفاً بالاسم. كان في القرار المذكور مجرّد «مشكلة اللاجئين». لم تفرد صحافة الغرب صفحات عن تاريخ الشعب الفلسطيني إلا بعدما امتشق هذا الشعب بندقيّته. لم تبدأ «مسيرة السلام» العقيمة إلا بعد صعود منظمات المقاومة الفلسطينيّة. نيكسون كان (كما أشار وليد الخالدي في مقدّمة الكتاب المرجع، «من الملاذ إلى الاستعمار») يلقي خطبة عن مشكلة الشرق الأوسط من دون ذكر كلمة فلسطين والاستعاضة عنها بذكر الإرهاب. وعندما انتحرت المقاومة الفلسطينية في أوسلو، انصرفت أنظار العالم عن فلسطين. للمرّة الأولى منذ مبادرة روجرز في 1970، ليس هناك اليوم أي مبادرة أوروبيّة أو أميركيّة في نطاق ما يُسمّى ـــــ استفزازاً لنا ــــــ بـ«مسيرة السلام». والنظام الإماراتي لم يكن يجرؤ على إعلان التحالف مع إسرائيل لو أن البندقيّة الفلسطينيّة لا تزال مُشهرة، ولما تجرّأ نظام عربي على التطبيع والتحالف مع إسرائيل. كانت منظمات المقاومة تستعين بوسائل تحذيريّة لردع الأنظمة عن التقرّب من إسرائيل. وكانت الحزازات بين الأنظمة تردعها.
اليوم، الرأي العام العربي مُلغى. ويختلف الأمر بين دولة وأخرى، لكنه مُغيَّب بحكم غياب التهديد العنفي ــــــ ضد الأنظمة وضد إسرائيل وضد الاستعمار الغربي (طبعاً، هناك استثناء المقاومة اللبنانية والفلسطينيّة في غزة، فقط). ومنظمات «الإن جي أوز» هي اختزال للرأي العام العربي بشعارات مستوردة من سفارات الغرب. ما يجري في السودان مثال. سلّم الشعب السوداني أمره لقوى المجتمع المدني، فيما الطغمة الحاكمة تستمرّ في غيّها بتغطية موساديّة خليجيّة مُشتركة. الخيار العنفي زال حتى إشعار آخر. ياسر عرفات، الذي لا تزال الذاكرة الفلسطينيّة تقدّره كقائد الثورة الفلسطينيّة، كان الرجل الذي قضى على الثورة الفلسطينيّة الواعدة. وخضوع الأنظمة العربيّة للسيطرة الأميركيّة والإسرائيليّة أزال الروادع المتبادلة في العلاقات العربيّة. والرأي العام العربي يفجّر شتائم في مواقع التواصل، فيما كان في الماضي يفجّر مصالح دول متحالفة مع إسرائيل. الغرب لم يعد يأخذنا في الحسبان. بعد التحالف الإماراتي ــــ الإسرائيلي والصمت، أو الاستكانة الشعبيّة، عنه في العالم العربي، من المتوقّع أن يزداد التجاهل الغربي للعرب. لا يريدوننا في التاريخ، لكن بقدرتنا الدخول فيه عنوة. الاقتحام دائماً خيارٌ أمام الشعوب.
* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@