لم أقرأ في حياتي مقالاً يدعو للدهشة والغضب مثل مقال السيد علي القاسمي: «"اسمي المزوّد بالزهور" ما بين السومريّة والفرعونيّة»، الذي نشرته صحيفة «الأخبار» في 25 شباط 2022. أسباب الغضب متعددة. لنبدأ مع التناقض الواضح بين فقرات المقال نفسه. فهو من جهة يشيد بالسومريين لناحية اختراع العجلة وتقسيم الدائرة والزراعة نفسها. المجتمع السومري الذي رد إليه كرايمر (Samuel Noah Kramer) أصل الحضارة الإنسانية في كتابه «التاريخ يبدأ من سومر»، لما تفرّد به من «أوائل» في القانون والأسطورة والأدب والشعر والعلم والرياضيات والفلك، يجعل منه السيد القاسمي مجتمعاً ظالماً:
«في المجتمع السومري كان هنالك ملوك المدن، وكل ملك يدّعي نسباً لأحد الآلهة، ما يعطيه شرعية الحكم وظلم الناس، ويؤيّده في ذلك كهنة يقيمون معبداً للإله الذي ينتسب إليه ذلك الملك. ويفرضون على الناس طاعته واستعباده إيّاهم. ويتمتّعون هم والملوك بالأموال والممتلكات. ويأخذون أجمل الفتيات للبغاء المقدّس، ومن يُشتمّ منه معارضة، يقومون بتضحية ابنه للإله. وعندما اخترعوا الكتابة، احتكروها لأبناء الملوك وأبنائهم. والمعرفة عموماً ـــ والكتابة خصوصاً ـــ قوّة وسلطة. وراحوا يدبّجون الأساطير والأشعار، ويخلعون الصفات المقدّسة على ذلك الإله، ويعدّونه الأقوى والأوحد، لتمجيد حفيده ملكهم».
إن آخر المكتشفات في الرياضيات عند السومريين واستخداماتها التطبيقية تؤكد أن هذه العلوم كانت متغلغلة في شتّى مناحي الحياة، وفي خدمة المجتمع ورفاهية أبنائه.

السبب الثاني، يعود إلى كيفية تعاطي السيد القاسمي مع إبراهيم والإطار التاريخي الذي نشأ فيه. فحسب السيد القاسمي، جاء إبراهيم «بشريعة متكاملة تُعدّ ثورة اجتماعية كبرى في تاريخ البشرية، وتولّدت منها أفكار الأديان السماوية الثلاثة». ويقوّل القاسمي إبراهيم ما لا يمكن سوى لمنجم فك ألغازه: «جاء إبراهيم الخليل وقال: لا إله إلا الله. وهكذا نسف شرعية أولئك الملوك الطغاة. وقال: نحن جميعاً عبيد الله. فنحن متساوون في العبودية بحيث تتحقّق لنا الحرّية، فأنا لا يمكن أن أكون عبدَ عبدٍ آخر، لأننا جميعنا عبيد الله». ربما يكون السيد القاسمي قد استمد معلوماته عن إبراهيم من القرآن، فقوّله ما قاله عنه. ولكن المرجع الحقيقي لإبراهيم هو التوراة، التي لو أخذ السيد القاسمي بعض الوقت في دراستها لوجد أوّلاً أن إبراهيم لم يكن أوّل من قال بالتوحيد، بل كان مذهب التوحيد قائماً في بلاد الشام، حيث ملكي صادق، ملك شاليم كان «كاهناً لله العلي» وهو الذي بارك إبراهيم وليس العكس (تكوين 19-18:13)، ولوجد ثانياً أن الدعوة اليهودية ليست لإله واحد للبشرية جمعاء بل لإله اسمه «يهوه» يختص بجماعة واحدة وتختص به، وفق «العهد» الذي قطعه مع إبراهيم، والذي يمكن وصفه بالعهد المتدحرج (تكوين 12 و15 و17).
ليس الغرض من هذه العجالة أن نكتب بحثاً دينياً. الغرض هو أن نشير إلى السطحية التي لمسناها في هذه الاختزالات: اختزال السومريين وتشويه صورتهم واختزال إبراهيم وتقديس صورته.
السبب الثالث، للغضب، هو أن هذه المقالة لا يمكن سوى إدراجها في سياق التسويق لما يسمّى بـ«الاتفاق الإبراهيمي» الذي يطلب منا أن نلغي كل معرفتنا بتاريخنا العظيم، وبعنصريّة التوراة القائمة على عهد بين إبراهيم وربّه، يهوه، فنلعن تاريخنا ونقدّس تاريخهم.
نحن أحرار ليس لأننا «لسنا عبيداً لعبد بل لأننا جميعاً عبيد لله»، نحن أحرار لأننا نفكّر بحرّية ومن يفكّر بحرّية لا يمكن أن يكون عبداً لأحد.

* رئيس تحرير مجلة «الفينيق» الإلكترونية، كاتب له عدد من المؤلفات والترجمات منها «منحاز بلا حدود»، «خوفاً من ولكن»، و«إدارة الاستراتيجية في المنظمة العقائدية»، كما ترجم كتابين للعلامة إبراهيم متري رحباني من الإنكليزية إلى العربية هما «المسيح السوري» و«الترجمات الخمس ليسوع»