أتابع كغيري ممن ملّ وقَرف خطاب أبطال الفضائيات، الذين يدّعون تمثيل الشعب السوري و«الثورة» من الخارج. وأتوجه إلى هؤلاء، بأن يحافظوا على ما كان لهم من تاريخ في ذاكرة بعض السوريين، هذا إن بقي لهم من تاريخهم شيء. وأن يكفّوا عن استغباء السوريين الذين سئموا خطابهم المكرور، وملّوا كذبهم المفضوح. إذ بات ينطبق عليهم القول بأنهم تجّار السياسة ومعارضة فنادق الخمسة نجوم. بداية ما سأعرضه لا يختزل أزمة المعارضة بأشخاص، فأزمتها كما يبدو للجميع، أزمة بنيوية عميقة، وآليات ومسارات أدائها السياسي على مدار الأزمة السورية، لا يعدو أن يكون بعضاً من تجليات أزمتها.
وإن كانت وسائل الإعلام من أحد أدوات الحرب الضروس، فهذا لا يعني أن يتخلى من أدمن الظهور على الفضائيات عن المصداقية والأخلاق. إذ إن عموم السوريين يدركون حجم الكارثة التي تحيق بهم، ومن هي الأطراف التي تتاجر بدمائهم وتعمل على تمزيق وحدتهم ووحدة أراضيهم. وكذلك يعلمون جيداً من هي الأطراف التي تعمل على تهديم كيانية دولتهم. فذاكرة الشعوب عميقة، والمواطن السوري يميز جيداً بين الغث والثمين، بين من يمثّل مصالحه، وبين من يتاجر به ويكذب عليه ويعمل على تضليله.
فبعد محاولات السيد جورج صبرا (الشيوعي سابقاً) تلميع صورة جبهة النصرة واعتبارها مع الأطراف الجهادية، من بنادق ثورته. طالعنا أخيراً بموقف آخر لا يقل خطورة عما سبق، ألا وهو تلميع صورة الولايات المتحدة الأميركية وتقديمها بصورة معاكسة للحقيقة. فهي من وجهة نظره الحمل الوديع الذي لا يحمل للشعب السوري إلا الخير، وهي المدافع عن وحدة السوريين ووحدة أراضيهم، وأنها ضد العسكرة وتحارب الإرهاب وضد العنف والتسليح وهي من أنصار الحل السياسي الذي يضمن مصالح السوريين وينقلهم إلى الديمقراطية... متجاهلاً أن الحكومة الأميركية هي من يرعى الإرهاب والاستبداد في الماضي والحاضر، وأنها من أسباب تخلف وإفقار الشعوب. وإن سياساتها التدخلية والاحتلالية في المنطقة لا تخرج عن سياق ضمان مصالحها ومصالح وأمن حلفائها، الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى وبعض الدول الخليجية في الدرجة الثانية. وهذا يندرج كما بات واضحاً في سياق تناقضاتها البنيوية والعميقة مع روسيا التي تمثل مع حلفائها قطباً آخر. وموقف السيد صبرا ومن يصطف في خندقه ومن يتقاطع معه، يعبّر عن ارتهان وتبعية واضحين للدول الداعمة لتحالفه، أما شرعيتهم التي يتكلمون عنها فمصدرها ذات الدول الداعمة وليس الشعب الذي لم يعد يثق بهم وبمواقفهم.
أما السيد محي الدين اللاذقاني فتاريخه السياسي معروف، وكذلك أسباب خروجه من سوريا، وليس من ضرورة للحديث عن ذلك. وما تقدم به في حديثه عن الانتخابات، لا يعدوا أن يكون تشويهاً لإرادة المواطن السوري. فمن ذهب للإدلاء بصوته يعلم جيداً أين تكمن مصالحه ولماذا شارك في الانتخابات. وقد يكون كثيراً ممن شارك في العملية الانتخابية من السوريين سواء من شارك منهم في التظاهر أو من معارضة الداخل أو حتى من أنصار الرئيس الأسد، له كثير من التحفّظات والمخاوف. لكنهم جميعاً يمتلكون مبررات المشاركة، وهذا من ضمن حقوقهم المشروعة. وقد يكون من هذه الأسباب قناعة الكثيرين بصحة سياسات الحكومة وهذا حق يجب أن يحترمه الجميع. وقد يكون الخوف، وهذا أيضاً حق مشروع يجب احترامه. ومن المرّجح أن توق السوريين إلى الاستقرار والأمان المفقود، والخلاص من الأزمة الراهنة وإيقاف دورة العنف والقتل من أسباب المشاركة. وهذا من أبسط حقوق المواطنة ويجب أيضاً احترامه. وقد يكون من أسباب المشاركة في الانتخابات، هو فشل أقطاب معارضة الخارج تحديداً، عن تقديم أنفسهم كبديل مُقنع للمواطن السوري. وأيضاً عجزهم عن تقديم مرشّح رئاسي يحظى بإجماع وطني في الداخل والخارج. إذ على مدار أكثر من ثلاث سنوات لم يلحظ المواطن السوري من هؤلاء إلا المبالغة والتضليل وحتى الكذب المفضوح والفساد المالي والسياسي والصراعات ذات الأبعاد الشخصية والمصالح الأنانية، التي كان من نتائجها زيادة تمزيق المعارضة أكثر مما هي ممزقة. فبعد الدمار الذي أحاق بالمجتمع السوري ومقدّراته وثرواته الوطنية. بات المواطن السوري يدرك جيداً بأن إنهاء الصراع يضمن وحدة المجتمع السورية ووحدة أراضيه، ويخلّصهم من خطر المجموعات الجهادية التكفيرية التي تهدد إنسانيتهم. وهذا بتأكيد سيفتح الأفق على تغيير سياسي واجتماعي.

من لم يرَ سوريا إلّا على الخرائط والفضائيات لا يحق له الكلام باسم السوريين

لكن أن يدّعي من في الخارج بأن الانتخابات الرئاسية فاشلة وغير شرعية ولم تشهد إقبالاً جماهيرياً، أو أن من شارك فيها هم من أنصار الرئيس فقط، وهؤلاء جميعاً خائنون يستحقون القصاص أو الإعدام بتهمة الكفر ودعم النظام. فإنهم بذلك لا يريدون رؤية الواقع على حقيقته. ولا يريدون أن يعترفوا بأن الرئيس الأسد، ما زال يحتفظ بقبول شعبي، وإن النظام ما زال ممسكاً بزمام الأمور في الداخل السوري، وإن بشكل نسبي. وهذا ما لا يريد من يتشدق بالمعارضة في الخارج الإقرار به، متذرّعين بأن الانتخابات تخالف إطار بيان جنيف وكأن الأخير نص مقدس. بالرغم من أنهم أول من عارضه رافضاً مبدأ الحوار إلا بعد رحيل الأسد. رغم أنهم يعلمون جيداً أن مشاركتهم في مؤتمر «جنيف 2» كانت نتيجة ضغوط دولية من الدول الداعمة لهم، والتي بدورها أوعزت للوفد الائتلافي للتمسك بأولوية نقاش بند تشكيل حكومة كاملة الصلاحية دون غيره، كونه يضمن لهم الإمساك بالسلطة، كذلك لعلمهم أن هذا سيفجّر المؤتمر من الداخل، لمعرفتهم بأن وفد الحكومة السورية ومن خلفه الدول الداعمة له لن يقبلوا بذلك، وأنه سيصّر على أولوية مناقشة ملف مكافحة الإرهاب وآليات إيقاف الصراع. ما يعني فشل المفاوضات واستمرار الصراع حتى يتم تدمير الباقي من سوريا. وهذا يعني أن الطرفين كانا على طرفي نقيض. وبعيداً من ملف جنيف نسأل قادة معارضة الخارج وقادة الحكومات الغربية التي ترى بأن الحل السياسي يكمن في تعديل موازين القوى على الأرض لصالح الفصائل المسلحة، عن مصدر الشرعية. فإن كان الشعب هو مصدرها فإن السوريين قالوا كلمتهم حتى لو تعددت الأسباب. وهذا يدل على فشل معارضة الخارج التي تحوّل رموزها إلى أبواق لقادة الحكومات الداعمة لهم. وهؤلاء لم يشبعوا بعد من التذلل والتسول أمام أبواب السفارات الغربية.
أما مناشدة السيد أحمد الجربا، للسوريين ألّا يخرجوا من منازلهم وأن يقاطعوا الانتخابات حرصاً على أرواحهم لأن النظام سيقوم بتفجير بعض المراكز الانتخابية واتهام المعارضة بذلك، يدعو إلى القرف في وقت يتوسّل هو وأتباعه قادة الغرب لمدهم بالسلاح الفتّاك، وهو يعلم بأن زيادة التسليح يعني مزيداً من القتل والتهجير والدمار. ألم يُدرك هو ومن يواليه بعد، بأن الحل لم يكن ولن يكون عسكرياً، أم أن شهوة السلطة والمال أعمت بصيرته وبصيرة الكثيرين. ألم يُدرك هؤلاء بأن هدف من يدعمونهم بالسلاح هو تدمير سوريا وتحويلها إلى دولة فاشلة تضمن أمن إسرائيل وتفوقها ومصالحها في المنطقة. وهنا نستذكر مواقف اللبواني بخصوص التدخل الخارجي، وإسرائيل التي يعتبرها دولة صديقة.
أخيراً نؤكد أن الرابط بين من أتينا على ذكرهم، وآخرون لم نذكرهم. هو الرهان على أن وصولهم للسلطة مرهون بولائهم للقادة الغربيين والخليجيين. لذا فإن استماتتهم من أجل زيادة التسليح لا تزيدهم إلا انبطاحاً وارتهاناً، وافتقداهم للشرعية الشعبية، يدفعهم إلى التمسّك بتلابيب القادة الغربيين والخليجيين علّهم يمنحونهم بعضاً من شرعية، وهذه سيقابلها بالتأكيد مزيد من التبعية والارتهان والإذلال والمهانة وصولاً إلى الخيانة الوطنية.
لهذا نقول لأبطال الفضائيات كفى بحق الله. فالشعب الذي تدّعون تمثيله والدفاع عنه لفظكم ومل خطابكم الممجوج. راهنتم على التدخل الخارجي وفشلتم، روجّتم أن أيام النظام معدودة وها هو يفوز بولاية ثالثة، طالبتم بحظر جوي ومعابر آمنة وسلاح فتّاك ولم تحصدوا إلا الخذلان، ترفضون الحوار وتتمسكون بإسقاط النظام كونه من ثوابت ثورتكم، فلم تكن النتائج إلا مزيد من القتل والدمار وتعويم الصراع وعولمته وفتح سوريا أمام الجهاديين الآتين من كل أصقاع العالم، في وقت لا تدخلون فيه الحدود، إلا لالتقاط الصور التذكارية علّها تخلد نضالكم. لكن هذا لم يعد خافياً على أحد. هربتم إلى الخارج بحثاً عن أمانكم الشخصي، وهذا من حقكم، لكنه ينزع عنكم صفة الثورية التي تدّعون. وكذلك فإن من لم يرَ سوريا إلّا على الخرائط والفضائيات، لا يحق له الكلام باسم السوريين والمزاودة عليهم، وعلى معارضة الداخل التي تعاني بدورها مزيداً من الأزمات. ولا يحق لكم أيضاً أن تحوّلوا السوريين، إلى قرابين «للحرية» التي تنشدون وتدّعون أن ثمنها غالٍ والسوريين جاهزون لدفع أثمانها، فأنتم أول من هجر وطنه.
لذلك نطالبكم بالارتقاء إلى الحد الأدنى من الأخلاق التي تحفظ دماء السوريين. فالشعب وإن طالت الأيام لن ينسى من يخون وطنه. وحماسة البعض في تأييد الرئيس الأسد مع أنها تُحرج «أصدقاء سوريا» لكنها تعكس بشاعة تأثير المجموعات المُسلّحة التي نفّرت السوريين وكفّرتهم بـ«ثورة» كان يمكن أن تحظى بتأييدهم لو أن قطر والسعوديّة وإسرائيل وأميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا لم تسرقها باكراً.
* باحث وكاتب سوري