«المصدر الرئيسي لقوة روسيا ومستقبلها يكمن في ذاكرتنا التاريخية»[من خطاب لبوتين أمام المؤتمر الأوّل لجمعية التاريخ العسكري الروسي عام 2013]

منذ السبعينيات، بدأ الاهتمام بـ«الثقافة الاستراتيجية» ينمو تدريجيّاً باعتبارها امتداداً لـ«المدرسة البنائية» و«المدرسة الواقعية الكلاسيكية»، لتصبح لاحقاً من المقاربات التي يلجأ إليها المحلّلون في محاولة منهم لفهم الدوافع الخفيّة التي تحرّك صنّاع القرار. تشكّل «الثقافة الاستراتيجية» مقاربة جديدة في تفسير السلوك الخارجي للدول. فهي تُعرّف بأنّها دمج كلّ العوامل الثقافية للدولة وتوظيفها في خطتها ورؤيتها الاستراتيجية. فالتاريخ والهوية والجغرافيا والتصورات والسلوكيات والمعتقدات المشتركة والذاكرة الشعبية والسرديات السائدة في المجتمع، كلّها عوامل ثقافية تشكّل الأرضيّة الأساسية التي على أساسها تصنع الدول استراتيجيتها. يشير كولن غراي إلى أنّه عندما نستند إلى «الثقافة الاستراتيجية» الروسية، فإنّ ما نؤكّده هو أنّ هناك طريقة روسية للتفكير في التهديد أو استخدام القوة والتصرّف بشكل استراتيجي، حيث إنّ «الثقافة» محرّك للفكر والسلوك معاً.

المستوى الجيوسياسي
يجادل جيلز جاليت، في كتابه «من أجل روسيا أوروبية ــــ الجغرافيا السياسية لروسيا في الأمس واليوم»، أنّ «كلّ شيء في التاريخ والصعود القوي لروسيا هو جيوسياسة: الأخطار القادمة من السهوب الآسيوية ثمّ التوسّع نحوها، ردّ غزوات تأتي من الغرب تهدّد بإخضاع روسيا، ثمّ البحث عن منافذ بحرية باتجاه الجنوب». لذا ليس من المستغرب أن تشكّل السيادة الروسية هاجساً وحساسيّةً عاليةً في التاريخ الروسي، ولذلك صمَّمت روسيا استراتيجيتها الجيوسياسية بالارتكاز إلى ثلاثة مسارح جيوسياسية لطالما سيطرت على عقلية قادتها منذ القرن السابع عشر:
الأوّل، الغرب ــــ من بحر البلطيق في شمال أوروبا إلى جبال الكاربات في أوروبا الوسطى. الثاني، الشرق ــــ من نهر الفولغا في غرب روسيا إلى جبال ألتاي في آسيا الوسطى.
الثالث، الجنوب ــــ من نهر الدانوب الذي يصبّ في البحر الأسود إلى الهضبة الفارسية في غرب آسيا.
ولكن، مع تطوّر نظريّات الجيوبوليتيك التي ارتكزت على أهمّية القوّة البرّية من الناحية الجيوسياسية، أصبح الهاجس الروسي ليس فقط الحفاظ على السيادة من الداخل، بل حماية الداخل من خلال درء مخاطر الخارج عبر القدرة على التدخّل في الوقت ذاته في هذه المسارح من أجل السيطرة العالمية على «قلب الأرض» (Heart Land)، وهو تعبير جيوسياسي أطلقه العالم الجغرافي هالفورد ماكيندر حول أهمّية القوّة البرّية في وجه القوة البحرية. إنّ هذا العامل الجيوسياسي إذا ما تمّ ربطه بمحاولات الغرب (نابوليون، هتلر) والجنوب (السلطنة العثمانية) والشرق (التتار، المغول)، استهداف روسيا، يمكّننا من فهم وتحليل التشدّد الروسي تجاه سيادتها وتفسير حاجتها إلى إبراز قوّتها خارج حدودها الوطنية من أجل أن تكون قوّة عالمية مستقرّة ومهمّة. هذا ما يفسّر بدوره الحذر الروسي الشديد تجاه «حلف شمال الأطلسي»، وتعميق الشراكة الاستراتيجية مع الصين وإيران، وتكثيف التعاون التكتيكي مع تركيا، وتضاعف نفوذها في سوريا... إلخ.

الهوية الثقافية
تؤدي الرقعة الجغرافية الكبيرة لروسيا دوراً أساسيّاً في تشكيل هوية الأمّة الروسية، حيث إنّ فرادة روسيا الجغرافية تكمن في أنّها تغطّي إقليماً واسعاً يتوسّط آسيا وأوروبا، الأمر الذي يجعلنا نتساءل هل روسيا آسيوية أم أوروبية؟ أم أنّ لها هوية خاصة بها؟ والإجابة الأكيدة يعكسها موقف ستالين الذي يرى أنّه «ليس صحيحاً البتّة بأنّ أوروبا وحدها يمكنها أن تبيّن الطريق لروسيا». في معايير اليوم، آسيا كذلك الأمر لا تُعدّ الطريق الوحيد الذي يبيّن الطريق لروسيا، هذا على الرغم من أنّ بعض السمات الثقافية الأوروبية والآسيوية لها أثرها النسبي في سلوك المواطن الروسي. لذلك جاء الميل عند الروس ليكوّنوا هوية «أوراسيّة» خاصّة بهم، وليشكّلوا أمّة مستقلّة تطالب بشكل خاص للحكم يرتبط بأرضهم وبالرغبة في تأسيس سرد تاريخي محوره الهويّة الوطنيّة وأبديّة الوطن مهما كان اسمه: موسكوفي، الإمبراطورية الروسية، الاتحاد السوفياتي، روسيا، الاتحاد الروسي.
بعض السمات الثقافية الأوروبية والآسيوية لها أثرها النسبي في سلوك المواطن الروسي، لذلك جاء الميل عند الروس ليكوّنوا هوية «أوراسيّة» خاصّة بهم


هذا العامل يفسّر هدف بوتين أن يجعل روسيا حرّة في خياراتها ولا يمكن تجاهلها. وكذلك يوضح لماذا روسيا تدعم الجماعات الانفصالية ذات الهوية الروسية (حالة دونباس مثلاً). وهذا ما يجعلنا قادرين على معرفة خلفية التعدّد الثقافي والإثني في روسيا التي تضمّ عشرات الشعوب الإثنية ذات التعدّدية الدينية. ومن هذا المنطلق نشأ الموقف الروسي الرافض للنظام الدولي القائم على الأحادية القطبية، حيث تعتبر روسيا أنّ لها مهمّة وطنية هدفها العمل على خلق نظام متعدّد الأقطاب يكون لموسكو تأثير فيه وليس هيمنة عليه.

الدين
تشكّل القيم الروحانية في أيّ ثقافة مخزوناً يؤثّر في التوجهات الخارجية لصانعي القرار. وعليه، فإنّ القيم الروحانية الأساسية حسبما يقول الباحث والدبلوماسي الروسي أرتيوم كابشوك «لا يمكن أن تموت مهما كانت الظروف السياسية والأيديولوجية، فهي عابرة للزمان والمكان وخاصّة أنّنا نتحدّث عن دولة ورثت الأرثوذكسية عن إمبراطورية روما الشرقية (القسطنطينية) بعد سقوطها على يد العثمانيين إلى درجة أنّه تبلورت في إمارة موسكو القروسطية رؤية روحانية ميتافيزيقية تصف موسكو بأنّها "روما الثالثة" كما صاغها الراهب الروسي فيلوفي بسكوفسكي في القرن السادس وهو يعيش في مدينة بسكوف العريقة في شمال روسيا».
وهذا ما يفسّر سعي بوتين، والعديد من المفكرين الروس، على رأسهم المؤرّخ ألكسندر دوغين، لتجسيد بديل من الغرب مؤسَّس على القيم التقليدية للحضارة المسيحية الأرثوذكسية في مواجهة غرب في حالة من الانحطاط غير الأخلاقي. ومن يقرأ التاريخ الفلسفي والأدبي الروسي يجد بلا مواربة البعد الروحاني في مجمل كتاباتهم. ومن يحلّل هذا البعد في توجّهات بوتين يلمس قدرته على توظيف الكنيسة للتأثير إيجابيّاً في الرأي العام العالمي.

الأيديولوجيا
قد يتساءل البعض كيف يمكن لحضارة ذات عراقة روحانية ودينية متجذّرة في نفوس أبنائها وفي تاريخها أن تتحوّل، بعد مخاض عسير، إلى حضارة مادّية لا تولي الجانب الروحاني أهمّية تُذكر، بل تصل في بعض الأحيان إلى ازدرائه لأسباب كثيرة. وهو سؤال مشروع في الحالة الروسية، ولكن يمكننا فهم هذا التحوّل من خلال الفهم العميق للثقافة الروسية. إنّ إيمان الشعب الروسي بالرسالة الإنسانية التي نادى بها العديد من الفلاسفة الروس وبـ«محكمة الضمير» الواجب عليها بتّ القضايا التي تنهض أمام المجتمع البشري، كان له كبير الأثر في قدرة روسيا على مواجهة التاريخ ومواجهة النمط الرأسمالي عبر قدرة الثورة البلشفية على تشييد نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي ينطلق من أيديولوجيا تُصنّف فلسفيّاً بأنّها ذات بُعدٍ إنساني وغائيّ بالمعنى الإيجابي للكلمة. وتجدر الملاحظة أنّ الشيوعية، أو بالحدّ الأدنى الاشتراكية بغلافها الماركسي، تجد سنداً تراثيّاً لها، وفق كابشوك، في الثقافة الشعبية الروسية لأنّ الاشتراكية الماركسية تعبّر عن رسالة مفعمة بالإنسانية والتقدّمية حيث يظهر في الأدبيات الفلسفية الروسية مصطلح «سوبورنوست» (Sobor-nost)، وهو مصطلح روسي فلسفي ديني يعني الجمعيّة أو التشاركيّة، أو حتّى الاشتراكية إن شئتم، وهو يشير في تأويله حسب الفلاسفة الروس إلى ضرورة السعي للوصول بالبشرية إلى الغايات العليا التي تحول دون تداعي الصفات الإنسانية، وهي عكس الثقافة الغربية التي ترى أن لا مجال لتطوّر الإنسان إلا عبر المنافسة وتحقيق الذات الفردية. إنّ الـ«سوبورنوست»، وفق هذا التحليل، مهّدت العقلية الروسية للتحضير للثورة في وقت أصبحت فيه الروحانية تضاعف التقاعس والخمول في الفرد الروسي، وهذا ما شكّل استعداداً ضمنيّاً في نجاح الثورة البلشفية والانتقال من حالة روحانية إلى حالة مادّية بحتة.
ملاحظة جديرة بالاهتمام: في خطوة بسيطة وعميقة الدلالات قام بها بوتين، نفهم، استناداً إلى ما يُمكن تسميته بـ«السيمولوجيا السياسية»، لماذا اعتمد بوتين منذ فترة رئاسته الأولى لحنَ النشيد الوطني السابق للاتحاد السوفياتي لحناً لنشيد روسيا الاتحادية، وشعار «النبّالة» للإمبراطورية البيزنطية شعاراً للدولة الروسية، هذا الشعار الذي استخدمه إيفان الثالث في عام 1497، وذلك للدلالة على أنّ روسيا جديدة قادمة من مجد إمبراطوريّتين، لا تقطع الصلة مع تاريخها السياسي والثقافي ولا تنأى عنه، لأنّها النتاج المعاصر لدياليكتيكيات تاريخها القديم والحديث كجدلية الهوية القارّية/ الهوية الأممية، أو جدلية الروحانية/ المادّية أو جدلية المحافظة/ الحداثة الليبرالية.

عهد بوتين
في محاولة لتقريب الصورة، تشكّل المقاربات المفاهيمية المختلفة، التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ترجمةً مهمّة لدور «الثقافة الاستراتيجية» في السلوك الخارجي للدول. فالانهيار خلق تغيّرات كبرى تطال جميع الأصعدة، السياسية والاجتماعية والثفافية والدينية والفكرية، حيث كادت مثلاً «نخبة الديموقراطيين الروس الجدد»، عبر تبنّيها لأوهام الديموقراطية و«الأوربة»، أن تزجّ بالتاريخ الروسي وعمقه الفكري والاستراتيجي خلف قضبان «الأمم المتحضّرة» سعياً منها في نفض غبار الماضي والخروج إلى العالم بهويّة جديدة مشرقة. وأصبح الدوران في فلك الأميركي والانضمام إلى البيت الأوروبي المشترك الشغل الشاغل لغورباتشوف ويلتسين. لكن، لا يمكن لمجتمع كالمجتمع الروسي أن يموت مهما كانت الظروف السياسية والاجتماعية والأيديولوجية. المؤكّد اليوم أنّ المجتمع الروسي ظلّ يترنّح إلى أن جاء عهد بوتين.
كلّ تلك العوامل، إذا ما تمّ وضعها ضمن إطار نظري يشرح ويفسّر السلوك الخارجي للدول، تساعدنا على فهم السياسة الخارجية الروسية ودوافعها. وعليه، إنّ روسيا تتبع سياسة خارجية حازمة ومستقلّة تسترشد بمصالحها الوطنية لتحقّق أولوياتها الاستراتيجية، وأهمّها ضمان الأمن الوطني والسلامة الإقليمية وتعزيز موقع روسيا في العلاقات الدولية.
إنّ ما تحاول روسيا تأكيده في ممارساتها الحالية، وعبر وثائق سياستها الخارجية، هو أنّها عادت، صحيح أنّها أقل من قوة عظمى ولكن المؤكّد أنّها أكبر من قوة إقليمية، فهي أصبحت فعّالة وعلى مستوى ما تدّعيه، هذا من جانب، ومن جانب ثانٍ فإنّ روسيا، من حيث استخدام القوّة، قادرة على دعم مواقفها بخلاف مجرّد استخدام الفيتو، وهي عادت لتدخل اللعبة الاستراتيجية في المنطقة لأنّها أصبحت لاعباً رئيسياً في المفاوضات الهادفة إلى حل سياسي ولقدرتها على المشاركة في إعادة رسم النظام الدولي المنشود القائم على التعدّدية القطبيّة.

* كاتب لبناني