ثمّة محدّدات لما يمكن اعتباره موقفاً من الحرب حين تتجاوز الأطر الإقليمية وتتحوّل إلى صراع دولي بأدوات يمكن أن تكون مدمّرة لأجزاء كبيرة من العالم. هذا لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية، حيث أفرز النظام الدولي المنبثق من الحرب، حينها، أدواتٍ سياسية وديبلوماسية واقتصادية للتعامل مع النزاعات، وحصرِها في أطر محدّدة، لكي لا تشكّل، في حال خروجها عن السيطرة، تهديداً لأمن «العالم» وسلامته. الاستثناء الذي مثلّته حروب الولايات المتحدة وتدخُّلاتها في دول العالم الثالث لم تمنع استمرار العمل بهذا النظام، حتى لو لم يكن قادراً على تقييد هذه التدخّلات، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأفول حقبة التوازن العالمي بين القوّتين العظميين. انفلات القوّة الأميركية من دون رادع بعد هذه الحقبة جعلت العالم يعيش، وخصوصاً في النصف الجنوبي منه، على إيقاع الانهيارات المتواصلة في بنى الدول والأقاليم التي كانت متحالفة مع الاتحاد السوفياتي السابق، من يوغوسلافيا إلى العراق، وصولاً إلى أفغانستان، وحتى ليبيا وسوريا واليمن، إذا اعتبرنا ما حصل في الإقليم هنا امتداداً لهذه الانهيارات ولكن بأدوات مختلفة. تزامُنُ كلِّ ذلك مع محاولة روسيا، انطلاقاً من التدخّل في جورجيا في عام 2008، استعادة نفوذها على محيطها الإقليمي، جَعَل الصراع يبدو وكأنّه على وشك، ليس استعادة ضوابطه السابقة، بالضرورة، حين كان ثمّة رادع للقوّة الأميركية، وإنما تحريكه جغرافياً بحيث لا يبقى محصوراً بإقليمي غرب آسيا و«الشرق الأوسط» اللذين مثّلا حلبته الوحيدة لأكثر من ثلاثين عاماً. الانسحاب الأميركي من المنطقة لمصلحة التركيز على احتواء الصين عزّز من هذه الوجهة حتى جغرافياً. وبدا، أقلّه منذ عام 2014، حين اندلع الصراع في الدونباس، أنّ العالم متّجه، ليس لمواجهة مباشرة بالضرورة، وإنما لاستعادة تقليد «الصدام الصلب» أو الخشن بين القوى العظمى، بعدما استنفدت «حروب البروكسي» على أراضي الجنوب العالمي، بينهما، صلاحيّتها.
تعقيد المشهد
الصورة التي تصلنا حالياً عن الحرب بهذا المعنى تبدو مختلفة عما اعتدناه سابقاً حين كانت التدخّلات العسكرية محصورة بالولايات المتحدة. الموقف من الحرب بحدّ ذاته يبدو إشكالياً، لأنّ الطرف الذي يتدخّل هذه المرة ليس الغرب، ولأنّ التبعات لا تقع على عاتق ضحاياه التقليديين في دول الجنوب. القضية هنا التي تتمثّل في معارضة الحرب ليست موجودة بالقدر نفسه، وليست بديهية أيضاً، حيث المشاهد التي تصلنا، مع كلّ التعتيم الذي تمارسه الدعاية الغربية المناوئة لروسيا، تعكس انقساماً كبيراً، حتى داخل أوكرانيا نفسها، بين أكثرية نسبية تعارض روسيا، وأقلّية نسبية أيضاً في الجنوب الشرقي تؤيّدها. حتى إنّ الدمار الناجم عن الحرب، ومعه مآسي النزوح واللجوء، تبدو، هي الأخرى، بعيدة من صورة الإجماع المُراد لها، غربياً، أن تكون في مواجهة روسيا حصراً. فاللجوء إلى دول البلطيق في الطريق إلى أوروبا، من وسط وغرب أوكرانيا، يقابله اللجوء إلى روسيا من جنوبها الشرقي، حيث عنف المعارك يبدو أوضح، بسبب طبيعة المواجهة هناك التي تشهد التحاماً مباشراً أو قتالاً قريباً، أي بخلاف التقدّم الروسي نحو الغرب والجنوب، والذي يبدو من جانب واحد ولا يشهد حدّة مماثلة في المواجهات المباشرة. هذا لا يجعل مهمّة الغرب سهلة في التسويق للحرب على أنها مجرّد عدوان من روسيا، فالمشهد هناك ليس بهذه البساطة وإن كان نصيب الروس من الحضور، كطرف فاعل عسكرياً في المشهد أكبر، لجهة حجم الترسانة العسكرية، وحتى القوّة النارية التي لا تبدو متناظرة مع تلك التي يواجه بها الأوكرانيون خصمهم. الضحية هنا تأخذ أشكالاً مختلفة، حتى لو غلَبت عليها صفة التموضع في مواجهة الروس، بحكم حجم الإجماع الغربي، حيث تبدو السردية الغربية، ومعها أجزاء من اليسار التي اعتادت معارضة كلّ الحروب، حائرة، ليس في توصيف المشهد بحدّ ذاته، بل في بناء الإجماع حوله، وسط كلّ هذا الالتباس في فهم ماهيّة هذه الحرب.

مأزق وقوع الحرب في الغرب
الالتباس يبدأ من موقع الحرب، جغرافياً، حيث لم تعتد السردية الغربية، بسهولة، على حروب لا تقع خارج الجنوب العالمي. أي بعيداً من نطاق أمنها وسيطرتها، وحتى تراكم الثروة فيها الذي يحصل بسبب حصر التدخّلات بالجنوب وحده. وقوع الحرب في الغرب، وليس في الجنوب، حَسَم منذ البداية الموقف من روسيا، ليس فقط لدى السلطات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة، بل أيضاً لدى معظم النخب هناك حتى اليسارية منها.
النخب الغربية التي تبدو غاضبة جداً من روسيا بسبب نقلها الحرب إلى «ديارها» لم تكن لتأخذ الموقف ذاته لو كان التصعيد الحالي حصل في سوريا مثلاً أو في العراق


وهو ما جعل الإدانات جميعها، حتى تلك التي تبدو صادقة في تضامنها مع ضحايا الحرب ولاجئيها، مجرّد تنويعات على الموقف المُسبَق الذي لا يتصوّر وقوع الحرب، حتى كإمكانية أو احتمال، داخل الغرب. صحيح أنّ ذلك سهّل على الدعاية الغربية عملها في حشد المواقف ضدّ روسيا، وخصوصاً لدى النخب، ولكنه لم يدَع السردية تتطوّر وجمّدها عند لحظة معيّنة. فهي، بخلاف نظيرتها ضدّ الحروب الأميركية في الجنوب العالمي، غير قائمة على معطيات تتجاوز المصلحة المباشرة، أو لِنَقُل الامتياز الغربي، الذي يجعل من الموقف التقدّمي هناك من الحرب سهلاً، أي من دون كلفة مباشرة يدفعها صاحبه من حياته ورفاهيته وامتيازاته و... إلخ. هذا لا يعني أنّ حرب روسيا «نظيفة» بالضرورة أو من دون ضحايا، ولكن الموقف منها ليس بسهولة الموقف من حروب الولايات المتحدة. إذ تقع الكلفة في الحالة الأميركية، بمجملها، على شعوب تلك الدول التي حصلت الانهيارات فيها، بوتيرة أكبر بكثير من تلك التي تحدث حالياً في أوكرانيا، وبقدر من الدمار يعادل ما تجنيه الدول الغربية من ثمار تراكمها الرأسمالي حتى عبر الحرب على شكل رفاهية كبرى وتدفُّق لا متناهي للسلع والخدمات. هذا إذا لم نقل أنّ ما يصل من التراكم ذاك إلى أوكرانيا وبقية دول أوروبا الشرقية المؤيّدة لها حالياً في مواجهة روسيا لا يتعدّى الفتات، بسبب طبيعة علاقتها بالغرب المحكومة بدورها بثنائية شمال - جنوب الجغرا-طبقية. أي لجهة تدفُّق العمالة وحدها من هناك، من دون السلع والخدمات التي تعود على شكل فائض قيمة، بعد إنتاجها ومعاودة توريدها شرقاً وجنوباً، حيث السوق التي تختصر العلاقة بين الرأسمالية الغربية وأطرافها، حتى داخل أوروبا.

مركزية الموقف من الحرب غربياً
عدم الإلمام بالطبيعة الفعلية لهذه العلاقة يسهّل حصول التموضع أعلاه لدى النخب، حتى تلك التي تبدو تقدّمية للغاية في معارضتها لحروب الولايات المتحدة. التموضع بهذا المعنى هو مكوّن أساسي في الحرب الحالية، لأنّ النخب الغربية التي تبدو غاضبة جداً من روسيا بسبب نقلها الحرب إلى «ديارها» لم تكن لتأخذ الموقف ذاته لو كان التصعيد الحالي حصل في سوريا مثلاً أو في العراق. أي حيث الكلفة أقلّ بكثير، وحيث الشعوب هناك «اعتادت»، أقلّه منذ سنوات، على الحرمان من الرفاهية التي تبدو بالنسبة إلى النخب الغربية شرطاً لإطلاق المواقف من هذه الحرب أو تلك. والحال أنّ جذريّة الموقف هنا تبدو أكبر، إذ بخلاف التضامن اللفظي مع ضحايا الحروب الأميركية في الجنوب، تقوم الإدانة الحالية على عناصر، يدخل في صُلبها الدفاع عن النفس، ومعه نمط الحياة والمكتسبات والامتيازات، وخصوصاً لدى النخب. فيصبح الموقف من الحرب موقفاً من نقلها إلى الغرب أو إلى أطرافه الشرقية، أكثر منه اصطفافاً إلى جانب الضحايا واللاجئين. وهو ما يجعله، ليس فقط أقوى من نظيره الخاصّ بالحروب الأميركية، بل أيضاً ذا بنية عضوية أكثر، لأنّ الذود عن الحدود الشرقية لأوروبا أو «الناتو»، حتى لدى نخب الاشتراكية الديموقراطية في اليسار الأوروبي، هو بمثابة دفاع عن النفس وعن التصوّر الغربي المركزي للعالم، سواءً بالمفهوم الجيوسياسي أو الاقتصادي أو حتى الثقافي. الأمر الذي يفسّر أيضاً، من ضمن أمور أخرى كثيرة، حجم الاستبعاد الذي تتعرّض له النخب الثقافية الروسية حالياً هناك. إذ يبدو كانعكاس، ليس للدعاية الغربية ضدّ روسيا بحدّ ذاتها، بل للتصوّر نفسه الذي لا يعترف بوجود نخب أو ثقافة مُنتَجة خارج فضائه المركزي. والحال أنها ليست مساهمة فعلية، لأنها ستكون مشروطة بالموقف السياسي حين تنقلب الأمور كما يحدث حالياً، وتبدأ مطالبة هؤلاء بحسم موقفهم جذرياً. أي لجهة التموضع تماماً ومن دون أيّ تمايز داخل، ليس فقط الفضاء الثقافي الغربي، بل كذلك التصوّر الغربي الأيديولوجي للعالم، بما في ذلك الموقف من روسيا كنظام حكم وأمّة وشعب، وليس من تدخّلها في أوكرانيا فحسب.

خاتمة
الحرب في أوكرانيا هي، بالإضافة إلى كلّ ذلك، حصيلة جيوسياسية، ليس فقط لصعود روسيا وتراجُع الولايات المتحدة، بل أيضاً للانزياح الحاصل في جغرافيا الحروب، من الجنوب حيث «الشرق الأوسط» وغرب آسيا، إلى الشمال الواقع شرق أوروبا. وقوعها في الحلقة الأضعف هناك، أي في أوكرانيا، لا يجعل مركزيّتها أقلّ بالنسبة إلى الغرب، بدليل استشراسه في حرب العقوبات ضدّ روسيا، إلى درجة تحويلها إلى بديل عن الحرب المباشرة معها. روسيا، من جهتها، لا تستطيع مجاراة الغرب في استعمال أداة العقوبات، على اعتبار أنها لا تمثّل الكثير اقتصادياً، على مستوى الناتج الإجمالي العالمي، ولذلك تبدو الحرب التي تخوضها عند حدودها الغربية تقليديّة أكثر، وهو ما يذكّر الغرب بحقبة تدخّلاته غداة انتهاء الحرب الباردة. الاقتصاد الروسي، الصغير نسبياً قياساً إلى نظرائه في الولايات المتحدة وألمانيا وحتى فرنسا، يستطيع أن يحتمل حرباً في جواره لحماية الدولة هناك من توسّع «الناتو» شرقاً، ولكن منظور موسكو للحرب إجمالاً، لا نقول ضيّق، بقدر ما هو جيوسياسي بحت. أي أن تدخُّلها عسكرياً في هذه الدولة أو تلك غير مرتبط بعملية التراكم الرأسمالي التي لا تقع حرب بقيادة الغرب خارج إطارها، ولا يمكن أصلاً فهم الدينامية التي تنكفئ الولايات المتحدة بموجبها عسكرياً إلا في ضوء حاجة اقتصادها لذلك. عدم توافر هذا العامل في روسيا، لأسباب اقتصادية، يضع ليس فقط الحرب الحالية بل أيّ حرب ستخوضها في المستقبل ضمن أفق محدود حكماً، أي بالمعنى الدفاعي أو الردعي، سواءً جغرافياً أو جيوسياسياً أو عسكرياً. بهذا المعنى هي ليست حرباً نظيفة ومن دون ضحايا، وفيها الكثير من الالتباسات التي تجعل خصومها أكثر من مؤيّديها، ولكن وضعها في الخانة نفسها مع حروب الغرب يزيد من التباسها أكثر بحيث يصبح المعيار الوحيد لفهمها هو المركزية الغربية التي يجري تقويم الحرب وبناء السردية حولها انطلاقاً منها وحدها.
* كاتب سوري