رغم أن العراق دولة كبيرة الحجم وعظيمة الموارد، مع سكان يبلغون 36 مليوناً وناتج قومي يصل إلى 250 مليار دولار سنوياً، إلا أن القدرات العسكرية والأمنية للحكومة العراقية اليوم، بعد 11 عاماً على حل الجيش العراقي السابق والأجهزة الأمنية وإعادة تشكيلهما، ما زالت محدودة وغير قادرة على مواجهة التحديات المتصاعدة التي ظهر أبرزها أخيراً في سيطرة الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» على مدينة الموصل، ثاني حواضر العراق ومركز محافظة نينوى التي تهاوت في اليوم نفسه على أيدي التنظيم المتطرف.
ما يزال غامضاً كيف كتب لداعش مثل هذا الانتصار السهل؛ وفي ظل غياب التفسير المنطقي لهذا الانتصار لا يمكن تقديم توقع منطقي دقيق للأحداث المقبلة. تحديداً، إذا كانت داعش فعلاً قادرة على الاستيلاء على محافظة نينوى وهي تنوي فعلاً التوجه شرقاً نحو محافظة صلاح الدين شمال بغداد فلماذا تقوم بسحب الآليات التي استولت عليها باتجاه الغرب عبر الحدود السورية؟ هل كان الانتصار في نينوى مجرد ضربة حظ تستبعد داعش إمكانية تكرارها، وربما تتحسب للخروج من نينوى، فقررت لذلك التصرف بشكل براغماتي من خلال التهديد بالتقدم بحيث تكون هذه التهديدات مظلة مناسبة لها لكي تسحب بأمان العتاد والغنائم التي استولت عليها من نينوى. يقال إن بين هذه الغنائم عدد من المروحيات والصواريخ والمركبات المدرعة جرى الاستيلاء عليها في القواعد العسكرية إضافة إلى حوالى 450 مليون دولار كانت في أحد مصارف نينوى.

بقيت المعارضة
تعوّل على خطاب «الثورة» الذي أفلس عملياً

غموض خطوة داعش المقبلة تجعل من الصعب على الحكومة العراقية التحرك لمواجهة داعش: فالتحرك الدفاعي لصد هجوم داعش في مدن بيجي وتكريت وسامراء في محافظة صلاح الدين يختلف عن التحرك الهجومي لاستعادة نينوى. والأكيد، على أي حال، أن الجيش العراقي ما زال يفتقر للقدرات اللازمة لمواجهة داعش والفصائل الأخرى التي قد تنشط مستغلة حالة الفراغ الناشئة، مثل بقايا البعثيين الذين يقال إنهم انتشروا أيضاً في الموصل، أو البشمركة الذين يقال إنهم طردوا الجيش العراقي من مقاره في مدينة كركوك، في محافظة التأميم، التي كانت دوماً موضع خلاف بين بغداد وأربيل. فالجيش العراقي اليوم، ورغم ميزانيته الكبيرة البالغة نحو 18 مليار دولار وبأفراده الذين يناهزون نحو 300 ألف، ما زال يفتقر للعتاد البري والجوي المناسب إذ يوجد اليوم حوالى 350 دبابة فقط، وبضع طائرات مروحية مقاتلة لا يزيد عددها على عدد أصابع اليد الواحدة، وطائرة وحيدة من طراز إف-16 وصلت منذ حوالى أسبوع واحد فقط، ولن يصل عدد هذه الطائرات إلى خمس إلا مع نهاية هذا العام. إن ضعف إمكانيات الجيش العراقي، من ناحية العتاد، مع الغموض المهيمن على ما يحصل في محافظات نينوى وصلاح الدين والتأميم، يقود إلى استنتاج شبه أكيد مفاده أن الحكومة العراقية بحاجة للاستعانة بقوة عسكرية خارجية، وعلى وجه الخصوص بقوة جوية خارجية. فغياب التغطية الجوية التي تؤمن سماء المعركة وتؤمن استهداف أرتال داعش كانت هي السبب الرئيسي في انسحاب القوات العراقية التي وجدت نفسها وحيدة فجأة في وجه داعش. والحكومة العراقية كانت قد طلبت، على لسان المالكي، بشكل غير مباشر، المساعدة من الدول الصديقة للتصدي لداعش. وهناك أربع قوى على وجه التحديد قادرة على تقديم مثل هذه المساندة العسكرية وهي: الولايات المتحدة وتركيا وإيران وسوريا.
أولاً، إن الولايات المتحدة ما تزال مرتبطة باتفاقية أمنية مع الحكومة العراقية وهي تملك قوات جوية قريبة جداً في القواعد التركية في أنجيرلك وغيرها، إضافة إلى قواتها في قاعدة السيلية في قطر. ولكن إذا ما وضعنا جانباً تعقيدات النقاش حول إمكانية أن تستعين بغداد بالقوات الأميركية وما يمكن أن يثيره هذا من عواصف سياسية، وقررنا أن نركز حصراً في الناحية العسكرية، فإن هذه الناحية لها أيضاً تعقيداتها المركبة. فالخصم الذي يجب استهدافه اليوم، بالدرجة الأولى، هو داعش الذي تمتد مناطق نفوذه بين نينوى والأنبار العراقية وصولاً إلى دير الزور والرقة السورية. كيف يمكن استهداف مثل هذا التنظيم من دون أن تدخل الطائرات الأميركية – سواء المأهولة أو غير المأهولة – المجال الجوي السوري؟ خصوصاً أن داعش، بحسب آخر الأخبار الإعلامية، قامت بإزالة السواتر الرملية في أكثر من موقع على الحدود بين نينوى والحسكة وأن القوات العراقية، أو بعضها على الأقل، قد انسحبت من الحدود مع سوريا عند القائم. من المستبعد أن تثق سوريا بمثل هذه الخطوة الأميركية حتى إن تمت ضمن إطار قرار من مجلس الأمن، فالسابقة الليبية ما تزال حاضرة في أذهان الروس قبل السوريين. إضافة إلى أن الولايات المتحدة نفسها لم تظهر حماساً ملموساً للتحرك لمساعدة بغداد ولا يعلم إن كان السبب هو أن واشنطن ليست متحمسة لانتشال المالكي، الذي لم يبدي حرصاً على حماية المصالح الأميركية، أو أن واشنطن لا تريد فعلاً إضعاف داعش لكي لا تساعد، ولو بشكل غير مباشر، الحكومة السورية، أو أن واشنطن، كما عرفناها، ما تزال تنتظر ثمناً ما لكي تتحرك.
ثانياً، أما تركيا فقد أظهرت حالة من التأهب عقب الأنباء عن اختطاف قنصلها في الموصل، ومعه ما يصل إلى حوالى 70 من المواطنين الأتراك، على يد داعش، وطالبت الناتو بالانعقاد لتدارس الوضع في العراق. التدخل التركي إن حصل في العراق فسيكون عنوانه وسقفه إنقاذ الرهائن الأتراك، وهذه مهمة تحتاج إلى عملية للقوات الخاصة التركية على الأرض، ومثل هذه المهمة صعبة الآن في ظل الغموض الميداني السائد. أما التدخل التركي الجوي، من خلال ضرب مواقع داعش، فهو مستبعد لأنه يعني المخاطرة بحياة المختطفين الأتراك. والأغلب أن تركيا ستلجأ إلى المخابرات وقنوات التفاوض مع داعش لضمان إطلاق سراح المختطفين على نحو شبيه بما فعلته لإطلاق سراح الطيارين التركيين المحتجزين في لبنان. وفي كل الأحوال، لا يبدو أن التحرك التركي، إن حصل، سيصل إلى حد المشاركة في عملية سقفها استعادة نينوى وحماية بغداد.
ثالثاً، لا يخفى على أحد أن إيران هي الحليف الأقوى لحكومة المالكي وهي تنظر بقلق إلى عمليات داعش الأخيرة الساعية إلى التقدم باتجاه بغداد وباتجاه سامراء. هذه الأخيرة تعرضت الأسبوع الماضي لحملة من داعش كانت تسعى لاحتلال مرقد الإمامين العسكريين، وتعتبر إيران هذه العمليات محاولة من بعض القوى الإقليمية لاحتواء النفوذ الإيراني في العراق من خلال إغراقه بالحرب الأهلية السنية ـ الشيعية. ولكن خيارات إيران لإنقاذ المالكي، عسكرياً، محدودة وصعبة بالنسبة لإيران ومكلفة سياسياً بالنسبة للمالكي، الذي ما فتئ يحاول خلال السنوات الماضية أن ينفي التهم الموجهة له بأن أداة إيران في العراق وأن فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني وغيرها تعمل في العراق بغطاء منه. فكثير من العراقيين مازالوا يعتبرون إيران خصماً لهم ولم ينسوا الحرب المريرة التي دارت معها في الثمانينيات. ودخول سلاح الجو الإيراني بشكل مباشر إلى ساحة المعركة قد يثير الكثير من تلك الحساسيات القديمة. وهذا التدخل إن نجح في هزيمة داعش على المستوى التكتيكي القصير الأمد فهو سيقدم لها، ولباقي التنظيمات السنية المتطرفة، خدمة استراتيجية على المدى البعيد. الاستعانة بإيران، عسكرياً، قد تنجح في توفير التغطية الجوية التي يحتاجها الجيش العراقي ولكنها قد تعني القضاء على آمال المالكي السياسية في البقاء على رأس الحكومة في بغداد.
رابعاً، سوريا هي شريك العراق في مصابه وفي صراعه مع داعش التي تسعى لاقتطاع أراضي من سوريا والعراق لإقامة دولتها المنشودة، والتي أصبح اسمها يذكر اليوم متبوعاً بعبارة «باقية وتتمدد»، ولذلك فإن سوريا، من بين القوى الأربع المذكورة، هي صاحبة المصلحة الأولى في كبح تقدم داعش، الآن، واحتوائها والقضاء عليها، لاحقاً. فالتدخل بالعراق اليوم هو مصلحة سوريا. ورغم أن الجيش السوري منشغل، إلى حد كبير، بالحرب الجارية على الأرض السورية، إلا أنه قادر على تقديم المساعدة الجوية، أو الصاروخية، اللازمة للقوات العراقية البرية لكي تباشر عملياتها ضد داعش. والتدخل في العراق يخدم المصالح السورية التكتيكية والاستراتيجية على حد سواء. فهذا التدخل سيظهر أن الجيش السوري، وبعكس ما يروّج إعلامياً، ما زال قوياً ومتماسكاً وقادراً على العمل حتى خارج الحدود السورية. ومثل هذه المشاركة ستظهر أن سوريا ما تزال قادرة على لعب دور إقليمي فاعل وقادرة على تحقيق التوازنات التي يعجز الغير عنها. والتصدي لداعش في العراق يعني تأكيد أن الجيش السوري إنما يواجه الإرهاب، على أرضه وفي العراق، وأن هذا الإرهاب قد أصبح يشكل خطراً تعجز الدول التي ساندته عن احتوائه. وبالطبع إن التصدي لداعش في العراق يعني إضعافها في سوريا وفي هذا مصلحة استراتيجية لسوريا. وأخيراً، ولو كان هذا موضوعاً ثانوياً للغاية، ستثبت مشاركة الجيش السوري بالتصدي لداعش داخل الأراضي العراقية أن هذا التنظيم ليس من صنيعة النظام السوري، طبعاً في حال كان هناك من يعتقد بهذا.
في الختام، لا بد من التأكيد أن المذكور أعلاه لا يعتمد على تسريبات أو مصادر خاصة بل هو مجرد تحليل للوضع الراهن في العراق ولموازين القوى ولخيارات الحكومة العراقية. خيارات الحكومة العراقية بالاستعانة بالخارج ستكون مكلفة لها ولكن الخيارين الأقل كلفة بين الخيارات الأربعة السابقة هما خيارا الاستعانة بالولايات المتحدة والاستعانة بسوريا. هما خياران متناقضان تماماً، ولكن أليست هذه هي طبيعة عالمنا اليوم؟
* كاتب سوري