لعلنا، نحن العرب، كنّا أول من ابتدع خطاب المظلومية تجاه "المجتمع الدولي"، والشكوى من الأمم المتحدة وعجزها، والقول أنّ قوى العالم تنحاز ضدنا، و"ترى بعين واحدة"، ولا تعترف بانسانيتنا ومعاناتنا. ولكننا، في حالات فلسطين والعراق وغيرها، كنّا نفهم أن "المجتمع الدولي" هو كناية عن القوى العظمى والغرب والأقلية التي تحكم الكوكب ومؤسساته، وكنّا نعي، في المقابل،أنّ أكثرية العالم وشعوبه هي، بالمعنى الديمقراطي والعددي، "الى جانبنا" ــــ من الصين الى الهند والجنوب العالمي. وأنّ الغالبية الكونية التي، مثلنا، لا تملك صوتاً أو قراراً تتعاطف مع الفلسطينيين، وتشاطرنا نظرتنا الى الهيمنة الأميركية، ويجمعنا بها، لأسباب بديهية وانسانية، رابطٌ وتماهٍ، على اختلاف الجغرافيا والثقافة والدين (حتى في داخل الغرب المهيمن، كنا نقيم تمييزاً بين الأنظمة والشعوب، ونراقب، فيما جيوش الغرب تغزو بلادنا، مظاهرات حاشدة في تلك العواصم تعارض حكوماتها وتدعم، وإن معنوياً، موقفنا وتؤيده).
أمّا حين تقوم النخب المشرقية التي يرعاها الخليج باستنساخ هذا الخطاب (على عادتها في سرقة كلّ قضية ومبدأ وشعار من تراثنا ومسخها وتحقيرها، من "الثورة" الى "الحرية" وصولاً الى "الانسانية" و"العروبة")؛ وتردد، بتفجّعٍ، لازمة أنّ "العالم كلّه ضدنا"، وأن الشرق والغرب يتآمر علينا، وليس في الدنيا كلّها من "يفهمنا" (الا سلالات الخليج وابناء الظواهري)، فالمشكلة هنا، على الأرجح، هي فيك انت، وليست في "العالم".
هذا يذكّر بمجموعة مقالاتٍ أصدرها كتّاب عربٍ في السنوات الماضية (هم الجناح "العلماني" و"اليساري" لأسوأ حركة في تاريخنا) بعضها يعتب على اليسار الغربي لأنّه لم يعتنق مذهب "الثورة السورية"، وبعضها الآخر يكتشف، بنشوة، أن اليمين الأوروبي ومتطرفيه يدعمون أعداء "الثورة"؛ وهم لا يفهمون أنّ المسألة هي أنّ الجميع في الغرب على المستوى الشعبي (يميناً ويساراً ووسطاً) يقف ضدّهم ولا يتحمس لهم ولا يرى ما يرون. وهذه المواقف لا علاقة لها بقلّة الانسانية أو كراهية الإسلام، فداعمو "الثورة" في الغرب كانوا ــــ حصراً، وحتى لا يمثّل أحدٌ دور الضعيف المتروك ـــ النخب الحاكمة والإعلام السائد والأجهزة الأمنية (ادارة كاميرون واوباما وهولاند مثلاً، ومعها الإعلام، طالبت بضرب سوريا، ووقف في وجهها البرلمان والضغط الشعبي).
حالة "سوء الفهم" هذه سوف تتكرر وتزداد في المستقبل، لأن الإعلام الخليجي الذي صار يتحكّم ــــ على هواه وهوى الأمير ــــ بجمهورٍ أكثره لا يملك وسائط بديلة، ولا يتقن لغات أجنبية، ولا يعرف ماذا يُكتب وينشر في العالم الخارجي، قد خلق فقاعةً تحيط بنطاق السيطرة هذا؛ لها منطقها الخاص وتاريخٌ خاصّ بها، وسرديات لا يتحداها أحد، وهي، حين تصطدم بالواقع وبحقيقتها، تستولد مظلومية من أسوأ صنف (لأنها لا تستقيم مع وقائع، ولا مع مبادىء، ولا مع عقيدة؛ وهي من نمط الذي "يطالب" الغرب بالدعم وهو يدعي انه ضحيته، ويخطب عن أخلاقية قضيته من حضن أسوأ أنظمةٍ في العالم، ويُصدم بأن الرأي العام والمثقفين لا يرون في الإيديولوجيا الإبادية وأفعال القتل الفظيعة "ردّة فعل" انسانية طبيعية، عليهم تفهّمها والتماهي مع أصحابها).
في بلدٍ صغير كلبنان، تتبدّى هذه الديناميات بوضوح حين تُجمِع شخصيات الإعلام و"الثقافة"، كالجوقة، على موضوعٍ واحد، لقول كلامٍ واحد، وتكرار الرسالة نفسها، سواء كبر الموضوع أو صغر، وكان عن ميشيل سماحة أو مضايا أو "التماثيل الايطالية"؛ فتستعرض "شجاعتها" ونقديتها وتأخذ "موقفاً أخلاقياً" صارماً. زيارة الرئيس الايراني الى ايطاليا كانت مثالاً لطيفاً: الغريب هو ليس أنّ من شارك في "الحفلة" لم يتمعّن في وقائع بسيطة (مثل أنّ روحاني قد اختار زيارة متحف ايطالي وهو، بلا شكّ، يتوقع أنه سيصادف بعض المنحوتات)، أو أنّهم يثبتون أنّ في امكان أي كان ــــ من المخابرات الأميركية الى من هو أتفه بكثير ــــ زرع أيّ رسالة بينهم وجعلها همّهم المحوري (فلا نعرف شيئاً عن الزيارة، والاتفاقات التجارية، ولقاء البابا، الّا مسألة التماثيل اياها)؛ الغريب هو أن "المثقف"، بينما يمارس هذا الطّقس "القطيعي" بإخلاص ويشارك في نشر البروباغاندا، يرى نفسه ــــ بصدق ــــ "نقدياً" وفريداً.
ما هو أغرب يتلخّص في أنّ قضية هؤلاء، وإن كانت روايتهم صحيحة ــــ وكان روحاني هو من طلب تغطية التماثيل، وكان يعتبرها حراماً، وكلّ هذا ــــ هي قضية سيئة ورديئة وتدلّل على مفهوم غريبٍ عن الثقافة والفن. حتى نكون واضحين: ليس في أن ترفض رؤية تماثيل أو عملٍ ما، سواء لأنها تتعارض مع دينك، أو لأنها تخدش ذوقك، أو لأي سبب آخر، أيّ إشكالٍ؛ ولا يمكن اعتبار ذلك ــــ في ذاته ــــ موقفاً يعادي الفنّ أو يستدعي اعتذاريات. ومن يعتبر أنّ المقياس هو في أن تنتهك معتقدك حتى تستهلك الفن، أو أن ترغم نفسك على رؤية وفعل ما لا تريد، يعكس مفهومه المشوّه عن الثقافة وحرية التعبير (المقياس هو، ببساطة، في أن لا تمنع غيرك عن التعبير والإبداع).
منذ قرنين، صاغ جان جاك روسو تمييزاً فلسفياً بين صنفين من حبّ الذات (amour de soi وamour propre)؛ الأوّل يحيل الى نوعٍ "بدائي" من الأنانية، يسبق المجتمع المتحضّر، كأن يسعى المرء الى مصلحته وأمنه وسعادته، وهو في رأي روسو طبيعي و"صحّي" ولا عيب فيه. النمط الثاني هو حبّ الذات بالمعنى "الاجتماعي"، حين يرتبط بنظرة الآخرين الينا، ومقارنتنا بهم، وعداواتنا معهم، وهو يبرز مع صعود الحضارة والمدنية. هذا النمط الثاني هو، في رأي روسو، ما يجلب الشرّ والعدوانية والحقد، لأنه يستبدل الحاجات "البريئة" والطبيعية، التي يمكن أن يجتمع عليها الناس ويتفقون، بالتنافس مع الآخرين والهيمنة عليهم والغيرة منهم. من يحبّ نفسه عبر غيره يتوه عن الأهداف البسيطة العقلانية، كالسعادة والحرية والاكتفاء والحب، ويصبّ هوسه على تدمير الذي يقف، في رأيه، عائقاً بينه وبين سعادته وحريته؛ فيصبح هذا الكره، في ذاته، هدفاً ومنتهى. وحين نصادف نخباً عربية (على "اليمين" وعلى "اليسار") تفهم العداوة على أنها مشروع سياسي، وتقتات من وهم المظلومية، وتعمل في صنع البروباغاندا، قد يكون في كلام روسو، الى جانب المال والمصلحة، وهي دوماً الأساس ــــ ما يفسّر ويشرح.