«لقد عاهدونا ووعدونا بالكثير مما لم أعد أحصيه ولا أتذكّره لكنّهم لم يحترموا من كل وعودهم إلا واحداً: قالوا بأنهم سيأخذون بلادنا منا وقد نفّذوا ذلك فعلاً»
(ريد كلاود، زعيم هندي من سكّان أميركا الأصليين ــــ منير العكش، «تلمود العمّ سام» ص: 284)


أهمّية الحاكم في غياب الأيديولوجيا
كان من نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي أنّه أعاد الوعي السياسي الروسي التقليدي إلى الواجهة. مع «هزيمة الإيديولوجية الاشتراكية»، ارتبط القرار السياسي الروسي بعقيدة الحاكم الذي يتولّى القيادة. وقد عبّر المؤرّخ الروسي فلاديمير بولداكوف عن هذه الحقيقة حين قال: «الشعب الروسي يحتاج دوماً إلى الحاكم الزعيم القوي الحازم والمفهوم، هذا الأمر من مقوّمات السلطة في روسيا في الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً». من لا يفهم العقلية الروسية لن يستطيع أن يفهم شخصيّة بوتين، لأنّ الأولى ضرورية ومهمّة في سلوك الثانية على كلّ المستويات التي ترتبط بطبيعة الحكم، ولأنّ الثانية هي ترجمة «مشروعية» لرغبات وتصوّرات الشعب الروسي. وهذا الرأي مبنيٌّ على ركيزتين في نظريات العلاقات الدولية؛ الأولى، تقوم على تفسير «البيئة السيكولوجية» وتأثيرها في سلوك الحاكم في السياسة الخارجية؛ البعد السيكولوجي للحاكم يعني أنّ تصوراته قادرة على أن تُترجم لسياسات، والصورة التي يحملها عن العالم هي أكثر أهمّية من حقيقته الموضوعية. تبدو علاقة «العقليّة الروسية» بهذه النظرية علاقة وطيدة، ذلك أنّ «البيئة السيكولوجية» تبحث في الأسس التي على أساسها تكوّنت شخصية الحاكم. وهذا يمكّننا من فهم ما قاله ألكسندر دوغين عن أنه يتمنّى «بقاء بوتين في الحكم مدى الحياة ما دام قادراً على ذلك، وإنّ بديله ربّما يكون كارثياً ويؤدّي إلى عودة روسيا إلى زمن الاضطرابات التي شهدتها في تسعينيات القرن الماضي، وإن غاب بوتين لسبب قهري فآمل أن يحلّ محلّه شخص جيّد أو أفضل منه ولكنّه إلى الآن غير معروف لدينا وربّما يكون موجوداً في الخفاء».

أمّا الركيزة الثانية، فهي «الواقعية الكلاسيكية الجديدة» التي تركّز على بنية النظام الدولي كمتغيّر مستقل في عمليّة تأثيره في السلوك الخارجي للدول، ولكنّها أضافت بُعداً آخر وهو تأثير العوامل الداخلية للدولة (المستوى المحلّي) في سلوك الدول في السياسة الخارجية. بمعنى أكثر وضوحاً، تولي الضغوط المتأتية عن «البيئة الدولية» ذات الأهمية التي توليها للفاعلين المحليين الذين بمقدورهم تفسير التهديدات والفرص وكيفية الاستجابة لها. وبمقدورنا أن نفهم من ذلك أنّ العقلية الروسية تخلق نوعاً من الأمان الداخلي للحاكم في إدارة البلاد بشرعية «كاريزماتية» وثقافية، وفي الوقت نفسه تعطيه القدرة على رسم سياسة خارجية تحظى بتوافق ضمني ومسبق من الداخل.
يدرك بوتين ذلك جيّداً، لذا فإنّه يحسن التصرّف في تصورّه وتصميمه لاستعادة روسيا لمكانتها، ويمهّد الطريق لمن سوف يأتي بعده لكي يستمرّ في نهجه السيادي. من هنا يأتي الهجوم في أوكرانيا؛ بوتين لا يريد أن يرثه «يلتسين جديد»، ويلتسين هذا هو نموذج عن الرئيس الساذج، إذ كيف يمكن أن تصدّق وعوداً كلاميّة من عدو هزمك (الغرب وواشنطن) والركون إليها؟ (هذا ما يفسّر إصرار بوتين على موافقة خطّية لشروطه من واشنطن و«الناتو»). بوتين شخصيّة مُصرّة وعنيدة، يؤمن أنّ القوي هو في خيال الضعيف، وأنّ المنتصر هو في خيال المهزوم. وبحسب كلاوسفتز، فلا يُعتبر المهزوم مهزوماً إلّا إذا أقرّ بذلك، ولذلك لا يريد بوتين أن يخلفه «يلتسين جديد» يقرّ بهزيمته.
يؤسس بوتين من جديد لثوابت محدّدة لا ينبغي على كلّ من يأتي بعده أن يتجاوزها، لأنّها ليست مرتبطة بزمان معيّن أو بعقلية محدّدة، بل ثابتة في الزمان والمكان وضرورية لأن تبقى روسيا لاعباً لا غنى عنه في الساحة الدولية. وهذا يتطلّب فرض أمر واقع في ما يخصّ السيادة الروسية وخطوطها الحمر، بحيث أنّه على افتراض أنّ «يلتسيناً جديداً» قاد البلاد لاحقاً فإنّه سيكون محدود القدرة في أية عملية تنازل، إذ إنّه لن يحظى بالشرعية وفق العقليّة الروسية التي تؤكّد أنّ غياب الرئيس «الجيّد والقوي» من شأنه أن يُدخل البلاد في حالة من الضعف والفوضى.
وفقاً لتصنيف ماكس فيبر لشرعية أية سلطة، وهو تصنيف ثلاثي، فإنّ كاريزما القائد تخلق له شرعيّة لأنّها قائمة على إيمان الأتباع بشخصيته وتصوراته وقدرته على قيادتهم للأفضل (ماو، لينين، هتلر،...). والثانية فإنّها الشرعية التقليدية، كحالة الإمبراطوريات مثلاً. أمّا الثالثة فهي الشرعية القانونية، كحالة الديموقراطيات. المهم أنّ ما يسعى له بوتين على المستوى الداخلي، اعتماداً على الهواجس الخارجية، هو تمهيد الطريق لرئيس ينطلق من ذات المنطلقات السياسية والأمنية القائمة على ما أسّسه بوتين من سياسات قوّة تؤمن بعودة روسيا. ذكاء بوتين في أنّه يعرف أنّ الكاريزما في الحكم استثناء على القاعدة، لذا يحاول التأسيس لشرعية أمر واقع مستقبلاً، بحيث أنّ من سيدير البلاد بعده لن يكون «بوتيناً جديداً» كما أنّه لن يكون «يلتسيناً قديماً». أي أنّ من سيخلفه لن يرهق نفسه بمحاولات إبعاد الخطر الغربي عن روسيا طالما أن المدّة التي سيقضيها بوتين في الحكم ستتولى ذلك بأقصى درجات النجاح.
كذلك، يدرك بوتين جيّداً أنّ تعميم الحالة الروسية هذه في بيلاروس وأوكرانيا، أي ضرورة اعتراف الجوار بأهمّية الأمن القومي الروسي وضرورة بقاء روسيا ذات نفوذ دولي له سند تاريخي، يساعدنا على تفسير سلوكه الخارجي في حلفه المتين مع بيلاروس، من جهة، وهجومه على أوكرانيا من جهة ثانية. ففي الثامن من كانون الأوّل عام 1991، في إحدى غابات بيلاروس، اجتمع ثلاثة زعماء، ستانيسلاف شوشكيفيتش من بيلاروس، وليونيد كرافتشوك من أوكرانيا، وبوريس يلتسين من روسيا، ووقعوا اتفاقية «بيلوفيشسكايا» لإلغاء الاتحاد السوفياتي مع وجود (وهنا المهم) استفتاء شعبي أيّدت فيه الغالبية بقاءه مع القيام ببعض الإصلاحات، واتصلوا (وهنا الهاجس الروسي الجديد) بالرئيس الأميركي جورج بوش لإبلاغه قرارهم، ثمّ كأي مواطن عادي علم غورباتشوف بهذه الاتفاقية من وسائل الإعلام.
حاول بوتين، منذ عام 2014، أن يقضي على الهواجس الأمنية لروسيا عبر الطرق الديبلوماسية والسلمية مع احترام سيادة دول الجوار، لا سيّما أوكرانيا، ذلك أنّه لم يعترف باستقلال إقليم دونباس في أوكرانيا بل اكتفى فقط باحترام قراره في الانفصال. وحاول احتواء المخاطر المحتملة من تمدّد «الناتو» في كييف باتجاه روسيا بقيام فيدرالية في أوكرانيا تضمّ أقاليم موالية لروسيا، ممّا يخلق حالة من التوازن على مستوى السياسة الخارجية الأوكرانية تتقاطع مع محاولات الروس درء مخاطر تمدّد «الأطلسي» شرقاً. ولكن التعنّت الأوكراني في محاولة غضّ النظر أو القفز فوق مخاوف روسيا، إلى جانب عنجهية الغرب بقيادة الولايات المتّحدة في استدامة احتواء روسيا، شكّلا منعطفاً تاريخياً أدّى لأن تلوّح روسيا بالقوة العسكرية كإفصاح منها عن أنّ ما لم تستطع تحقيقه ديبلوماسياً/ سلميّاً لا يعني أنّها تجاوزته، بل يعني أنّ كل الخيارات مفتوحة أمامها حتّى لو اضطر الأمر لأن تتدخّل عسكرياً لحماية أمنها القومي والإقليمي.
لا يمكن اعتبار العملية الروسية في أوكرانيا استعماراً، وهي ليست توسّعاً عدوانيّاً بمعايير الأمن القومي، كما يبدو لمختلف أصحاب «الروسوفوبيا»، بل إنّه بالنسبة إلى الدولة الروسية يتمثّل في مسألة السيطرة على فضاء إقليمي يحمل بذور تهديد غربي لروسيا، وهذا ما لن تسمح به روسيا بوجود بوتين وبعده.

انتصار الجيوسياسي على الأيديولوجي
إنّ الموافقة الشفهية من الغرب على عدم التمدّد شرقاً باتجاه روسيا هي اعتراف ضمني منه بأنّ واشنطن، وخلفها «الناتو»، يفكّران مستقبلاً في التمدّد. وهذا لأنّهم قرأوا التاريخ جيّداً فأدركوا أنّهم لن يُخلّدوا في القمّة والآخرين لن يتأبّدوا في القاع. ظهور نظريّات الجيوبوليتيك والاهتمام بها في أوج الحرب الباردة يشير في عمقه إلى أنّ القوى العظمى أدركت مبكراً أنّ تأثير جدليّة الأرض/ السياسة (الجغرافيا السياسية) أهمّ وأشمل من تأثير جدلية الأفكار وتعميمها (الأيديولوجية). فعلى أهمّية ما يمكن للأيديولوجيا أن تثيره في ذلك الوقت، إلا أنّ القراءة الاستراتيجية بعيدة المدى حينها كانت تستشرف تحوّل طبيعة الصراع من النفوذ «النظري» إلى النفوذ المادّي. أي بشكل أوضح؛ تغيير ما يمكن للإنسان أن يمليه على سلوكه إلى كيفية تأثير الأدوات المجرّدة (كالأرض والموقع والموارد والجغرافيا...) على فكر صانعي السياسات. وإلا فما الذي يفسّر اهتمام الولايات المتّحدة باحتواء روسيا رغم انهيار الاتحاد السوفياتي؟ ولماذا الصراع الأطلسي- الأوراسي؟ أو الصيني- الأميركي في بحر الصين الجنوبي وطريق الحرير؟ وما الذي يفسّر الحرب على سوريا بل على منطقتنا كلّها؟ ولماذا انتشار الأنابيب أخطر من انتشار الأيديولوجيا...؟
ختاماً، إنّ ما ورد من اقتباس في بداية المقالة ليس بهدف الحشو، بل إنّ الضرورة التاريخية تحتّم أن نسلّط الضوء على النفاق والغدر الغربي الأميركي؛ لأنّ ما نعانيه، على جميع المستويات، وفي كلّ مكان، بدأ منذ ذلك الخطأ التاريخي - «اكتشاف» القارّة الجديدة. ذلك كي يعي بعض العرب «المتأمركين» أنّ مصائبنا تأتي من هناك، وليس ثمّة جهة محدّدة الزمان والمكان لكي نقف في وجهها إلا تلك الجهة التي أبحر إليها كولومبس في عام 1498. هؤلاء «المتأمركون» ما من قول أصدق فيهم ممّا قاله الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد: «فإذا الأبعدون محض أكفّ والسكاكين كلّها أقرباءُ».