حربُ الإعلام كانت دائماً ركناً من حروب إسرائيل ضد العرب. والعدوّ لم يطغَ أو يهيمن أو يفرض سيطرته بالإعلام أو الإقناع بالرضى. على العكس، هذا عدوّ لنا لا يفهم إلا لغة القوّة: يفهمها عندما يستعملها هو ضد العرب، ويفهمها عندما يستعملها العرب ضدّه. فهمَ العدوّ لغة القوّة جيدّاً عندما طُردَ من جنوب لبنان في عام 2000، وفهمها أكثر عندما دُحِر من لبنان في عام 2006، عندما لم يستطع أن يتقدّم بوصةً واحدة على أرض الجنوب. هل يدرك جماعة «حصريّة السلاح بيد جوزيف عون» أن جنوب لبنان كان مُستباحاً لإسرائيل على مرّ تاريخ لبنان، منذ إنشاء دولة الاحتلال حتى طرد العدوّ المُذلّ في عام 2000؟ لكن العدوّ وعى أهميّة الإعلام مبكراً جداً، ووضع خطة مبكّرة (في العشرينيات من القرن الماضي) للتأثير على العقول العربيّة. لم يكن إعلام العدوّ متقدّماً، لكنه امتاز بالعملة الأجنبيّة التي ابتاعت له أقلاماً عربيّة وحكّاماً. لكن العدوّ استثمر أكثر في السلاح. عندما كنّا أطفالاً وصبياناً كان، تلفزيون العدوّ يبدو بدائياً مقارنةً بتلفزيون لبنان من حيث اللون والتنوّع في البرامج (كان أهل الجنوب يشاهدون تلفزيون العدوّ لأن إرسال تلفزيون الدولة لم يكن يصلهم: الجنوب لم يكن مُعترفاً به كجزء من لبنان. هل هو معترفٌ به اليوم؟ قطعاً، ليس من مُطلقي تخوين أهله كـ«جالية إيرانيّة»). وكان للعدوّ برامج باللغة العربيّة وكانت تحظى باستماع من قبلنا لرصد عقليّتهم ونمط تفكيرهم. ينسى البعض أن إسرائيل، قبل أن تستقرّ على وصف «إرهابيّين» لأعدائها من العرب، كانت تستعمل وصف «المخرّبين».

وكانت العبارة مستعملة حتى 1982. وتبعها إعلام قوى الانعزال في لبنان. كان جواسيس العدوّ المزروعون في جنوب لبنان يشيرون بالبنان إلى «المخرّبين» في القرى (وكان الجواسيس يرتدون أقنعة لطمس هويّتهم ـــــ تم التعرّف على بعض هؤلاء في ما بعد وتلقّى كثيرون منهم العقابَ العادل). العدوّ كان يستثمر في الإعلام العربي ويدفع للصحف العربيّة، في لبنان وفي المهاجر. يروي إبراهيم سلامة في مذكّراته تجربة مخيفة له في مجلّة «الحوادث» مع سليم اللوزي.
في لبنان، لم يكن هناك أي تحضير للإعلام في الحرب من جهة المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة. وليس هذا مستغرباً لسببيْن:
1- الحرب كانت من صنع فريق واحد: «الكتائب» و«الأحرار» والدولة اللبنانيّة (حبيبتكم الدولة). كان هؤلاء على استعداد تام للحرب منذ عام 1969، على الأقل. وحديث الحرب كان مدار بحث بين رئيس الجمهوريّة (شارل حلو ــــ وسليمان فرنجية بعده) وبين الدبلوماسيّين الأميركيّين. انصبّ الحديث على طلبات متكرّرة (ما لبث أن أتت) لتسليح ميليشيات اليمين التي كانت تطلب المعونة الأميركيّة ليس فقط باسم محاربة منظمة التحرير، بل أيضاً باسم محاربة اليسار (كانت كل تصريحات بيار الجميّل قبل الحرب تنصبّ على التحذير من خطر «اليسار العالمي» أو «اليسار المخرّب» (كلمة مخرّب هي عينها التي وردت من قبل هنا). والاستعداد الكتائبي للحرب استفاد من تجربة حرب 1958 التي لم تستمرّ أكثر من أشهر معدودة، لكن «الكتائب» فاجأ الخصوم فيها في إطلاق إذاعة كتائبيّة غير شرعيّة (كانت بإشراف جوزيف أبو خليل الذي طلعَ في ما بعد برواية كاذبة عن بدء العلاقة الكتائبيّة مع إسرائيل. نعلم اليوم أن العلاقة سبقت نشوء الكيان واستمرّت مباشرةً بعد احتلال فلسطين وشملت تمويل حزب الكتائب ــــ وبمبالغ زهيدة ــــ في الانتخابات النيابيّة).
2- فريق الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة لم يكن مستعداً للحرب، وكان يرفض الاستعداد للحرب. كمال جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي كانوا يريدون حلّ مشاكل لبنان بالحسنى، ولو كان الفريق الآخر يجلب السلاح أمام الأنظار. رفض الثلاثي كل الدعوات «المتطرّفة» للاستعداد للحرب. وإذا كنتَ غير مستعدّ بالسلاح فلا يمكن أن تكون مستعداً في اقتناء وسائل الإعلام. وياسر عرفات لم يكن يريد الحرب وإن كانت المنظمات الفلسطينيّة مسلّحة. لكن تسليح المنظّمات الفلسطينيّة لم يكن وفق خطّة معدّة ـــــ لا ضدّ إسرائيل ولا ضدّ القوى الانعزاليّة المتحالفة معها. تقارن اليوم بين تسليح دقيق ومحسوب بالبرغي للمقاومة الحالية في مواجهة إسرائيل وبين التسليح العشوائي في ذلك الزمن. يمكن اختصار الخطة العسكريّة لمنظمة التحرير والقوى الوطنيّة اللبنانيّة بـ«تكديس السلاح»، وعلى أنواعه. والكثير من هذا السلاح المُكدَّس أصبح من نصيب العدوّ بعد اجتياح 1982. أذكر أن مسؤولاً في «القيادة العامّة» زها أمامنا أن لديهم طائرة لا تحتاج إلا إلى تركيب.
عند اندلاع الحرب، كانت «الكتائب» على أتمّ الاستعداد. كان له جريدته اليومية «العمل». ولم يكن للأطراف الأخرى جريدة يوميّة في تلك المرحلة، كان هناك مجلات أسبوعية ونشرات دورية أخرى. لكن اليومية جاءت بعد سنوات. وصولاً إلى إصدار «الوطن» عبر جهاز إعلامي في الحركة الوطنية. لكن لحزب الكتائب كان هناك إذاعة خاصة به. في التحقيقات مع توفيق الهندي في التسعينيّات (اشتبهت استخبارات الجيش اللبناني بأنه يتخابر مع إسرائيل، لكن الموضوع طواه النسيان كالعادة وكانت الدولة اللبنانيّة رحيمة غفورة) وردَ في التحقيقات التي نُشرت في حينه أنه كان هناك إشراف إسرائيلي مباشر على جريدة «العمل». وكل من كان يتابع صحف تلك الفترة يدرك أن الإسرائيلي كان موجوداً بقوّة في إعلام اليمين. وينسى البعض ــــ لكن ليس أنا ــــ أن محطة بيار الضاهر، «إل. بي. سي.»، كانت مشروعاً إسرائيليّاً وكانت التجهيزات الأولى إسرائيليّة، لكن للأمانة حافظ بيار الضاهر على الرسالة ولا تزال المحطة صاحبة الخط الثابت في استهداف كل من يعادي أو يحارب إسرائيل. وتقارير المحطة من الأرض المحتلّة تكاد تكون ممهورة بخاتم جيش الاحتلال الإسرائيلي.
إعلام 14 آذار ينعم بتمويل سخي من جورج سوروس ومن دول أوروبا وأميركا والخليج. إعلام المقاومة يعاني من شحّ التمويل بسبب حصار إيران، لكنه فاشل لأسباب خاصّة به


بسرعة أثبتت «صوت لبنان» التابعة لحزب الكتائب، أنها الأقوى في الحرب الإعلاميّة. أشرف عليها جوزيف الهاشم الذي كان يُلقي منها بصوته الجهوري الخطابي تعليقات يوميّة مصوغة بعناية أدبيّة (يمكن الاعتراف للأعداء بمواهبهم إذا وجدت، لم لا؟ كان إلياس ربابي مهندس العلاقة مع إسرائيل، لكنني كنتُ أنتظر خطبَه في احتفالات تأسيس «الكتائب» كل سنة). وتميّزت إذاعة «صوت لبنان» بتقاريرها العاجلة التي كانت تنقل أخبار الانفجارات والاشتباكات من كل المناطق اللبنانيّة، بما فيها بيروت الغربيّة. كان واضحاً آنذاك أنه كان للمحطة شبكة مخبرين في كل المناطق الخارجة عن سيطرة الإسرائيلي بشير الجميّل. وهل كانت شبكة المخبرين منفصلة عن شبكة مخبري إسرائيل في المناطق التي كنا نسمّيها بـ«المناطق الوطنيّة»؟ لا أعتقد أنه كان هناك فارق بين النوعين من الإخبار. في المقابل، لم يكن هناك إذاعات أو إعلام. كانت محطات الدولة تنقسم بين فريقين: بعد انقلاب عزيز الأحدب في آذار 1976 تحوّل تلفزيون لبنان (فرع تلة الخيّاط) إلى صوت لـ«جيش لبنان العربي» بقيادة أحمد الخطيب، بينما تولى تلفزيون لبنان (فرع الحازميّة) النطق باسم الفريق التابع للرئيس سليمان فرنجيّة، وأذكر صوت المذيع جاك واكيم وهو يصيح: «سولداتوف، يا سولداتوف» عن السفير السوفياتي في لبنان. (كتب التعليق رامز الخازن، الإعلامي المقرّب جداً من سليمان فرنجيّة الجدّ، وجريدة «النهار» اخترعت عند وفاته في 2016 خبريّة أن الاتحاد السوفياتي غيّر السفير في لبنان بسبب تعليقات إذاعة عمشيت. الخيالات اللبنانيّة حول الـ«كم أرزة العاجقين الكون» لا تتوقّف، بل تزداد جنوناً. كان إرسال «صوت لبنان» الأقوى، وإن كان الكتائبيّون قالوا وسيقولون إن ذلك كان من مال التبرّعات، كما يقولون إن التسليح كان من مال التبرّعات. بالإضافة إلى «العمل» التي لم تبرز كبديل من الصحف اليوميّة (مثل «النهار» و«السفير») بالرغم من أنها بدأت بالصدور في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، كان هناك مطبوعات لأحزاب لا يمكن وصفها إلا بالفاشية العنصريّة. تلك المطبوعات التي نرى بعضها على مواقع التواصل والتي كانت تبتهج لمجزرة صبرا وشاتيلا. وكان هناك جريدة «صوت الأحرار» وهي غير مرخّصة. تبارت الجريدتان في التطرّف والطائفيّة الصريحة.
في المقلب الآخر، كان هناك موارد لإصدار إعلام قوي لكن الفوضى والتشرذم والتراخي كانت سائدة. قد يكون «صوت لبنان العربي» الذي أشرف عليه تنظيم «المرابطون» بقيادة إبراهيم قليلات من أفضل إعلام الحرب في بيروت الغربيّة. لم يكن إرساله قويّاً مثل «صوت لبنان» ولم يكن لديه مدير مثل جوزيف الهاشم من حيث صياغة التعليق اليومي، لكن «صوت لبنان العربي» سدَّ فراغاً كبيراً. وبرنامج «بعدنا طيّبين، قول الله» لزياد الرحباني وجان شمعون كان أفضل ما طلعَ في الحرب من نقد سياسي ساخر. وهو برنامج تمّ بثه من مقر الإذاعة اللبنانية في الصنائع بعد السيطرة عليها من قبل قوات الحركة الوطنية. وكان البرنامج مشوّقاً ليس مثله في المقلبين، وكانوا ينتظرونه في بيروت الشرقيّة كما في الغربيّة. وإبراهيم قليلات (بالرغم من سوء تجربة قيادة حركته من حيث استشراء الفساد بعد تدفّق المال الليبي على الحركة، بالإضافة إلى جرائم ارتُكبت) كان بارعاً في الإعلام والدعاية السياسيّة. هذا لفتني في تلك الأيّام: إن كمال شاتيلا وإبراهيم قليلات كانا من أبرع من عمل بروباغندا في بيروت الغربيّة. كان «اتحاد قوى الشعب العامل» (أو «هيئة الإسعاف الشعبي» التابعة له ـــــ وهي من أول ظهور التنظيمات المدنيّة في بيروت) ناشطاً جداً وبعدد محدود من المؤيّدين. وكانوا يواظبون على نشر بيانات عن نشاطاتهم، ما كبّر حجم التنظيم في عيون مُتلقّي دعايته. كمال شاتيلا (وكان في حينه ذا ارتباطات متشعّبة) عطّل مشروع الحركة الوطنيّة لإنشاء مجالس محليّة. سمعتُ قبل أيّام وئام وهّاب يتحدّث عن دور صائب سلام في ذلك التعطيل، لكن سلام لم يكن مؤثراً بقدر ما كانت حركة كمال شاتيلا. ملأوا بيروت الغربيّة باللافتات والشعارات، ما عطّل مشروع الحركة الوطنيّة الذي لم يكن سيُكتب له النجاح لأن الفساد كان قد استشرى (معظم الذين كانوا مكلّفين بإدارة مشروع الإدارة المحليّة في بيروت الغربيّة التحقوا في ما بعد بحاشية رفيق الحريري). قليلات كان أبرع: لم يكن متقدّماً في العلوم أو التخصّص، لكنه تميّزَ بصياغته العربيّة بالرغم من ندرة ظهوره في الإعلام (كان في البداية لا يظهر إلا بنظارات سوداء، والذي قرأ كتاب مرافعة محسن سليم في قضيّة اغتيال كامل مروّة يدرك إلى أيّ حدّ تأثّر قليلات بأفلام التشويق والجاسوسيّة الغربيّة في الستينيّات وبقصص أرسين لوبين). «صوت لبنان العربي» كان أفضل من كل إعلام الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة مجتمعتين.
كان المال الليبي (والعراقي والسوفياتي) يضمن إصدار مجلّات وصحف يوميّة. في أواخر السبعينيّات، تسنّى لـ«الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» إصدار جريدة يوميّة باسم «الثورة مستمرّة». لكن الصحيفة كانت هزيلة (بالرغم من مشاركتي في توزيعها صبيّاً). كنتَ تشعر بأن هناك من يريد أن يصدر مطبوعات لأنه يتلقّى تمويلاً لها. خذ مثلاً جريدة الحركة الوطنيّة اليوميّة، «الوطن». كانت جريدة رديئة بكل معنى الكلمة وتنقل عن وكالات الأنباء في حينه، وكانت تزيّنها رسوم كاريكاتور لنبيل قدوح، الذي كان «يلطش» خطوط رسم بيار صادق بحذافيرها. أصبح ورق المجلات مصقولاً أكثر وزادت الطباعة بالألوان. تقارن مجلّة «الهدف» التي سحرت صبيةً وشباناً (أنا منهم) في ذلك الحين. كانت بالأبيض والأسود وكانت تنشر قائمة بتبرّعات عينيّة ونقديّة تصل مكاتب «الجبهة» من كلّ أنحاء العالم. غسان كنفاني كان أوّل من أنشأ إعلاماً يساريّاً مقروءاً. الإعلام اليساري لم يكن مقروءاً قبله ــــ أو حتى بعده. جريدة «النداء» التي أصدرها الحزب الشيوعي كانت شديدة القتامة والرتابة والجمود. كانت صحافة اليسار مثل صحافة اليسار هنا: شديدة الجدّية والرصانة والوقار المزعج. ما في مزح في شؤون الثورة. مع أن لغة لينين وماركس كانت تزخر بالسخرية والهزل وحتى الهزء. غسان كنفاني جمع بين السخرية والفن والخطّ العربي والصحافة الهادفة مع متابعة دقيقة لصحافة العدوّ. لم تعد «الهدف» بعد موته كما كانت في حياته. أصبحت «الهدف» أثرى، لكن ليس أفضل. ومجلّة «الثوري» (التابعة لحزب العمل الاشتراكي العربي ــــ لبنان) كانت أفضل عندما كانت فقيرة بصفحات قليلة غير ملوّنة مما أصبحت عليه في ما بعد عندما تدفّق المال وأصبح للحزب في بيروت مكتبان لا مكتب واحد (وكان مكتب من الاثنين خاصاً بالمكتب السياسي وتمّ اكتشافه من قبل الرفاق بالصدفة، وثارت ثائرتهم آنذاك: مكتب خاص بكم؟ تتبرجزون على رفاق لكم، يا قادة؟).

الإعلام لم يحسم الحرب الأهليّة، لكنه حضّر بيئة خصبة لاجتياح 1982. الدعاية الكتائبيّة فعلت فعلها، كما أن دعاية إعلام الخليج تفعل فعلها اليوم في لبنان


وفي مرحلة «جبهة الرفض» المباركة، كان لكل فصيل فيها مجلّة خاصّة به كما أنه كان لـ«جبهة الرفض» مجلّة خاصة بها. المال العراقي والليبي أنعم على الجميع، لكن قراراً عراقيّاً قضى بحلّها في عام 1977 وانضوت الجبهة الشعبية ورفيقاتها في جسم منظمة التحرير من جديد، بالرغم من أن المنظمة لم تتخلَّ عن «الحلول الاستسلاميّة» التي قامت «جبهة الرفض» في 1974 ضدّها. وإعلام اليسار الثوري الفلسطيني اللبناني كان أفعل قبل الحرب الأهليّة مما أصبح بعد اندلاع الحرب. أصابها التراخي والاستسهال. إعلام اليسار اللبناني والفلسطيني كان تحريضيّاً بفعاليّة قبل الحرب. كنتَ تقرأ «الهدف» وتريد أن تمتشق بندقيّة وتنزل إلى الشارع. «الهدف» حرّضتني وحرّضّت آلافاً غيري. تَشكّل وعي الكثير من اللبنانيّين عبر مجلّة «الهدف». أمّا إعلام حركة «فتح» فكان الأسوأ على الإطلاق. إذاعة «فتح» كانت مملّة وكانت أغانيها مزعجة للأذن والعقل معاً. وجريدة ومجلّة «فلسطين الثورة» كانتا من أردأ ما صدر من إعلام. كنتُ أشكو لرئيس تحريرها، أحمد عبد الرحمن، من رداءة هذا الإعلام وكان يلوم غيره. لم يكن الراحل مؤهّلاً برأيي. لكن متى كانت المؤهلات ذات اعتبار عند ياسر عرفات؟
إعلام الحرب الأهليّة يذكّرني بإعلام اليوم: كيف أن إعلام 14 آذار أفضل بكثير من إعلام المقاومة. لكن الموارد الماليّة للحركة الوطنيّة ومنظمة التحرير كانت أكبر بكثير. ماذا حلّ بالمال؟ كيف أنفقَ؟ الجواب: تتطلّع وترى القصور والمنازل المنيفة للكثيرين من قادة الحركة الوطنيّة، وبعضهم يعيش في الخارج في الغرب. في المقلب الشرقي من بيروت: كان هناك موارد كبيرة حتماً، كما أن البورجوازية المسيحيّة في بيروت الشرقيّة كانت أسخى على قضيّة ميليشيات المنطقة من البورجوازيّة المسلمة التي لم تخفِ عداءها للحركة الوطنيّة. لكن سرعان ما تغيّر الوضع عندما انضمّ قادة الحركة الوطنيّة إلى صفّ البورجوازيّة وغابت قضايا العدل الاجتماعي. الاشتراكي وليد جنبلاط أصبح شريكاً تجارياً لعدنان قصّار، واحد من أكبر تجّار لبنان. وإعلام 14 آذار (بكل تلويناته الحزبيّة والمدنيّة والثاو ثاويّة) ينعم بتمويل سخي من جورج سوروس ومن دول أوروبا (قالوا لنا أخيراً إن التمويل الأوروبي غير سياسي لأن أوروبا غير ضالعة في صراعات المنطقة) وأميركا والخليج. إعلام المقاومة يعاني من شحّ التمويل بسبب حصار إيران، لكنه فاشل لأسباب خاصّة به.
في القسم الشرقي من بيروت، وعوا لضرورة التركيز على الإعلام كما على الإجرام والقتل. بعد إنشاء ونجاح «صوت لبنان»، أراد بشير الجميّل أن يُنشئ إذاعة خاصّة به فكانت «إذاعة لبنان الحرّ»، وبتجهيزات إسرائيليّة، كما في كل مشاريع بشير الجميّل (كان سجعان القزي مشرفاً فيها). اللافت أن الطرف الانعزالي الطائفي نجح في التوجّه إلى الطرف الآخر الذي كان يحتقره ويقتله أكثر مما نجح فريق الحركة الوطنيّة الذي كان يضمّ قوى علمانيّة (افتراضيّاً). خُطب بشير الجميّل كانت تتكرّر في إذاعات بيروت الشرقيّة وهي أثّرت على وعي البعض ــــ البعض فقط ــــ في بيروت الغربية والجنوب، فيما لم يكن عندنا هناك من خطباء يكرّرون مضمون الدعاية السياسيّة للتأثير. كان للحزب القومي خطباء مفوّهون (لم يكن إنعام رعد بينهم)، لكن استعمالهم كان نادراً. والأحزاب الشيوعيّة لم تنتج خطباء في ذلك الزمن. والحركة الوطنيّة فشلت في مخاطبة جمهور مناطق بيروت الشرقية. اكتفت بتصنيع هيئة تجميع لـ«المسيحيّين الوطنيّين»، لكن التسمية كانت نتاج عقليّة طائفيّة لأنها أوحت بأن المسيحيّين هم غير وطنيّين حكماً (قد تكون التسمية لكمال جنبلاط لأنه كان أوّل من أطلق الصفة المهينة).
أحياناً تنجح بعض الفصائل الصغيرة في الإعلام أكثر من غيرها. من يصدّق أن أفضل توثيق لجرائم «الكتائب» في فترة الحرب كان في كتاب لـ«الاتحاد الاشتراكي العربي» صدر بالفرنسيّة (وسرقه أحدٌ منكم من منزلنا في بيروت). الحزب التقدمي الاشتراكي لم يكترث للإعلام؛ يبدو أن الحركات والأحزاب التي تعتبر أن جمهورها في الجيب (مثل «فتح» أو «أمل» أو الحزب التقدمي الاشتراكي) لا تعير الإعلام أي اهتمام. الأحزاب الثوريّة الصغيرة كانت أفضل في الإعلام، لكنها سرعان ما تعوّدت على الإنتاج الرتيب. كنتُ دوماً أحاجج أن نظام التفرّغ في القتال والإعلام كان ضاراً. غسان كنفاني لم يكن متفرّغاً بالكامل عندما أصدر مجلّة «الهدف»، وكان معظم كتّابها من المتطوّعين. إعلام «الكتائب» لم يكن مقتّراً في المرتّبات، فيما كانت المرتّبات في المنطقة الغربيّة تراتبيّة: مرتفعة كثيراً للقيادات العليا (التي كان بعضها يحتفظ بأقساط ليبيا الشهريّة لنفسه) ومتواضعة للصغار.
الإعلام لم يحسم الحرب الأهليّة، لكنه حضّر بيئة خصبة لاجتياح 1982. الدعاية الكتائبيّة فعلت فعلها، كما أن دعاية إعلام الخليج تفعل فعلها اليوم في لبنان. الحرب ضد إسرائيل ليست إعلاماً وتكنولوجيا وحضارة كما زعم جماعة «النقد الذاتي بعد الهزيمة». هي إعلام وتكنولوجيا وحضارة، لكن هي أولاً حرب عسكرية. إعلام المقاومة في حرب تمّوز كان ذكياً جداً، لكن الحرب كانت ستُحسم بالنتيجة نفسها ولو فشل الإعلام. لكن تجربة إعلام الحرب تؤكّد أن تغيير العقول والأهواء هو لعبة إعلاميّة كانت ناجحة منذ اغتيال الحريري ولم يقابلها إعلام مضاد. والإعلام اليوم ــــ بسبب ندرة الموارد إلا في محور واحد ــــ لم يعد يجذب المثاليّين والمثاليّات كما كان. لكن هذا حديث آخر.
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر asadabukhalil@