بشكل متزامن يشير إلى تداخل وترابط الحدثين بتوجيه أو بتخطيط وضغط من قبل الطرف نفسه، تحرّك في بيروت، كل من رئيس الحكومة السابق ورئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، ووزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر الصباح. الأوّل لكي يعلن «تعليق» نشاطه السياسي وعدم مشاركته وتياره في الانتخابات النيابية المتوقعة في منتصف أيار المقبل. الثاني لكي يبلغ السلطات اللبنانية شروط السعودية وحلفائها لـ«رأب الصدع في العلاقات الخليجية – اللبنانية وبناء جسور الثقة» بين الطرفين.
تولَّد انطباع لدى البعض، بأن اختيار وزير خارجية الكويت لزيارة لبنان، إنما يدل على رغبة في حلحلة أزمة العلاقات بين لبنان، من جهة، والمملكة السعودية وحليفاتها الخليجيات من جهة ثانية. معروف أن هذه الأخيرة قد أقدمت على قطع علاقاتها مع لبنان أو خفّضتها، في تصعيد كان ولا يزال ينذر بالمزيد بما قد يطاول لبنانيين عاملين في تلك الدول، في أعمالهم، وفي مصالحهم، وربما أكثر!
ينبغي القول أوّلاً إن التزامن ليس مسألة صدفة. إنه ثمرة سياق ينتظم كلاً من «قرار» سعد بتعليق نشاطه والشروط التي حملها الوزير الكويتي. صحيح أن الكويت ذات تاريخ حافل بالمبادرات الودّية حيال لبنان خصوصاً في مرحلة الحرب الأهلية حيث كان أميرها الراحل، وزير خارجيتها آنذاك، حاضراً بقوة في رحلة التفتيش المضنية عن مخارج وتسويات للأزمة مكرّساً وقته ونفوذ بلاده ناسجاً صداقات غير تقليدية حتى مع قادة يساريين في «الحركة الوطنية»... لكنّ الأمر مختلف الآن حيث تتحرّك الكويت بمهمة سعودية خالصة بعد أن تغيّرت قيادتها، وإن كان الموقف الكويتي قد تحلّى، غالباً، بالمرونة والسعي إلى تدوير الزوايا.
كان لا بد، إذاً، لفتح صفحة جديدة، من إنهاء «صفحة» سعد بسبب أزمته مع قيادة المملكة العربية السعودية، وخصوصاً مع ولي العهد محمد بن سلمان. عنوان هذه الصفحة هو الانخراط المباشر في الأزمة اللبنانية عبر تجاوز مرحلة «الحريرية السياسية» التي كانت أداة سعودية مباشرة للتعبير عن سياسة المملكة حيال لبنان وغير بلد عربي (مرحلة مؤسس التيار). لقد ملَّ ولي العهد السعودي وتململ من كل الوسطاء الذين سعوا لإصلاح ذات البين بينه وبين سعد رفيق الحريري. «الولد» خرج عن الطاعة. تمرَّد وفتح على حسابه فاستحقّ إفلاساً واحتجازاً وإكراهاً على الاستقالة... ولم يفهم: انتهى، وعليه أن يعتزل!
من جهة ثانية، ما دفع السعودية إلى تبديل وجهة تحرّكها هو تقديرها بأن الوضع اللبناني قد «استوى» وبات، ربما، جاهزاً للخضوع تحت تأثير الأزمة الطاحنة التي يكابدها اللبنانيون نتيجة إجرام المنظومة السياسية التي تحكم البلاد، على الأقل، منذ ثلاثين سنة!
الأزمة المتمادية بوقعها الكوارثي على البلاد والعباد، هي ما تواصل واشنطن، أيضاً، محاولة استغلالها لتغيير الموقف اللبناني ولفرض ترسيم الحدود البحرية مع العدو الصهيوني المغتصب، بصيغة هي أقرب إلى التطبيع، بما يضيف حلقة جديدة إلى اتفاقيات «أبراهام» التي شجّعها أو فرضها الرئيس ترامب على بعض دول الخليج فضلاً عن السودان والمغرب.
ما دفع السعودية إلى تبديل وجهة تحرّكها هو تقديرها بأن الوضع اللبناني قد «استوى» وبات، ربما، جاهزاً للخضوع تحت تأثير الأزمة الطاحنة التي يكابدها اللبنانيون نتيجة إجرام المنظومة


طبعاً، ثمة عامل مهم آخر، هو قرب الانتخابات النيابية اللبنانية، وانطلاق حملة انتخابية تقودها واشنطن، عبر موفديها وسفارتها في بيروت وحلفائها الغربيين المعنيين، لكسب تلك المعركة بتكوين أكثرية رافضة للصيغة التي استقر عليها الوضع اللبناني عموماً بشأن دور المقاومة وسلاحها الموجّه ضد العدو الصهيوني.
لا شك أن التحرّك الخليجي (السعودي أساساً) يستدرك ما فاته حتى الآن، بعد أن أزاح الحريري من المشهد، لينضم مباشرة إلى هذه المعركة بكل ما يملك من إمكانات مالية وعصبيات مذهبية وعلاقات سياسية. من الخطأ الاعتقاد أن السعودية كانت منكفئة كلياً. لقد كان نشاطها متواصلاً من خلال الزيارات واللقاءات في بيروت والرياض مع حلفائها الذين باتوا أقرب إلى سياساتها من أيّ وقت مضى. هؤلاء قد حلّوا مكان «تيار المستقبل»، وهم قد حظوا بدعم غير مسبوق، خصوصاً على المستوى السياسي والمالي، من أجل تحقيق أهداف يتشاطرونها مع السعودية في لبنان، وفي المنطقة عموماً، بقيادة واشنطن، ومعها، طبعاً، أبداً ودائماً، العدو الصهيوني!
المبادرة السعودية هي، إذاً، جزء من الحملة الأميركية الضارية المتواصلة تحت عنوان المعركة الانتخابية. هي خاضعة تماماً، في الشكل والمضمون، لمقتضيات نجاح هذه الحملة. نقول في الشكل أيضاً، لأن ولي العهد السعودي مشهور بتسرّعه وبرعونة أساليبه حيال خصومه (ضحاياه) من السياسيين والإعلاميين ومن أبرزهم سعد الحريري نفسه في عام 2017! ثم إن نص المبادرة نفسه يعطي انطباعاً أكيداً بأنها قد كُتبت في «غرفة القيادة» في «عوكر» ووفق شروط ومقتضيات الحملة السياسية والإعلامية والانتخابية اللبنانية. هذا يفضحه بسهولة فائقة نص بعض البنود التي من بينها، مثلاً، البند 3: «التأكيد على مدنية الدولة اللبنانية» (؟!). لماذا تهتم قيادة المملكة بقيام دولة مدنية بينما هي تفرض نظاماً ثيوقراطياً (دينياً) ملكياً مطلقاً، يُعتبر، ما يصدر عن «الإرادة الملكية» دستوره والقوانين. الأغرب أيضاً، البند الـ 8: «الالتزام بإجراء الانتخابات النيابية في شهر مايو 2022، ومن ثم الرئاسية في شهر أكتوبر 2022 وفق المواعيد المقررة دون تغيير»! ماذا لو تأجّلت الانتخابات؟ هل يسيء ذلك إلى العلاقات مع الخليج؟ وقبل ذلك ما شأن الدول الأخرى بالانتخابات وخصوصاً تلك التي لم تعرف الانتخابات يوماً في تاريخها؟! إلى الجزء الأخير في البند 12: «العمل مع البنك الدولي لإيجاد حلول» للودائع! هنا تأتي الجزرة، وفق معادلة: إركع، ندفع!
الواقع أن بنود «المذكّرة» الكويتية قد أُعدّت في لبنان. بنودها هي، فعلياً، بنود برنامج الانتخابات للأطراف، التي تدير نشاطها والسعي لتوحيدها وتشكيل لوائحها، السفارة الأميركية في عوكر. أمّا البند الـ13، الذي تحدّث عنه ، ضمناً، سعد الحريري، فهو يشكل عنوان «الخطة ب» في حال الفشل في الانتخابات، أو من أجل تطبيق البنود الاثني عشر المعلنة!
رغم المآسي الهائلة التي سبّبتها للبنانيين منظومة النهب والفساد برعاية مراجعها الدولية والإقليمية، ورغم كثرة المتآمرين والطامعين والمرتزقة ومُدمني الخطط الانتحارية... فما هكذا تورد الإبل، في بلد المقاومة والتحرير، يا سمو الأمير ويا... هداك الله!
* كاتب وسياسي لبناني