مثل قيام الثورة الشعبية الإيرانية 1979 علامة فارقة ذات دلالة في مسيرة الصراع الدولي والإقليمي والعربي. بدأ هذه الثورة الطلاب، و شارك فيها العمال، خصوصاً عمال النفط في عبدان، وكانت طبقة البازار أو التجار التقليديون والحرف التقليدية تعدّ عمودها الفقري بقيادة رجال الدين الشيعة الذين اعتبروا – بحسب تصنيف غرامشي للمثقفين - المثقفين العضويين لطبقة البازار في إيران. تلك الطبقة التي لم تشملها عملية التحديث التي قام بها الشاه بدعم من الولايات المتحدة الأميركية. أكثر من ذلك، أن «تحديثات» الشاه المشوهة أصلاً قد تجنبتها وهمشتها في الحياة الاقتصادية الإيرانية.
والثورة الإيرانية هي نتاج نضالات طويلة ابتدأت بأزمة التبغ والاحتجاجات التي تلتها عام 1891-1892 مروراً بأحداث ثورة 1905 الدستورية، من ثم نمو الحركة العمالية وإضراباتها بين 1941-1953 التي توجت بحركة مصدق الهادفة إلى إقامة نظام تقدمي – شعبوي تقوده الطبقة الوسطى ويدعمه العمال بسلاح الإضراب ويكفله حزب توده (حزب الشعب الإيراني). من ثم محاولات تأميم قطاع النفط التي حاولها مصدق منتصف الخمسينيات وصولاً إلى أعمال الثورة.
لقد أدى فشل محاولة مصدق ومن خلفه النقابات العمالية وحزب توده السوفياتي التوجه - إذا ما أضفنا بداية تحديثات الشاه التي ركزت في تحديث الجيش - إلى نمو في الحركة الدينية، وإلى بداية ظهور الدور الجديد لآيات الله أو ما يسمى بالمثقفين العضويين لطبقة البازار الإيرانية المعادية لـ«الغرب».
في أول إشارة لها أظهرت ثورة إيران الشعبية الأزمة التاريخية للبيروقراطية السوفياتية في تمظهراتها الحزبية أي في انعكاساتها على استراتيجية الأحزاب الشيوعية السوفياتية وتكتيكاتها؛ انعكاسات تجلت في البنية البيروقراطية لهذه الأحزاب وفي الجمود العقائدي الذي شلّ حركتها وأضعف قدرتها على المبادرة التاريخية. كذلك أدت في أحد نتائجها إلى فشل الحركة الشيوعية العربية في تصدر حركة التحرر القومي العربي الديمقراطي.

بدأ التحسس السوري
للوضع الجديد بالوقوف مع إيران في الحرب مع العراق

وهذا ما سوف يفسر لاحقاً الدور الجديد الذي سيلعبه الدين والثقافة الدينية في الشرق الأوسط؛ بكلام آخر، صيرورة الفرقة الدينية حزباً سياسياً وإيديولوجياً بعد أن كانت الثقافة الدينية ليست سوى تنويعات ثقافية ضمن الدين الواحد أو بين الأديان القائمة. وسوف تقوم بعض هذه الأحزاب في مواجهة الهجوم الإمبريالي الغربي، خصوصاً الأميركي. وستكون أولى المفارقات أن المواجهة ستأخذ أشكالاً ثقافية وقومية (سياسية)، تدور رحاها على أرضية مشتركة من علاقات الإنتاج الرأسمالية. فالحزب الديني في جميع أشكاله لا يعادي الملكية الرأسمالية الخاصة. وكذلك هو نظام الحكم الناجم عن الثورة الإيرانية.
حزب الله اللبناني واحد من هذه الأحزاب الدينية التي دخلت في صراع مباشر مع العدوان الأميركي الصهيوني الذي اجتاح لبنان عام 1982. هذا العام مفصلي في تاريخ الصراع العربي/ الإمبريالي - الصهيوني، مثلما هو عام 1979 بالنسبة للدول الإمبريالية الرأسمالية الرئيسية خصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث جرى حينها الانتقال إلى ما سمي لاحقاً بالسياسات الليبرالية الجديدة، حيث برزت مؤشرات على بداية تغير في الاستراتيجية الإسرائيلية قائمة على تحويل منظمة التحرير الفلسطينية من منظمة مقاومة للمشروع الصهيوني إلى «سلطة فلسطينية» مشاركة في تسوية هزيلة. في هذا العام نفسه (عام 1982) بدأ يلمع نجم ما يسمى بالمقاومة الإسلامية في لبنان، ولاحقاً ما عرف باسم حزب الله اللبناني كمقاومة رئيسية ضد إسرائيل ومشاريعها العدوانية، مهمشاً دور جميع الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية .
ولم تمض سوى بضع سنين حتى بدأت سوريا تتحسس الدور الاستراتيجي الذي يمكن أن تلعبه المعطيات الجديدة: ثورة إيران، إعلان النظام الإيراني الإسلامي الجديد العداء للغرب الإمبريالي وخصوصاً أميركا، إعلان التضامن مع قضية القدس وقضية فلسطين وإشهار العداء لإسرائيل مع دعم كامل لحركة المقاومة الاسلامية في لبنان.
منذ ذلك الوقت شكلت سوريا حلقة الوصل الأساسية والحاسمة التي سوف تربط بين الاستراتيجية الإقليمية العالمية الجديدة من جهة وبين حزب الله ولبنان من الجهة الأخرى؛ ووسيطاً استراتيجياً لتقدم وفاعلية حزب الله في المواجهة بين العرب وإسرائيل. بدأ التحسس السوري للوضع الجديد بالوقوف مع النظام الإيراني الإسلامي الجديد في الحرب مع العراق؛ مثيراً دهشة النظام العربي في غالبيته الساحقة!
واعتباراً من بداية تسعينيات القرن العشرين راح هذا الحزب الديني المقاوم لإسرائيل يظهر نضجاً سياسياً وإحكاماً تنظيمياً وبراعة عسكرية ميدانية لافتة للنظر. وما إن انصرم عقد التسعينيات حتى بات حزب الله القوة الضاربة المقاومة التي همشت كما أسلفنا جميع القوى والأحزاب القومية واليسارية والشيوعية. واستبدلتها بمقاومة محكمة سمت نفسها حركة المقاومة الإسلامية اللبنانية. وقد قادت هذه التطورات، وهذا النمو في قدرات الحزب وخبرته، إلى دحر الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان في بداية الألفية الجديدة (عام 2000 م)؛ هذا الاحتلال الذي دام أكثر من عشرين عاماً.
كان الانسحاب يشير إلى أولى ثمرات الوضع الاستراتيجي الجديد، متزامناً مع خطة إسرائيلية للانسحاب من أجزاء محتلة معينة لسحب الذرائع أمام المقاومين، ولتفكيك معسكر الحلف المقاوم (إيران، سوريا، حزب الله وحركة أمل، حماس والجهاد الإسلامي ومعهما المقاومة الفلسطينية بتياراتها كافة). وكانت إسرائيل قد بدأت هذه الخطة في كامب ديفيد عبر الانسحاب من سيناء، لكن لم تتوضح ملامح الاستراتيجية الجديدة إلا مع اجتياح 1982 الغاشم على لبنان. وكانت الأسباب الداعية لهذا التحول - من وجهة نظرنا - في الاستراتيجية الإسرائيلية هي العناصر التالية:
1ــ قيام الثورة الإيرانية 1979 ومعها انتهاء ما سمي بسياسة التوكيل في الشرق الأوسط، وبدء العمل بما سمي بسياسة التدخل الأميركي المباشر. وهو العام نفسه الذي أجري فيه اتفاق كامب ديفيد لإخراج مصر من الصراع العربي ــ الصهيوني، وهو العام الذي تحولت فيه الدول الإمبريالية الرئيسية خصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا من سياسات الرفاه ودعم الدولة الرأسمالية للطلب الكلي إلى السياسات الليبرالية الجديدة. لقد وضبت الإمبريالية الأميركية البيت الأوروبي في غربه وشرقه، من إعادة توحيد الألمانيتين إلى إعادة يوغسلافيا إلى الحظيرة الرأسمالية، إلى توضيب البلقان، عملت كل ذلك لكي تبدأ هجومها الغاشم على ما كان يسمى بالعالمين الثالث والثاني، لإعادة ما خسرته من بلدان بعد الحرب العالمية الثانية.
2ـ دخول ما يسمى بأسلحة التدمير الشامل وتكنولوجيا الصواريخ البالستية إلى المنطقة الشرق أوسطية والمخاطر الاستراتيجية لهذه الصواريخ على دولة إسرائيل.
3ــ ظهور الحدود التاريخية والاستراتيجية لدولة إسرائيل، وبالتالي الحديث عن تعايش «سلمي» لإسرائيل في المنطقة ووضع خطة للتطبيع مع النظم العربية القطرية. بالتالي تجنب إسرائيل الحروب الكبيرة والاكتفاء بين وقت وآخر بضربات تكتيكية ذات تخديم استراتيجي كالاجتياحات الجزئية، والقصف المحدود المدمر، وشل أية إمكانية للتنمية في المحيط الشرق أوسطي، وهذا ما لحظناه في قصف مفاعل تموز العراقي وفي قصف ليبيا من قبل الطائرات الأميركية وفي الضغوط الحالية على المشروع النووي الإيراني وفي التهويل الأميركي بالحرب على سوريا في سبيل تجريدها من ترسانتها الكيماوية وهو ما نشهد آخر أيامه... تزامنت هذه الاستراتيجية الجديدة مع اكتمال تحول البورجوازية الطرفية المصرية وقيادة منظمة التحرير إلى بورجوازية كولونيالية رثة، تابعة ومندمجة في المشروع الإمبريالي.
وقد تجلت الاستراتيجية الإسرائيلية بشقين: الأول، سلسلة الانسحابات من غزة وسيناء وجنوب لبنان. الثاني، مشروع جديد للشرق الأوسط يطبّع وضع إسرائيل، سمّاه شمعون بيريز بـ«مشروع الشرق أوسط الجديد» بداية التسعينيات من القرن العشرين، وسمّاه الأميركيون بـ«مشروع الشرق الأوسط الكبير».
لقد وجدت سوريا ضالتها في هذا الدور الاستراتيجي الوسيط بعد خروج مصر من معادلة الصراع العربي ــ الصهيوني، إذ تستطيع من خلال ذلك تحسين شروطها في مفاوضات التسوية، ومعاقبة إسرائيل أحياناً من دون مناوشات مباشرة في الجولان السوري المحتل. وخلال العدوان الإسرائيلي في تموز 2006 ظهرت منافع هذه الوساطة وهذا التقسيم للعمل إذا جاز القول بين إيران وسوريا والمقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية. وقدرة هذه الأطراف على لعب دور ممانع لمشروع الشرق أوسط الكبير. لكن حتى تفتح هذه المواجهة وهذه الممانعة آفاقاً جديدة؛ آفاقاً استراتيجية تعدل بنية البيئة الحاضنة لهذه المقاومة، وتحسن شروط المواجهات المقبلة، لا بد من ربط هذه المقاومة بتوسيع هامش الحريات السياسية في سوريا وإيران؛ توسيع ديمقراطي عبر إشراك جميع فئات الشعب بهذا العمل المقاوم، وذلك لقطع لسان الذين يلحدون بـ«قوس شيعي» أو «استراتيجية فارسية شيعية» وغيرها من الترّهات الضارة بقضية الصراع ضد المحتلين الصهاينة وأسيادهم الإمبرياليين.
* كاتب وباحث سوري