لا يُخفي كيان العدو خلفيّاته التوظيفيّة للهولوكوست وهو يداوم على إحياء ذكراها في كل سنة. سبق أن استغلّت إسرائيل المجازر التي شملت بشكل خاص يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. واستطاعت، بفضل الدعم الغربي، أن تفرض على ألمانيا مدّها بـ«التعويضات» التي تمّ دفعها على مدى 12 عاماً (1953 – 1965). واستمر الدفع أيضاً بموجب اتفاق ثانٍ حتى عام 1985. وكان لهذه التعويضات دور رئيسيّ في رفع معدّلات النمو من بوابة التطور الصناعي، خاصة أنها أتت في المرحلة التأسيسية للكيان ومؤسساته وصناعاته.استناداً إلى الخلفيّة التوظيفيّة نفسها، أتى كلام رئيس الكنيست الإسرائيلي ميكي ليفي، قبل أيام، أمام البرلمان الألماني، حين أكّد، على خلفية إحياء ذكرى الهولوكوست، أنه ليس من واجبه «تهدئة روع الأجيال الإسرائيلية المقبلة، فهي ليست في حاجة إلى أن تغلق الدائرة، بل إلى استمرارها مفتوحةً، وإلى اكتناز مزيد من الغضب». صحيح أن المجتمعات تحرص على إحياء أبرز محطاتها التاريخية، إلا أنه في الحالة الصهيونية جرى توظيف المجازر التي تعرّض لها اليهود في أوروبا في ظلم شعب آخر، فارتكب الصهاينة بدورهم المجازر بحق الشعب الفلسطيني وهجَّروه من أرضه، ولا يزالون يمارسون بحقه أشد أنواع القمع الممنهج والمدروس.
مع مضي الوقت، طوَّرت إسرائيل استراتيجية التوظيف عبر رفع سلاح الاتهام بمعاداة السامية ضد كل من يقاوم الاحتلال وينتقد سياسة القمع بحق الشعب الفلسطيني، رغم أن السامية تشمل أعراقاً أخرى غير اليهود. فاتّبعت سياسة تحريضية هدفت إلى أن تزرع في الرأي العام العالمي خلطاً تاماً بين اليهود والصهيونية وإسرائيل وبين معاداة السامية، وكذلك كل نقد للسياسة الإسرائيلية والصهيونية أو أي انتقادات للقرارات الدولية التي تدين إسرائيل.
السياسة التي تعتمدها إسرائيل في هذا المجال تتجاوز الصراع على الرأي العام لكسب تأييده بالمعنى التقليدي


مع ذلك، فإن السياسة التي تعتمدها إسرائيل في هذا المجال تتجاوز الصراع على الرأي العام لكسب تأييده بالمعنى التقليدي. بل هي جزء من حملة أوسع تصبّ في خدمة ثلاثة أهداف كبرى:
تعزيز الهجرة إلى فلسطين، تعزيز أواصر الترابط بين صهاينة الكيان ويهود العالم، ومحاولة كبح أي مساعٍ لدعم الفلسطينيين وانتقاد إسرائيل على جرائمها.
1- شكّلت هجرة اليهود إلى فلسطين الهدف الأوّل والرئيسي للحركة الصهيونية، كونه الشرط التأسيسي لقيام الكيان الإسرائيلي وأحد أهم عناصر قوّته، فضلاً عن كونه يشكّل نقطة ارتكاز الفكر الصهيوني. ومن المعلوم أن تعزيز الهجرة اليهودية يسمح لإسرائيل بالعمل على تغيير المعادلة الديموغرافية القائمة في فلسطين التاريخية، التي من المتعذّر حلّها، كما حصل في عام 1948، عبر تهجير أغلب الشعب الفلسطيني، خاصة أن استمرار هذا الواقع وتصاعده يهدّد الطابع اليهودي لإسرائيل، وهو أمر يتناقض مع المشروع الصهيوني ويشكّل تهديداً على أمن إسرائيل القومي. وهكذا تحوّل استمرار التحريض على الهجرة كخيار وحيد في مواجهة هذا التحدّي. ولذلك يلاحظ أنها تستغلّ أي متغيّر في أي بلد في العالم في هذا الاتجاه.
2- من أدوات «الشغل» في هذا السياق تكثيف الدعاية حول اللاسامية والترويج لمفهوم أن اليهود ملاحَقون ومعرّضون للقمع بسبب كونهم يهوداً. في حين أن إسرائيل هي الملجأ الآمن والوحيد القادر على الدفاع عنهم. أمّا في حال لم تؤدّ هذه الحملات إلى الهجرة فهي تخدمها أيضاً في تحفيز يهود العالم على دعم إسرائيل مادياً وسياسياً، وتشكيل لوبيات للدفاع عنها في بلدانهم. ولا فرق في هذا المجال بين اليهودي العلماني واليهودي المتديّن (باستثناء بعض طوائف الحريديم الذين ينكرون الصهيونية ويرفضون إقامة دولة اليهود قبل مجيء مخلّصهم). ويصبّ الترويج لمفهوم اللاسامية، أيضاً، في محاولة تعزيز الترابط بين اليهود، خاصة أن إسرائيل تقدّم نفسها كدولة لكل يهود العالم وليس فقط لمن يسكن منهم في فلسطين، في حين أنها ليست «دولة كل مواطنيها» (فلسطينيي 48).
3- نتيجة الاحتضان والدعم من قبل الأميركيّين والغرب للسياسات الصهيونية، بما فيها سياستها تجاه شعار «اللاسامية»، فإن من أهداف التلويح بهذا الاتهام محاولة ردع كل من يحاول انتقاد الاحتلال، وللدفع إلى تجنّب دعم الفلسطينيين. ويمكن ملاحظة أنه في الوقت الذي يرتكب فيه الإسرائيليون المجازر، يرتفع منسوب الحديث عن اللاسامية بهدف التغطية على هذه المجازر، وأيضاً بهدف قلب المعادلة، فيتحوّل مجرمو الحرب إلى مستهدفين ومطاردين والفلسطينيون ومن يؤيّدهم إلى معادين للسامية.