نشر موقع «الجزيرة نت» مقالة تحت عنوان «نصير الدين الطوسي... العالم الفذّ والسياسي الدموي الذي باع العباسيين للمغول» لمحمد شعبان أيوب، فيها الكثير من التجنّي والمغالطات وتزوير للحقائق.تطالعك مقدّمة بروباغندية استفزازية ضمن تصوّر عام يهدف إلى تحطيم الشخصيات المختلِفة مذهبياً وعقيدياً، وقلب صورتها إلى سلبية قاتمة في الوجدان العام عبر إثارة النعرات الطائفية والعصبيات حتى لو كان ذلك مخالفاً تماماً لحقائق التاريخ ووقائعه.
ارتأينا، وإنصافاً للحقيقة وصوناً للحق والذاكرة، عرض ما يتّصل بمسيرة الطوسي العريقة عبر تفنيد ما ورد فيها، إذ الأولى للخروج من القصور المنهجي والجهل المتقصّد ربّما استبدال عنوان المقالة ليصبح «نصير الدين الطوسي المنقذ من فوضى المغول وجهلهم ومن غفلة الخلفاء العباسيين وإفسادهم»!

ورد في المقدّمة: «لم تكن ظاهرة المثقف أو العالِم الذي يخون مبادئه وينحاز للأعداء في المواقف المفصلية وليدة عصر أو زمان أو دولة أو أمّة بعينها، ولكنها ظاهرة إنسانية واجتماعية... وفي التاريخ الإسلامي نجد هذه الظاهرة واضحة أيضاً، ومن بين نماذجها رجل تردّد اسمه كثيراً بين جدران التاريخ وأروقته ومؤلفاته؛ بسبب دوره الواضح في القضاء على حضارة بغداد ودولة العباسيين، فضلاً عن لعبه دور المنظّر لآلة القتل المغولية، ذلك هو الفيلسوف وعالم الفلك والرصد نصير الدين محمد الطوسي، فمن هو الطوسي؟ وكيف أسهم في توجيه واحدة من أعظم آلات القتل والدمار في تاريخ الإنسانية على يد التتار؟».
تابع تحت عنوان «الفيلسوف الخائن»: «واللافت أن الرجل التحق بالباطنية الإسماعيلية في قلاع الموت في إيران، وهي واحدة من أخطر الفرق شراسة ودموية في تاريخ الإسلام، وقد ترقّى بينهم حتى صار وزيراً وكاتباً لهم، ثم لمّا خرجت جموع المغول للسيطرة على المشرق الإسلامي ترك الإسماعيلية التي قضى في رحابها بضعاً وعشرين سنة، والتحق طائعاً بخدمة هولاكو». «تشير الدلائل الراجحة -إذاً- إلى دور الطوسي في تدمير الدولة العباسية بالتواطؤ مع ابن العلقمي، وحتى لو كان فعل ذلك خوفاً من بطش هولاكو كما ذكر بعض المؤرّخين، فما كان في وسعه إلا أن يترك هذا السفاح ويفر بنفسه عند أول فرصة له، لكنّ الرجل آثر الاقتراب من هولاكو، بل قبل تعيينه له نائباً على العراق بعد القضاء على العباسيين، وظل مخلصاً لدولة المغول حتى وفاته عام 672هـ/1273م».
خلص الكاتب إلى القول: «وهكذا يبدو نصير الدين الطوسي نموذجاً حياً من التاريخ الإسلامي على انقلاب العالم أو المثقف على مبادئه بل وأتباعه ومريديه لأجل مصالحه الخاصة، فقد انقلب على الإسماعيلية الذين عاش بينهم ربع قرن وأصبح وزيراً لهم، وباعهم بثمن بخس إلى التتار، ثم انقلب على العباسيين، وتواطأ في مذابح راح ضحيتها مئات الآلاف، ليترك لنا سيرة مُخلَّطة بين تراثه العلمي وانحيازاته الدموية تستحق النظر والتأمل».

أمّا نحن، فنقول بلا استفزاز لأحد: من يتصفّح ملياً وبروح علمية سيرة الطوسي وما وقع فيها من أحداث يجد أنه ملتزم ومقاوم فكرياً ومعرفياً تغالبه نفسه القلقة التوّاقة إلى وحدة الأمة وتأكيد أصالتها وحضارتها. فلم يكن خائناً أو عميلاً للأجنبي كما حال الكثيرين اليوم من أبواق التطبيع والعمالة للمحتل والمستعمر. فلقد ارتأى، وهو العالم الفذّ، اعتماد تكتيك آخر مغاير لمواجهة خطر المغول من خلال المحافظة على منجزات العلوم، داحراً بلغة العلم جهل المغول وفارضاً عليهم سطوة المنطق وهيبة العلم وشعاع الحضارة بكل وقار وسلاسة، وهو ما سنجده مليّاً في تأثيره المباشر على شخصية هولاكو وتصرفاته. من هنا يمكن القول بأنه مثال المسلم المتنوّر، لم يبع مبادئه وعلمه للأسياد المتغطرسين والمتاجرين بالكرامات والعقول والمشترين للأقلام المأجورة وللضمائر كما حال اليوم في عالم السياسة والإعلام. فما أنجزه الطوسي كان جديراً بالاحترام عندما حوّل، بنبوغه وتميّزه، وثنيّةَ المغول إلى إسلامية، فهل هذا عمل يستهان به؟!

وللتنويه، سأعتمد كمرجع بحثي في سرد الوقائع مطولاً وبشكل وافٍ كتاب «ملامح جديدة في سيرورة التغيير» (الدكتور محمد صادق فضل الله، دار الولاء) ومن شاء فليراجع.
أوّلاً: لم يلتحق الطوسي بالإسماعيلية كما تصوِّر المقالة عن طيب نفس. فقد سيق، بحسب الوقائع التاريخية، سوقاً إلى قلعة «الموت» أشهر قلاع الإسماعيلية. لا بل قد اختُطف اختطافاً على ما ذكر الشيخ عبدالله نعمة في كتابه «فلاسفة الإسلام»، ص 478.
كما لم يكن بتاتاً من معتنقي الدعوة الإسماعيلية. فذلك بطلان محض كما يصرّح الطوسي في مقدمة كتاب «أخلاق ناصري». وسيرته الوحدوية مع كل المذاهب والمدارس والعلماء والفقهاء من سنة وشيعة وصوفية تشهد على أنه كان ينظر بعين الإسلام المترفّع عن كل المذاهب والعابر لكل الطوائف والتكتلات. لم ينخرط الطوسي في الإسماعيلية حتى يتركها. وتسليم ركن الدولة الإسماعيلي وحاشيته وأولاده أنفسهم للمغول بعد القناعة الراسخة بعدم جدوى المقاومة وليس لأي سبب آخر. حتى الطوسي نفسه لو رفض لقُتل من فوره، فبقاؤه بالنسبة إليه حياً أجدى وأنفع للمجتمع منه ميتاً. فرميه بالخيانة والتواطؤ مع المغول هو محض افتراء وتعسّف على ما ذكره مصطفى جواد في كتاب «يادنامه خواجه نصير الدين الطوسي».

ثانياً: كنا لنمتلئ شوقاً وحرارة لو أن حكام المسلمين من أمويين وعباسيين وغيرهم من المنحرفين حافظوا على نظافة كفّهم وصحوة ضميرهم ولم يبيعوا أنفسهم لشياطين الأهواء. فمصائبنا لا تزال قائمة بسبب ضعف هذه الفئة وانغماسها أكثر في دنيا الشهوات حتى لو مات الجميع من حولهم وضلوا عن السواء.
منطق الأحداث وتراكماتها المتناقضة من صدر الإسلام الأول يشي بسقوط الدولة العباسية، وليس الطوسي المسؤول عن سقوطها. فسيطرة العصبيات القبلية والعائلية وتكريس الخطاب المذهبي الضيّق والانتصار لأفكار وعقائد واعتماد الظلم والنفي والقهر والاغتيالات والتعذيب وسيلة للإقصاء من قبل بعض الحكام كل ذلك دفع باتجاه زعزعة أسس المجتمع وسيادة الانشقاقات وحلّ الفساد على مستوى الأفراد والمؤسسات مكان التعقّل والتوحّد حول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لا ينسَ المتجاهلون للوقائع أن الخليفة الناصر (575 هـ - 622 هـ) أخطأ عام 613 هـ عندما طلب إعانة جنكيز خان من أجل تثبيت حكمه بعد انتهاء أمر السلاجقة بعدما حرّض هو عليهم. ناهيك عن الإسراف والتبذير والغرق في المظاهر وطلب الشهوات. حتى المغول تفاجؤوا من الغنى الفاحش والترف في وفرة النساء والجواري والذهب.

ثالثاً: لم يهرب الطوسي كي ينفد بنفسه ويترك وطنه وما يعانيه أهله كغيره من العلماء كما جاء في المقالة التي حاكمت الطوسي، والتمست له العذر فيما لو كان هرب من بطش المغول كما فعل كثيرون من علماء ومتصوّفة.
لقد وقع الطوسي في أسر المغول وهو حاول سابقاً رأب الصدع بين الإسماعيلية ومركز الخلافة والتوحّد حول قضية الدفاع عن الأمّة. وقبيل استقراره في طوس هاجر إلى الري وبغداد والموصل ولم يطلب النجاة لشخصه، بل عمل جاهداً من أجل تثبيت جذور الأمة وخلاصها من محنتها عبر نشر العلم والمعرفة وانتشالها من روحيتها المنهزمة والمنكسرة والفوضوية إلى أجواء القوّة والتوحّد والمواجهة والعطاء والأصالة مؤمناً بأن العلم قادر على محو الجهل مهما طال الزمن.
استطاع الطوسي بذكائه وفطنته أن يؤثّر على هولاكو شخصياً وجعله محبّاً للعلماء والفضلاء ومحسناً إليهم وأن يصرف اهتمامه إلى العمران والعلم (ابن الفوطي، الحوادث الجامعة، ص 350).

رابعاً: طالب الطوسي هولاكو بإصلاح الحال وضبط الواقع وتصحيح المسار، ولم يكن شاهد زور أو ناقماً على أحد كغيره من أئمة الغلواء والتزمّت الذين لم يكونوا موضوعيين، بل انطلقوا من خلال ردّات فعل متشنّجة وانتقامية، فكان أسهل شيء عندهم رمي الآخر بالتهمة والكفر وهذا ما قرأناه بشكل واضح ولمسناه في كلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن كثير عن نصير الدين الطوسي.

أخيراً، ترك الطوسي تركة ضخمة من المؤلفات والمنجزات العلمية والمعرفية التي أغنت مسيرة الحضارة الإنسانية ولا تزال ودحضت كل تهمة وافتراء، فتوزّعت أعماله بين العلوم العقلية والرياضية والطبيعية والأخلاقية وفي مجالات متنوعة من شعر وفن وموسيقى ونجوم وفلك وغيرها.

هنا لنا أن نتساءل بعد كل ما تقدّم عمّا تعلّمناه جميعنا عبر القرون من دروس الماضي؟ وأن إذكاء الأحقاد واختلاق الصراعات يدمّران الأمّة ويقضيان على أية فرصة جدّية للتواصل والنهوض من جديد، فهل قدرنا البقاء ضمن استهلاكية الفعل وردّ الفعل؟!
ما تمر به الأمّة اليوم من تحدّيات وما تواجهه من مؤامرات ومشاريع فتنوية خبيثة تستهدف الجميع وتمزيقهم بلا استثناء من مسلمين ومسيحيين لا بد من التنبه له من تفريغ الإنسان من الداخل وجعله يحيا في سياقات التفاهة والسطحية متحرّكاً بعصبيّة شيطانية مغلّفة بمقدّس لا صلة له بطهارة ما، إنما هو دنس يقضي على كل المشتركات التوحيدية التي تصنع إنساناً يمتلك ضميراً حياً ويكون شاهداً على إنجازات مشرّفة تنتشله من مستنقعات التجهيل والاستلاب والتغرّب.
ما يُصرف من مال ويُسخّر من إمكانات هنا وهناك في عالم السياسة والإعلام وغيرهما لو وظِّف في سبيل التوحّد والارتقاء بالحال والنهوض لكانت كثيرٌ من المعادلات والوقائع تغيّرت وكان الإصلاحُ قريب المنال وليس حلماً يُراود الأمّة ويعتصرُ قلبها ألماً.

* أكاديميّ وحوزويّ