المعضلة في لبنان أن حزب الله يملك سياسة خارجيّة صلبة وقويّة وواضحة، ولكنه لا يملك سياسة داخليّة أو اقتصاديّة لمواجهة أكبر أزمة عرفها لبنان (سياسة حزب الله الداخليّة تبدو خصوصاً بعد الانتفاضة مجرّد إلحاق بمواقف نبيه برّي). وهناك، في المقابل، قوى تطلق على نفسها لقب «قوى التغيير» (ماذا حلّ بوصف الثوار؟ هل أن السخرية منه أبطلت صلاحيّته ودمّرت مصداقيّته؟ أم أن مرور الأشهر والسنوات أظهر ارتباط هذه القوى برعايات خارجيّة معاديّة لكل الثورات في العالم؟) تريد هذه القوى أن تستسلم السلطة لها لكن من دون طرح مشروع تغييري داخلي واضح المعالم. وفي السياسة الخارجيّة، كانت مواقف القوى في البداية غامضة ومبهمة ومُوارِبة ثم أصبحت واضحة المعالم لا ترى من خطر خارجي على لبنان إلا من جهة الذين يمدّون مقاومة إسرائيل بالدعم العسكري والمادّي. ولماذا تحوّلت انتفاضة كانت تفترض أنها تعارض حكم الطبقة الحاكمة (اختصرهم شربل نحّاس في ما بعد بالزعماء الستة في خلطة يستوي فيها الذي قاد ميليشيات إسرائيل مع الذي قاد مقاومة إسرائيل) إلى حركة اعتراض على حزب واحد فقط لا غير في لبنان؟ بدأت الانتفاضة اللبنانيّة بكثير من التخبّط لدى الكثير من الأطراف. حزب الله، على لسان أمينه العام، دشّنَ موسم التعليق على الانتفاضة عبر نفي صفة رعاية السفارات لها، لكنه سرعان ما عاد للارتياب بالدور الخارجي الواضح والذي بات راعياً لأكبر عدد من قوى «التغيير» (التسمية للثائر العالمي ديفيد شينكر من معهد اللوبي الإسرائيلي البحثي). لكنّ نصرالله لم يرفق معارضته للدور الخارجي لقوى التغيير ـــــ أو معظمه ـــــ بمشروع اقتصادي محلّي في مواجهة الأزمة، كأن السياسة الخارجيّة تفي بالغرض أو كأن الأزمة على شفير العبور، كما صرّح محمد رعد في السنة الماضية. الحزب قال إن لديه خطة اقتصاديّة سريّة، لكن لا نعرف إذا كانت الخطة تتقاطع مع خطة وزير الماليّة الحالي ـــــ القريب جداً من رياض سلامة. القوى التغييريّة لعبت دوراً موارباً وتوضّحَ أكثر ــــــ بعد مضي وقت على اندلاع انتفاضة سرعان ما خبت ـــــ أن القوى التغييريّة معنيّة بالسياسة الخارجيّة الخليجيّة-الغربيّة أكثر مما هي معنيّة بالتغيير الاقتصادي-الاجتماعي (هناك من يتعامل مع الثورة على أنها جارية طالما أن أتباع النظاميْن السعودي والإماراتي يغرّدون عنها ويضخّون الحماس في مناصرة دولة الإمارات التي تتعرّض لأبشع عدوان يمني فيما يعيش اليمن في منأى عن أي أذى. اليمن له نوايا توسّعية في الجزيرة العربيّة وهو ــــ يا لوقاحته ــــ لا يزال يجاهر بمناصرة شعب فلسطين ومعارضة كل أشكال التطبيع).
لم تنجح حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» (ممفد) في تشكيل حركة جماهيريّة. والحركة تتسم في بنيتها بطابع نخبوي تعليمي، مع ميل نحو المهاجرين الذين يكملون تعليمهم في الدراسات العليا في دول الغرب. لكنّ للحركة، ولشربل نحّاس، دوراً هاماً في الانتفاضة وفي شعارات قوى التغيير. كل قوى التغيير ــــ من اليمين والوسط (لم يعد فيها أي يسار بعد تحوّل يسار لبنان إلى قوى ليبراليّة ورجعيّة على نسق «اليسار الديموقراطي» الحريري) اقتبست وسرقت شعارات «ممفد» ومطالبها في الإصلاح الاقتصادي. والحركة التي وضعت مشروعها في «كتاب» طرحت فيه رؤيتها البعيدة لاقتصاد عادل ومتين في لبنان. لكنّ السياسة الخارجيّة للحركة تحوّلت أمام أنظارنا، كما تغيّرت السياسة الخارجيّة للأجنحة التي كانت يساريّة في داخل الانتفاضة. أسامة سعد بات يتحدّث بنفس لغة بولا يعقوبيان (ولا يذكر أنظمة التطبيع في الخليج بالاسم بل يقول عنها «بعض الأنظمة» لأنها غير معروفة لنا) والحزب الشيوعي لم يصدر بياناً واحداً في الأشهر الماضية لإدانة الحرب التي تشنها السعوديّة ضد لبنان (للأمانة، الحزب أصدر بياناً عنيفاً ضد هذا الكاتب)، وخطاب شربل نحّاس تغيّر جذريّاً عن خطابه قبل سنتيْن.
لم تنجح «ممفد» في تشكيل حركة جماهيريّة والحركة تتسم في بنيتها بطابع نخبوي تعليمي، مع ميل نحو المهاجرين الذين يكملون تعليمهم


لم يكن خطاب شربل نحّاس قبل الانتفاضة يختلف عن خطاب الممانعة بصورة عامّة. (لماذا يحاول البعض النأي بنفسه عن وصف أو صفة الممانعة؟ أنا أفضّل صفة المقاومة لأن مسار الممانعة هو أضعفُ نسقٍ، وهو الذي يفضّله النظام السوري. لكن بين خندق ومحور يضم السعوديّة والإمارات وإسرائيل وأميركا وبين خندق لا يضمّ إلا أعداء إسرائيل، ألا يجب أن ينتفي التردّد في تفضيل أعداء إسرائيل على حلفائها؟) شربل كان يظهر على «المنار» وكان خطابه قويّاً في تأييد مقاومة إسرائيل وكان هذا ما جذب إليه كثيرين في المحور المذكور. أنا ــــ ومَن أنا ــــ كتبتُ الكثير في مديح شربل نحّاس وقلتُ إنني أريدُ حكومة تضمّه وحده حاملاً كل الحقائب الوزاريّة من دون استثناء. لكنّ خطاب شربل تغيّرَ وبات خطابه لا يختلف عن خطاب 14 آذار من حيث ضرورة «حلّ» مشكلة غير موجودة ــــ ألا وهي مشكلة سلاح الحزب التي لا تزعج أهل الجنوب ــــ المعني الأوّل ــــ لكنها تزعج إسرائيل وحلفاءها في الغرب والخليج. شربل أزعج كثيرين وكثيرات في حديثه عن «بيئة المقاومة» (والعبارة ليست له لكنها باتت مستعملة وتبدو محصورة بطائفة تُعتبر أقلّ انتماء للوطن من غيرها خصوصاً أن أتباع السعوديّة والإمارات في الإعلام والسياسة والفن والثقافة باتوا يتحدّثون عن جمهور أكبر حزب لبناني بأنهم «جالية إيرانيّة»، تماماً كما كانت نظرة بيار الجميل وكميل شمعون وإميل إده والبطريركيّة إلى المسلمين ـــــ أصبح هناك تراتبية من الكراهية عند إسلاموفوبيّي لبنان). وشربل تحدّث عنهم كأنهم «هم»، وهناك حساسية عند كل شيعة لبنان من ذلك، تماماً مثل حساسية السود هنا عن حديث «نحن» و«هم» (رئيس الأقليّة في مجلس الشيوخ، ميتش مكونيل، قال قبل أيّام إن السود يقترعون بنفس نسب الأميركيّين ــــ ومقولته غير صحيحة إحصائياً إذ إن نسب السود تقلّ عن نسب باقي البيض مثلاً لكنّ تعبيره أخرج السود من صنف الأميركيّين).
لكن بالتدريج تغيّر خطاب شربل نحاس عن السياسة الخارجيّة وحتى الداخليّة: خطابه عن رفيق الحريري بات لطيفاً للغاية (في مقابلته الأخيرة مع جاد غصن تحدّث عن «أخطاء» لرفيق الحريري كأن المشروع بحد ذاته لم يكن مشروعاً خبيثاً) فيما خطابه عن حزب الله بات حاداً جداً خلافاً لتطرّقه إلى باقي الزعماء. وكما في كل فرق الانتفاضة (غير) الجارية، فإن شعار «كلهم يعني كلهم» بات «كلهن يعني نصرالله فقط». ويفرط نحاس في الحديث عن تسوية إيرانيّة-أميركيّة من تحت الطاولة وأنها هي التي ستفرض تغيّرات على لبنان. لنتناول هذه المقولة التي دشّنها نحّاس وبات الجميع (خصوصاً في المحور السعودي-الإماراتي يردّدها). متى رضخ حزب الله لتغييرات في السياسة الإيرانيّة؟ أتى خاتمي وأتى روحاني وأحمدي نجاد (قبل أن يتحوّل نحو 14 آذار إيران) ولم يتغيّر موقف الحزب. التلميح إلى رضوخ الحزب التلقائي لأوامر إيرانيّة مهين لتضحيات الجنوبيّين ضد إسرائيل. الحزب منذ أن انطلق في مقاومة شرسة ضد احتلال إسرائيل لم يحد في صلابة عمله العسكري ضد إسرائيل، حتى عندما كان في حالة تضاد مع النظام اللبناني ومع النظام السوري. الربط بين المقاومة وبين مفاوضات فيينا ــــ على طريقة تحليلات فارس سعيد وأحمد فتفت في العلاقات الدوليّة ــــ يوحي كأن أهل الجنوب قاوموا الاحتلال لأنهم تلقّوا أوامرَ بذلك من إيران. لكنّ هذا يستدعي مناقشة علاقة التابع بالمتبوع في السياسة اللبنانيّة.
ليس هناك من تبعيّة في علاقة الأحزاب بالآمر الخارجي كما هي اليوم في علاقة أحزاب ومنظمات وشخصيّات مع النظاميْن السعودي والإماراتي. هذه علاقة تابع ومتبوع حيث ليس هناك من ذرّة إرادة محليّة في العلاقة. لا يقوم النظام السعودي باستشارة السنيورة أو سلام أو ميقاتي أو جعجع أو جنبلاط في مسائل سياسة السعوديّة نحو لبنان. في زمن سيطرة النظام السوري، كان قائد المخابرات السوريّة في لبنان يصدر أوامره لكن حتى في تلك المرحلة كان هناك نقاش بين الأطراف. العلاقة بين التابعين وبين السعوديّة والإمارات هي علاقة تمرّست بها أنظمة الخليج: هي تأمر والتابع يطيع من دون مناقشة أو مساءلة. يظهر ذلك في مواقف إعلاميّي وساسة الخليج في بلادنا. ليس فيهم من يجرؤ على مخالفة أمر أو سياسة من تلك الدول (نذكر كيف محا علي جابر تغريدة ترحيب بجاد غصن عندما أعلن الأخير انضمامه إلى محطة إعلاميّة تابعة لمحمد بن سلمان). حتى هؤلاء في صف مُستبدّي الخليج الذين كانوا يغرّدون عن فلسطين مرّة أو مرّتيْن في السنة، توقّفوا بعد أن أعلنوا ثقتهم العمياء بـ«حكمة» الطاغية في أبو ظبي أو الرياض أو دبي. ويسري هذا الكلام على المنظمات المدنيّة والـ«إن جي أوز» التابعين لدول الغرب. الغرب لا يقيم اعتباراً أبداً للتابعين المطيعين له. نذكر كيف أن جنبلاط عبّر عن خيبة في زمن بوش لأنه ــــ بعد أن هتف بأعلى حنجرته في دعم حروب بوش وقال إنه «أُلهمَ» بغزو العراق (ونقلت وسائل إعلام الغرب هذا التصريح لجنبلاط للتدليل على أن الاشتراكي العربي، أي جنبلاط، صدّق أو لا تصدّق، تحوّل بسبب غزو العراق المُلهِم ــــ وجدَ أن إدارة بوش لم تأخذ بنصائحه ولم تغزُ سوريا بناءً على إلحاح زعيم المختارة، أي زعيم ما يقارب 60% من 5% من سكّان لبنان). كان لجنبلاط هامش ضئيل لكن موجوداً في علاقته التبعيّة مع النظام السوري لكنه فقد ذلك الهامش الضئيل بعد أن حوَّل وجهة تبعيّته نحو الخليج والغرب (طبعاً، جنبلاط حافظ على تبعيّة ما نحو الخليج والغرب حتى عندما كان يتلقّى معونة ماليّة شهريّة من إيران).
كيف يمكن لنحّاس أن يشبّه علاقة التبعيّة تلك بعلاقة نصرالله مع إيران؟ نصرالله بات أكبر لاعب في محوره، وهو أكثر نفوذاً في المحور من الرئيس الإيراني نفسه ــــ أي رئيس إيراني، كما أن قائد الحرس الثوري الإيراني هو تابع له أكثر مما هو يتبع للأخير. علاقة قاسم سليماني بنصرالله كانت أقرب لعلاقة التلميذ والمريد بالمرجع (لصالح نصرالله). رأينا بعد اغتيال سليماني أنه كان هناك صورة لنصرالله في دارة سليماني. هل يمكن أن نتصوّر أن هناك صورة لجنبلاط أو جعجع أو السنيورة في منزل محمد بن سلمان أو محمد بن زايد؟ كل طبيعة العلاقة تختلف جذرياً بين هذا وذاك. ومنظمات المجتمع المدني تعتمد للبقاء على قيد الحياة ــــ مثلها مثل وسائل الإعلام «الجديد» الذي يقول عن نفسه إنه «مستقلّ» لأنه يخبرنا أن التمويل الأوروبي هو بلا شروط لأن ليس لأوروبا مصالح في منطقتنا ولأن أوروبا محايدة في الصراعات في منطقتنا ــــ على التمويل الغربي. والغرب في هذه الحالات يضع أجندة المنظمات هذه ــــ ويصكّ حتى مصطلحاتها ــــ وهو يمعن في تمويلها طالما هي أطاعت ونفّذت. هل هي صدفة أن ليس هناك من منظّمة مدنيّة واحدة تؤيّد مقاومة عسكريّة ضد إسرائيل؟ ولا واحدة، مع أن الشعب اللبناني منقسم إلى نصفين حول هذا الموضوع. هل يُعقل أن ليس هناك من منظّمة مدنيّة واحدة تعبّر عن مواقف الشطر من السكّان الذي يؤمن بمقاومة إسرائيل؟ ولو حاول أي تنظيم مدني تأييد مقاومة إسرائيل يفقد تمويله على الفور (لم تلاقِ الحملة الظالمة التي تجري في وسائل الإعلام الألمانيّة ضد العاملين والعاملات العرب فيها بسبب تغريدات ضد إسرائيل من تغطية في الإعلام العربي لأن ذلك يزعج دول الغرب). كيف يغفل نحاس عن طبيعة العلاقة التي تربط نصرالله (وحزبه) بإيران والتي تعكس إرادة محليّة أكبر بكثير من علاقة خصوم حزب الله (السياسيّين والمدنيّين) برعاتهم؟ نصرالله أكبر نفوذاً في محوره من بشّار الأسد ومن كل قادة إيران باستثناء الوليّ الفقيه الذي يستشيره. هل استشار ملك سعودي يوماً سياسياً لبنانياً؟ واسألوا جنبلاط عن تاريخه الطويل في التبعية لمحاور متعدّدة.

لماذا لا يقول نحّاس إن السعودية والإمارات والغرب هم الذين رموا بصراعاتهم وتعصّبهم وصهيونيّتهم بين ظهرانينا لتطويع الشعب اللبناني؟


وعندما استمعتُ لنحّاس في الجزء الأوّل من مقابلته الأخيرة مع جاد غصن قلتُ في نفسي: أجزم أن أوّل حزب سيذكره نحّاس سيكون حزب الله. ولماذا بين كل الأحزاب التي غرفت من معين الدولة ومال الناس لا يذكر نحّاس إلا الحزب؟ لماذا هذا التركيز عليه أكثر من غيره؟ ويقول نحّاس بعد أسابيع من حملات خليجيّة ضد حرّية التعبير في لبنان (السعوديّة طالبت ونالت إقصاء وزير خارجيّة في الحكومة السابقة ووزير إعلام في الحكومة الحاليّة وهي أقصت بأمر سعد الحريري وأمرته بحلّ حزبه ومنعه من خوض الانتخابات النيابيّة) أن الحزب (لم يسمّه لكن الكلام كان واضحاً) استقدم «بلهفة كل نزاعات الإقليم والعالم» فيما أن الأطراف المتصارعة تتحاور (قصده طبعاً عن فيينا لكن يبدو أن نحاس لم يلاحظ أن إيران رفضت على مرّ أشهر التفاوضَ المباشر مع أميركا وهي تقول إنها لا تقبل بذلك من دون تقديم تنازلات من قبل أميركا). ونحّاس يتحدّث عن الحزب كأنه بات التجسيد الوحيد للنظام، أو أن رياض سلامة هو صنيعة الحزب لا صنيعة أميركا والسعوديّة ورفيق الحريري شخصياً. لكن: كيف استقدم الحزب نزاعات الإقليم والعالم؟ كيف تجلّى ذلك؟ هل أن حزب الله هو الذي زرع الدولة اليهوديّة العنصريّة العدوانيّة على حدودنا الجنوبيّة؟ هل أن الحزب هو الذي جلب عصابات التطرّف المسلّحة في سوريا أم أن الغرب والخليج هم الذين جلبوها إلى ديارنا وتعاونت معهم في ذلك أطراف لبنانية خصوصاً الحريريّة وعناصرها في الدولة، مثل وسام الحسن وجهازه المستقلّ عن باقي الدولة؟ ما هي النزاعات التي استقدمها الحزب؟ هل هو الذي استعدى أميركا وفرض عقوبات ضدّها أم العكس؟ هل يقصد نحّاس أن الحزب مسؤول عن حالة العداء والحروب التي يشنّها الغرب والخليج بالنيابة عن إسرائيل؟ وهل أن الحزب هو الذي شنّ حرباً في اليمن أم السعودية والإمارات والغرب؟ ما الذي رآه أو ضايقه من دور الحزب في اليمن؟ ثم ما هو حجم دور الحزب في اليمن، أم أن نحاس تأثّر بالإعلام السعودي والإماراتي الذي ــــ رغبة منه في التخلّص من الاعتراف بدور جرائمه المستمرة والمتزايدة ضد أهل اليمن ــــ يريد أن يحمّل كل مصائب المنطقة لأعداء إسرائيل فيها؟
لماذا لا يقول نحّاس إن السعودية والإمارات والغرب هم الذين رموا بصراعاتهم وتعصّبهم وصهيونيّتهم بين ظهرانينا لتطويع الشعب اللبناني؟ لم يصدر بيان واحد من «ممفد» عن الحملة الخليجيّة الوحشيّة ضد لبنان ــــ في زمن يعاني فيه لبنان من أصعب أزمة معيشيّة في تاريخه؟ أم أن نحّاس يقصد أن على لبنان ــــ وهذا منطق صف 14 آذار وتوابعه وملحقاته ــــ الاستسلام للمشيئة الخليجيّة وأن يخضع لبنان بالكامل لمصالح أنظمة الخليج (هذا ما وعظَ به حازم صاغية في جريدة محمد بن سلمان، «الشرق الأوسط»، عندما أوضح أن الليبراليّة العربيّة لا تؤمن بحريّة تعبير لا تخضع للمصلحة الوطنيّة العليا للنظام السعودي)؟ ولماذا يتمّ التطرّق بصريح العبارة إلى إيران ودور إيران، ويغفل شربل أخيراً أي حديث عن أنظمة الخليج الغارقة في تأجيج الأزمة اللبنانيّة؟ ومنطق أن الحزب هو الذي يستجلب «نزاعات الإقليم» يعني أن على لبنان الالتزام بالحياد (الكاذب) الذي يدعو إليه البطريرك الماروني. لا، ويضيف نحّاس أن الحزب يستجلب نزاعات الإقليم من أجل إخضاع الشعب اللبناني. هنا، فاتني الربط. هل أن الحزب يتدخّل في اليمن لتطويع الشعب اللبناني (مقولة أن الحزب يتدخّل في اليمن هي أكذوبة من البروباغندا السعوديّة التي زعمت أيضاً أن الحزب تدخّل في البحرين. وهل أن الحوثيّين بعد سنوات من القتال الشرس والبطولي يحتاجون إلى مشورة في خوض الحروب؟)
ونزاعات الإقليم تضم في كل عناصرها دوراً لإسرائيل. وشربل نحّاس بعد أن افترق (ولأسباب ليست واضحة ـــــ ليست واضحة لي على الأقل) عن خط المقاومة يشدّد أن حركته لديها موقف مبدئي ضد إسرائيل (والموقف المبدئي ضد إسرائيل لا يكفي على الإطلاق إذا لم يكن مقروناً بترجمة عمليّة ـــــ لقد كان للملك فيصل موقف «مبدئي» معادٍ لليهود كيهود ولدولة اليهود لكنه لم يُقرن ذلك بأي ترجمة عمليّة لا بل هو تعاون مع إسرائيل في حرب اليمن وعادى ألدّ إسرائيل مثل نظام ناصر وحركات المقاومة. الموقف المبدئي لا معنى له من دون إصدار موقف تأييدي لما تبقّى من مقاومات فعليّة في المنطقة العربيّة ــــ أي لبنان وفلسطين). والتنصّل من صراعات الإقليم كأنها تزورنا بإرادة تخريبيّة من الحزب يعني أن الموقف المبدئي لـ«ممفد» ضد إسرائيل أصابه تراخٍ. إن صراعات الإقليم تضمّ إسرائيل والموقف المبدئي ضد إسرائيل لا يلتزم الحياد منها بل يقف في الخندق المواجه لإسرائيل. إسرائيل والغرب والخليج في خندق واحد في حرب اليمن (والسعوديّة هي التي بدأت الحرب لا حلفاء الحزب هناك) والموقف المبدئي يتطلّب معاداةً لموقع إسرائيل وحلفائها خصوصاً بعد إعلان التحالف بين إسرائيل والإمارات.
كان بيار الجميّل يقول بعنصريّة وطائفيّة سافرة إن المسلمين لا قيمة سياسيّة لهم لأنهم مجرّد أدوات بيد منظمة التحرير. المنطق الطائفي والعنصري يقلّل أو ينفي الإرادة الذاتيّة التقريريّة عن الأفراد من العنصر المُحتقَر. لا أتصوَّر أن شربل نحّاس يقول بهذا المنطق البعيد عن تفكيره لكنّ الانسياق أو الانجرار في خطاب نسب كل مواقف أهل الجنوب في دعم مقاومة إسرائيل إلى مجرّد ملفّ أو مسؤول في إيران ينزع عن أهل الجنوب سلطة وإرادة التقرير الذاتي. إن ملفّ مفاوضات فيينا منفصل عن ضرورة الحفاظ على مقاومة تحمي لبنان (وهي مشكلة فقط لإسرائيل وأعوانها في المنطقة) وإيران، في عام 2015 والآن ترفض مجرّد البحث في القضايا الإقليميّة مع أميركا، بالرغم من محاولات حثيثة من قبل الأخيرة. إن التحذير من مغبّات انعكاس مفاوضات إيران على وضعنا في لبنان يجب أن يتوجّه إلى أدوات أميركا في لبنان، وليس إلى أعدائها.

* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر asadabukhalil@