«الكرم هو الفضيلة الأساسية لحاكمها، فلا تحتاج للسعي للحصول على شرعية من خلال التمثيل الديموقراطي» جيكامو لوسياني عن الدولة الريعية
سبع سنوات مرّت على تولي الملك سلمان العرش. إن رجعت بالزمن وقلت لأي مواطن إن المملكة ستكون كما هي عليه اليوم، فسيضحك في وجهك ولربما يسمك بالجنون. الكثير تغيّر، حيث أدّى التحوّل في الأجيال، الذي أنتجه صعود ابن الملك الشاب، إلى نقلة نوعية في آلية عمل السلطة. اليوم، للدولة ومؤسّساتها رؤية وبرامج تحوّل، أدّت إلى بث حيوية وحركة لجهاز بيروقراطي صدئ وإنعاشه على وتيرة سريعة.
(الأخبار)

اتخذ التغيير شكل انقلاب في ميزان التناقضات الاجتماعية. المجال العام السعودي، الذي طالما كان تحت سطوة المتديّنين وقاموا بهندسته وتشكيله، قد تبدّل إلى النقيض من انفتاح اجتماعي ودخول أوسع للمرأة في المجال العام. ولئن كان هذا التغيير من ناحية الشكل فهو يحمل أيضاً في طيّاته مضامين بوادر التحوّل الاقتصادي الذي تمرّ فيه البلاد ليتناسب مع بيئة صديقة للأعمال والاستثمار والنيوليبرالية، حتى صارت توصف الرياض من قاطنيها «وكأنك في دبي».
تفترض المدة الزمنية القصيرة التي حدث فيها هذا التغيير خلال سني هذا العهد الجديد، ولوهلة، نوعاً من الجذريّة والضخامة. ولعل السؤال الذي يطرح هنا «أين الوهابية؟». فكيف لدولة كانت في مخيال شعوب العالم مرتبطة بالتزمّت الديني والإرهاب، و«أم وأب الإسلام السياسي» كما يسمها جمال خاشقجي، أن تتحوّل في أقل من عقد إلى «الدولة التي ستحوّل الصحراء إلى مدينة مستقبلية» كما يعلّق أحد الغربيّين بعدما غزت إعلانات مدفوعة عن مدينة نيوم شاشة حاسوبه.
لعل أهم الدروس هنا، والتي يجب تعلّمها اليوم حول المملكة، هي تلك الصورة التي ربطت الوهابية بشكل متلازم وحصري مع ماهية السعودية، حيث كان الافتراض السائد ولمدة زمنية ليست بالبعيدة بأن عملية اجتثاث الوهابية أو تحجيمها بهذا القدر، خيار انتحاري بالنسبة للحكم السعودي وشرعيته. حتى إن أمراء سعوديين أنفسهم كانوا يؤمنون بذلك. لكن كل هذا لا يقتضي أن الوهابية انتهت، بل إن المسألة أن الوهابية تمر بأسوأ مراحلها التاريخية في علاقتها مع السلطة، إلا أن الجميع لم يتوقع أن حبل الشد والجذب بينها وبين الدولة سيصل لما هو عليه اليوم.
ومن هنا، ومن باب النقد الذاتي، يستدعي الأمر إعادة فهم ديناميكيات الحكم السعودي، فكيف للكثير أن يتغيّر بهذا الشكل دونما مخاض عسير يتناسب مع التصوّر السابق عن متانة تحالف «الشيخ والأمير» وعلاقة المؤسّسة الدينية والمؤسّسة السياسية وكل الأدبيات الكلاسيكية المرتبطة بالمملكة العربية السعودية.

الكثير لم يتغيّر
تعود بنا محاولة النقد هذه إلى التصوّر المرتبط بالوضع اليوم، فهل تغيّر الكثير حقاً؟ وتدفع بنا محاولة الإجابة إلى مقاربة السعودية كدولة ريعية، دولة مستقلة مالياً عن مجتمعها، تكون فيها «الحياة من دون عمل، الحياة مجاناً» كما يصف الكاتب البولندي ريزارد كابوشنسكي سلطة الشاه في إيران وانحدارها. فالذي يحدث في عهد الملك سلمان وابنه، حتى اليوم، ليس تغييراً بل مخاض لتغيّر محتوم مرتبط بانحسار دور النفط.
تكمن المسألة في أن فائض القوة التاريخي (القوة الاقتصادية التي مكّنتها الوفرة التاريخية لريوع النفط والصناديق السيادية، وقوّة الإرث التاريخي للعائلة الملكية) للحكم السعودي قد مكّن هذا التغيّر السريع والانقلاب في الصورة من الحدوث دونما هزّة كالتي كان يفترض حدوثها، خصوصاً في تحليل تلك الأدبيات التي صوّرت استمرارية لعب الوهابية كشرعية حكم خلال غزوات الملك عبد العزيز وتأسيس حكمه للدور ذاته بعد الطفرة النفطية. ففي الواقع، تحوّلت الوهابية من بعد اكتشاف النفط إلى نوع من أدوات السلطة أكثر من كونها شرعية حكم، أو أقلاً أحد الأقطاب الرئيسية للشرعية.
تتسم النظرة اليوم للمجتمع باختزال ذي مكنون طبقي ومركزي حاد والمواطنون الذين لا رأس مال مادي ولا اجتماعي لهم إمّا في المعتقل، كالإسلاميين، أو يتم تجريف قراهم وأحيائهم، كما يحدث في حواري جدة


إن فائض القوة، والطبقة المتوسطة المتينة التي أنشأتها الطفرات النفطية، بما في ذلك حالة النشوة بالثقافة المعولمة والاستهلاكية والتغيّر في الأجيال، هي العوامل التي يعتاش عليها الحكم السعودي اليوم. وهو فائض يستهلك وينكمش يوماً بعد يوم، خصوصاً أنه، وبمنظور شعبي، فإن المجتمع لم يستوعب بعد أن صلب العقد الاجتماعي الضمني الذي بينه وبين الدولة (والذي كان القطب الرئيس لشرعية الدولة لعقود، والمتعلّق بالزبائنية والكرم في توزيع الريوع عبر مجانية الخدمات وانتفاء الضرائب) هو في طور الأفول، وأن الحياة لم تعد ولن تكون مجاناً كما من قبل.

أناركية الشرعية
من الواضح أن الطبقة السعودية الحاكمة اليوم لا ترى أن عماد وجودها المتعلّق بالتغيير والتجديد النيوليبرالي، أو ما يطلق عليه أحد الباحثين السعوديين «شرعية العولمة»، لن يمكّنها من الاستمرار، وهي لن توفّر، لأسباب ذاتية، بديلاً تاريخياً من الوهابية والصيغة الدينية كأحد روافد الشرعية. فإن كانت اللحظة التغييرية هذه تتقاطع من جهة مع حيوية غير مسبوقة لأجهزة الدولة، ومع جيل شباب ذي شراهة للترفيه والاستهلاك، من جهة أخرى، فإنها حتماً لن تستمر. كتب عبد الرحمن الراشد مقالاً منذ أسابيع عنونه: «البوليفارد مسرح التغيير الكبير»، مشيراً إلى أن زيارة السعوديين للبوليفارد في الرياض (وهو أكبر مناطق «موسم الرياض» ومساحة تسويقية تحاول أن تستوحي ميدان تايم سكوير في نيويورك) وبأنها بمثابة تصويت جماعي على نجاح «التبديلات الإيجابية»، ليكمل أن هذه المشاريع كمثل الدعاية السياسية، وأن من يتتبع المسار الزمني للسنين الماضية فهو أمام دولة باقتصاد قوي تحت التأسيس. يختم الراشد مقاله بأن «موسم الرياض» كان «مسرحاً كبيراً يعرض الأفكار والتغيير والنتائج»، ولم يكن لأحد أن يصف التغيير آخر خمس سنوات على الأقل بدقة أكثر من ذلك. فهذه الجملة تعكس المنظور الذي سبق ذكره عن كيف تنظر الدولة السعودية ونخبتها لذاتها وللمجتمع الذي تتفاعل معه.
تتسم النظرة السعودية اليوم للمجتمع باختزال ذي مكنون طبقي ومركزي حاد. فالمجتمع و«الشعب السعودي» هو تلك الشرائح التي تنخرط وتنسجم مع آلية التغيير النيوليبرالية وقابلة للاحتواء فيه ـــ وهي شرائح ليست بالقليلة لتراكمات تاريخية. فكما تتعامل هذه النخب مع الفضاء العام الإلكتروني، «تويتر»، بعد هندسته القمعية على أنه تمثيل لما هو الشعب وخياراته، ترى عين الدولة وأجهزتها الناس على أرض الواقع في آلية اتخاذ قراراتها بذات المنظور. وعليه، يكون أساس التهميش هنا أن صاحب القرار يتحكّم بأجهزة دولة عملاقة بشكل مركزي تشكّل العاصمة الرياض قلبه ويقوم بمشاريع كبرى تستهدف خدمة تلك الشريحة بعينها، وليعيد تشكيل البلاد طولاً وعرضاً وفقاً لتصوّره هو. وهنا لا مكان للمواطنين الذين لا رأس مال مادي ولا اجتماعي لهم (بمعنى أن هيأتهم الخارجية من لبس ولون ومنطوق لا تتناسب مع ذائقة مركز الدولة كما مع الأقليات في أميركا)، فيكونون إمّا في المعتقل، كالإسلاميين، أو يتم تجريف قراهم وأحيائهم، كما يحدث اليوم في حواري جدة حيث يعاد تشكيل المدينة بشكل جديد و«حضاري» ويكونون أحد نتائج أفكار التغيير إذا ما استعرنا من الراشد. المسرح الكبير الذي يتحدث عنه الراشد هو في الواقع في غاية الضيق، وهو ما يشي بأزمة في الأفق. فحتى مع افتراض أفضل سيناريوات التغييرات النيوليبرالية تفاؤلاً، فإن شكل المجتمع في البلاد لن يكون كما يتصورّه هذا العهد، في أن ثمرة النيوليبرالية ستجعل من ريادة الأعمال و«الحلم السعودي» رافعة لشرعية مؤسسات الحكم، حيث أنه ومن الواضح أن هذه النخب تحاول القفز على الحقائق الديموغرافية لتستنسخ نماذج قطر والإمارات حيث صغر الحجم السكاني ينعكس على انقسامهم الطبقي وسط الاعتماد على ملايين المقيمين كعماد للاقتصاد.
وللمفارقة تعيش شرعية النيوليبرالية، من ناحية تكتل رؤوس الأموال، ذات الضيق والمركزية الجغرافية للوهابية، إلا أن الفحوى الأيديولوجية الوهابية، مدعومة بالريوع، تمكّنها من التمدّد لكل المناطق والأحياء، بينما أنك تحتاج المال لتفتح مشروعاً وتتاجر وتراكم الثروة وتكون ريادياً. يكون هذا التناقض حالة من الأناركية في ماهيّة الدولة اليوم، شرعيتها عند الناس، وكيف تبرّر الضرائب وغلاء الأسعار وانكماش الخدمات الحكومية. فلم تعد العلاقة الرعية والأبوية هي القاسم الأكبر لمكنون المواطنة بل كل شريحة في البلاد تنسج علاقة مختلفة مع الدولة ومؤسسات الحكم.
تضافرت خلال السنين الماضية عوامل تغيير متداخلة، من مخاض تحويل العمليّة الوراثية وحصرها في أحد الأجنحة، وصولاً إلى المغامرة الجريئة لزمرة أمير وحواريّيه لإعادة تشكيل الدولة بشكل ذي طابع طفولي ومتعنّت، وبشكل استهلك كثيراً من فائض القوّة للدولة، سواء المادي أم المعنوي، داخلياً وخارجياً. ليكون السؤال الاستشرافي الرئيس للمرحلة المقبلة: هل كانت هذه السنوات السبع منحنى تعلّم للأمير السعودي بالتجربة وإن كانت على حساب أرواح ودماء الملايين من البشر وبشكل لعلّه يعي أن عرش الحكم لم يعد مجاناً ومجرّد غنيمة تاريخية من الأجداد؟ أم أنه سيستمر بقيادة البلاد نحو المجهول؟
* كاتب عربي