ليست الحرب الخليجيّة - الغربيّة على اليمن حرباً عاديّة أو روتينيّة. أُريدَ لها أن تصبح حرباً خاطفة لكنها عصت على الغزاة. هذه حربٌ كان المُراد منها إطلاق قيادة محمد بن سلمان لتتويجه ملكاً على السعوديّة، وبرضى إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما «الليبراليّة». كان مُفترضاً بالحرب أن تنتهي بعد أسابيع فقط ـــــ كل قادة الخليج معجبون بعقيدة إسرائيل العسكريّة في الحرب الخاطفة، لكن أهلنا في جنوب لبنان قبروا عقيدة الحرب الإسرائيليّة الخاطفة في حرب تمّوز وعلى مدى ثلاثة وثلاثين يوماً. «عاصفة الحزم» كانت تتمتّع بدعم غربي وخليجي على أساس أن الجيشين السعودي والإماراتي سيحسمان المعركة في غضون أيام أو أسابيع على الأكثر. يعترف الأميركيّون (المسؤولون شراكةً عن جرائم حرب اليمن) أن النظام السعودي حضّرهم لحرب خاطفة، وأن الحكومة الأميركيّة أمدّتهم بالسلاح والمعلومات الاستخباريّة على أساس هذه الفرضيّة. لم تعترض الحكومة الأميركيّة على الحرب بل هي اعترضت، بصوت خافت، على شدّة الحرب وتسعيرها وطالبت بوقفها لكن مع تحميل المسؤوليّة الكبرى لحركة «أنصار الله». وحسب سفيرة أميركا في الأمم المتحدة، فإن: قصف المنشآت الصناعية في أبو ظبي يُعتبر إرهاباً، لكنّ قصف المدنيّين في اليمن هو وسيلة عسكرية مشروعة.
بعنوان «من فلسطين هنا اليمن» (حنين نزال - رام الله)

الحرب الخليجيّة على اليمن هي وصمة عار في التاريخ العربي المعاصر. صدفَ أن الشعب اليمني فقير ومحاصر وممنوع من استثمار صحيح للثروات في باطن أرضه، ما أدّى عملياً إلى منعه من التأثير على عواصم القرار في الغرب، ولابتياع الفنانين والإعلاميّين والمثقّفين الذين تنقّلوا في التاريخ العربي المعاصر من نظام نفطي إلى آخر. في حقبة السبعينيّات، تجد أن معظم المثقّفين دانوا بالولاء للنظام الليبي أو العراقي. كانت تلك الوجهة في ذلك الزمن. بعد اجتياح الكويت، نفدت ثروة النظام العراقي، والقذافي حوّل وجهته عن العرب نحو أفريقيا. أصبحت أنظمة الخليج هي الوجهة. تجد من كان موالياً للقذافي في السبعينيات والثمانينيّات باتَ موالياً للنظام السعودي والإماراتي اليوم. رفيق الحريري ابتاع طبقة هائلة من المثقّفين وكان يستمتع بشراء أو استئجار اليساريّين منهم إمعاناً في إذلال فكرة الثورة على الرأسمالية وتوزيع الثروة. واليساريون السابقون هم الأكثر تطرّفاً في الولاء في بلاط الحريري وفي بلاطات أبو ظبي ودبي والرياض. فؤاد مطر كان الأرشق في انتقاله من الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى الناصريّة إلى الساداتيّة إلى أن استقرّ في حضن نظام صدّام حسين الذي أسّس له مجلّة «التضامن» في لندن، قبل أن يستقرّ ــــ بعد نفاد المال الصدامي للإعلام ــــ في حضن إعلام آل سعود. والطريف أن المتنقّلين لا يقلّون حماساً في الانتقال من جريدة إلى أخرى ــــ من حاكم إلى أمير، لا بل يبدون حماساً زائداً مع كل انتقال. حازم صاغية دعا عندما كان كاتباً في «السفير» إلى قتل أنور السادات لكنه أصبح داعي سلام مع إسرائيل في صحف أمراء آل سعود. وحرب اليمن وانعدام تغطية حرب اليمن هما جانب من طبيعة ودور النخب الثقافيّة في العالم العربي.
حرب اليمن هي ــــ حسب الأمم المتحدة ــــ أكبر كارثة إنسانيّة في العالم حالياً. قبل سنة، قدّرت الأمم المتحدة عدد ضحايا الحرب بربع مليون يمني ويمنيّة. وهؤلاء لا يُحسبون على العرب لأن كل من يعارض مشيئة الحلف السعودي - الإسرائيلي - الإماراتي يُطرد من العروبة ويُضاف تلقائيّاً إلى أمّة الفرس. اليمنيّون في مواجهة الحرب الوحشيّة هم إيرانيّون، والعروبة تتجسّد في حمم القذائف والصواريخ التي تنهمر على رؤوس الآمنين في الأعراس والمآتم والمستشفيات والمدارس في اليمن. وحسب بروباغندا النظامين السعودي والإماراتي (وإسرائيل من ورائهما) فإن التضامن مع قصف اليمن هو من متطلبات العروبة. العروبة التي كانت تعني، في ما تعني، وحدة العرب ومعاداة الصهيونيّة تحوّلت بين أيدي محمد بن سلمان ومحمد بن راشد ومحمد بن زايد إلى المجاهرة بالصهيونيّة وشرذمة العرب. وكل من يحارب إسرائيل يخرج عن عروبته: خرج أكبر حزب لبناني عن عروبته ووطنيّته وأصبح «جالية إيرانيّة» (طبعاً، التصنيف هو طائفي محض يقارب كلام إميل إدّة الذي نُسبت إليه فكرة طرد المسلمين إلى مكّة) فقط لأنه أذلَّ إسرائيل. إذلال إسرائيل مناقض لعروبة مستبدّي الخليج. والمحور المعادي للعروبة التقليديّة استحوذ على شعار العروبة، وهو الذي عادَ على مرّ العقود كل التجارب والأفكار الوحدويّة والعروبيّة. الذين تكالبوا ضد عبد الناصر سرقوا منه شعار العروبة، وأفرغوه من محتواه.
ربع مليون يمني ماتوا في حرب تثبيت محمد بن سلمان على عرش أبيه. حصار وتجويع ضد شعب بات يُختصر بكلمة «حوثيّين». وفي القصف الأخير ضد منشآت صناعيّة في أبو ظبي، أعلنت الحكومة الأميركيّة أن لا يدَ لإيران في القصف، لكنّ أبواق النظاميْن (الشرّيريْن، والشرّ هنا بالمعنى العلماني للكلمة أي الصهيونيّة والرجعيّة والخبث والنفاق) تصرّ على أنها حرب إيرانيّة. حرب تحرير الجنوب كانت حرباً إيرانيّة فيما أصبح طلب التطبيع مطلباً وطنيّاً سياديّاً. التنازل عن ثروات النفط والغاز وتسليم أمرنا لوسيط إسرائيلي هو أيضاً ذروة السيادة (لا يمكن لـ 8 آذار أن تتنصّل من قبول وسيط إسرائيلي بيننا وبين إسرائيل، وفكرة طلب وسيط أميركي بيننا وبين أقوى حليف لإسرائيل تعود للثنائي بري - عون. يختلف الثنائي في كل شيء إلا في فكرة أن أميركا هي وسيط محايد ونزيه بيننا وبين إسرائيل). والنخبة الإعلامية والفنيّة والثقافيّة صامتة إزاء الحرب الوحشية في اليمن. ليس لليمن لوبيات في عواصم الغرب، وليس لليمن ما يسمح بشراء الإعلاميّين والفنانين اللبنانيّين المعروضين للبيع والإيجار.
الحرب السعودية - الإماراتيّة على اليمن ليست حول إيران، وهي ليست حرباً بالواسطة إلا في أن اليمنيّين وجدوا أنفسهم هدفاً لحصار وتجويع خانق فاستنجدوا بإيران. حتى وثائق «ويكيليكس» الأولى التي شملت برقيات أميركيّة ديبلوماسيّة اعترفت أن الحوثيّين ليسوا ــــ أو لم يكونوا ــــ أداة إيرانيّة وأن هناك خلافات عقائديّة بين الطرفين. لكنّ استعار الحرب واستمرارها أجبراهم على الاستعانة بالحلفاء الوحيدين الذين يجرؤون على مخالفة مشيئة التحالف السعودي - الإماراتي - الإسرائيلي. ليس للعقيدة الحوثيّة وليس لشعاراتها (المُنفّرة) علاقة بالحرب على اليمن. الحرب الحالية هي استمرار للهيمنة التي يريد النظام السعودي بسطها على كل الجزيرة العربيّة، وعلى العالمين العربي والإسلامي. والنظام السعودي ليس طائفيّاً في حروبه وهو مرن في تحالفاته. النظام أقرب إلى الشيعي صبحي الطفيلي وعلي الأمين (مفتي صور المطرود) منه إلى سليم الحصّ أو عبدالله اليافي أو عمر كرامي. النظام اليوم أقرب إلى صهاينة إسرائيل منه إلى قادة الدول العربية والإسلاميّة. كان النظام يدعم الإمامة الزيديّة في الستينيّات عندما كانت تواجه قوى الجمهوريّة التقدّميّة التي تلقّت احتضان النظام الناصري. أنظمة الخليج لم ترَ غضاضة في التحالف مع الشاه، الذي كان وثيق الصلة بإسرائيل وكان يسلّح ويموّل ميليشيات اليمين الرجعي في لبنان لحساب إسرائيل. النظام السعودي حارب اليمن الجنوبي، التجربة الماركسيّة الوحيدة في الحكم، وقد شابها ما شابَ كل تجارب الأحزاب الشيوعيّة العربيّة من قصور في إيجاد حلول محليّة. والنظام السعودي كان الوكيل المحلّي (مع الشاه وإسرائيل) لقطع دابر اليسار والتقدّميّة في كل الجزيرة في سنوات الحرب الباردة: من البحرين إلى عُمان إلى اليمن والكويت. محاولة ربط الحرب على اليمن بصراعات بالوكالة بين إيران والسعوديّة تتغاضى عن عقود طويلة من هيمنة وحروب سعوديّة في الجزيرة. يكفي أن نتذكّر أن عائلة آل سعود اجتمعت قبل عقود وعيّنت الأمير سلطان أميراً ممسكاً بملف الهيمنة على اليمن.
كان الخطاب الليبرالي المعادي للتحالف مع الطغاة كلاماً سياسياً يصلح لحملة انتخابيّة ضد دونالد ترامب وصدّقت الصحافة السائدة هنا كلام وعود بايدن إلى أن توضّحت الصورة


لم تعد الحرب اليمنيّة حرباً لليمن وحده، ولا لمحور وحده. هي ليست حرباً بالواسطة بالمعنى المُتعارف عليه. ليست حرباً بين السعوديّة وإيران. هي بدأت قبل أن تعرف إيران شيئاً عن الحوثيّين. هذه حرب يخوضها الشعب اليمني برمّته (باستثناء مرتزقة السعوديّة والإمارات ــــ كيف يمكن أن ننسى أن عبد الملك المخلافي باع ناصريّته ووحدويّته وتقدّميّته كي يصبح بيدقاً صغيراً بيد الحكم السعودي، أي العدوّ التاريخي لجمال عبد الناصر، وكيف يمكن لناصري أن ينتقل من صف مشروع عبد الناصر إلى مشروع أعدائه. لكن نحن في لبنان حيث انتقل صفّ من كوادر وقادة منظمة العمل الشيوعي إلى حاشية رفيق الحريري صاحب أعتى مشروع يميني في تاريخ الجمهوريّة). والشعب اليمني لا يخوض الحرب بالنيابة عن اليمن فقط بل بالنيابة عن الشعب العربي كلّه لأنه يقول لا فيما فرض المال السعودي - الإماراتي الطاعة والخنوع على النخب الثقافية والفنيّة والإعلاميّة والسياسيّة (ماذا حلَّ بوعود قيس سعيّد ضد التطبيع، وماذا حلّ بكلامه بالفصحى عن شرّ التطبيع. هل تبخّر كل ذلك لأن المستبدّ يجد عوناً له من مستبدّي الخليج). الشعب العربي برمّته مقموع لأن الساحة العربية خلت للهيمنة السعوديّة - الإماراتيّة (بالتشارك مع إسرائيل) لفرض أجندة الطاعة والتطبيع والخضوع.
تقول الصورة التنميطيّة عن شعب اليمن إنه جيش من الحفاة. لا، هؤلاء يستعملون كل ما لديهم من سلاح وتكنولوجيا في دفاعهم عن أنفسهم. هم ضربوا منشآت صناعيّة في الإمارات فيما يقصف العدوان الخليجي أهدافاً مدنيّة بالخالص. واستعمال المسيّرات في إصابات دقيقة للغاية هو أشبه بالمعجزة. لكن حرب الدفاع اليمنيّة ليست أقلّ من ملحمة، كما وصفها عامر محسن. هي ستُدرَّس في المعاهد العسكريّة في العالم كما دُرّست تجربة الفيتكونغ (تخيّل أن هناك كليّة عسكريّة في العالم تُدرّس التجارب الاستعراضية لياسر عرفات في بيروت). العدوان على اليمن هو عدوان عالمي تشارك فيه أنظمة الخليج ودول الغرب وإسرائيل (لم يكن هناك حرب في اليمن أو ضد اليمن لم تشارك فيها إسرائيل، كما شاركت في حرب السلطان قابوس ضد ثورة ظفار في عمان). الحرب التي كان مُقدّراً لها أن تستمرّ أسابيع فقط (ويعتبر مسؤولو الإدارة الأميركيّة في عهد أوباما أنه صدّق وعد محمد بن سلمان في هذا الصدد) تدوم للسنة السابعة على التوالي بفعل شجاعة وابتكار وصمود وإصرار الشعب اليمني. عُرضَ على الشعب اليمني وقف الحرب مقابل قبوله بشروط اعتبرها مهينة لكنه رفض أي بحث قبل رفع الحصار الوحشي عن ميناء الحديدة. النظامان السعودي والإماراتي يمنعان القوت عن الشعب اليمني.
إن هذه الحرب أكبر من اليمن وأكبر بكثير من الصراع السعودي - الإيراني. هي حرب ستقرّر إذا كان هناك مجال لبعض العرب لرفع الرأس بوجه أعتى قوّة عربيّة صهيونيّة ــــ متمثّلة بالنظاميْن السعودي والإماراتي اللذين لا يخفيان أبداً تعاونهما وتحالفهما مع إسرائيل (النظام السعودي لا يجاهر بالتطبيع لكن: 1- يعلن عبر الإعلام الأميركي أنه مستعد للتطبيع لكن محمد بن سلمان يريد ثمناً لذلك مثل رعاية تتويجه ملكاً أوحدَ من قبل أميركا. 2- تسرّبت أخبار عن لقاءات سعوديّة - إسرائيليّة بما فيها زيارة للسعودية من قبل وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو مصطحباً معه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو للقاء محمد بن سلمان. 3- كل الإعلام السعودي يروّج للتطبيع مع إسرائيل ويفنّد مقولات معاداة إسرائيل والصهيونيّة. كان وزير الحرب السعودي خالد بن سلمان صريحاً للغاية عندما أعلن هذا الأسبوع أن هدف الحرب هي «كي يكون اليمن ضمن المنظومة الخليجيّة». ولو كان ابن سلمان صريحاً أكثر لأضاف أن الهدف هو أن يدخل العالم العربي برمّته «ضمن المنظومة الخليجيّة». لنفس السبب الذي أصرّت إدارة بوش فيه بعد 11 أيلول على شنّ الحروب ضد الشعبين العربي والإسلامي، فإن الحكم الخليجي يريد تطويع من يعصي على التطويع. الإدارة الأميركيّة منذ انتهاء الحرب الباردة ترفض أن يكون للشعب العربي الحق في رفض إرادة أميركا، والحكم الخليجي يرفض أن يرفض أحدٌ ما في العالم العربي الإرادة السعوديّة - الإماراتيّة - الإسرائيليّة. ليس صدفة أن تسعير الحرب جرى في عصر التطبيع مع إسرائيل لأن الحكومة الإسرائيليّة هي نصير قوي وحقيقي للنظامين. وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت (في رسالة عاطفيّة أرسلها هذا الأسبوع في اتصال هاتفي مباشر) الحاكم الإماراتي محمد بن زياد بمدّه بالمعلومات والعون في حربه الوحشيّة في اليمن وهو سينفّذ.
ست سنوات من الحرب الوحشية والشعب اليمني لا يزال صامداً بالرغم من الحرب العالميّة ضدّه ـــــ وهي حرب بكل الأصناف إذ يترافق مع القصف والقتل اليومي بروباغندا عتيّة لم نشهد لها مثيلاً. هناك صفحة ثابتة في جريدة الصهيونيّة العربيّة، «الشرق الأوسط»، عن اليمن وفيها تختلق إدارة التحرير أكاذيب لا يصدّقها عقل عن اليمن وعن أفعال الحوثيّين (يُحرّر الجريدة هذه اللبناني، غسان شربل، الذي له صورة مع الملك سلمان تلخّص كل سيرته المهنيّة). ومواقع التواصل التي تزخر بكل ما يرد من بروباغندا ضد أعداء إسرائيل تفتقر إلى التضامن مع اليمن، خصوصاً من قبل الشباب اللبناني الـ«كول»، الذي يرفض الحرب ضد إسرائيل باسم السلام و«بدنا نعيش» لكنه يتجاهل أو لا يكترث لحرب وحشيّة جارية ضد اليمن. لم يعرف العالم العربي تغييراً في ثقافته الشعبيّة كما يجري هذه الأيام من قبل التحالف السعودي - الإماراتي. والأكاديمي البريطاني، مارك أوين جونز، كشف بعد دراسة دقيقة هذا الأسبوع عن نشاط هائل لجيش إلكتروني تابع لمحمد بن زايد، حيث تقوم حسابات «بوت» آليّة برفع مرتبة تغريدات مديح بمحمد بن زايد. وبلغ عدد مساهمة حسابات الـ«بوت» في تغريدات ابن زايد أكثر من 91%: 91% من اللايكات على تغريدات محمد بن زايد تابعة لجهاز مخابراته.

التظاهرات العارمة من أجل فلسطين في اليمن ليست إلا تسجيلاً لفهم طبيعة المعركة وتصنيف الأعداء والأصدقاء على طريقة «استراتيجيّة الجبهة الشعبية» التي وضعها جورج حبش


لن ينهزم الشعب اليمني. لا يمكن له أن ينهزم. يمكن له أن يُعلن نصرَه أمس لأن الغزاة اندحروا بالرغم من استمرار القصف الوحشي من الجو. يعترف النظام السعودي أنه لا يقوى على مواجهة اليمنيّين بجيش من المشاة. والجيش الإماراتي انسحب من اليمن تاركاً وراءه جيوشاً وميليشيات من المرتزقة والمجرمين (تماماً على طريقة حليفه الإسرائيلي). والشعبان الإماراتي والسعودي مغيّبان تماماً عن التعليق: لا يُسمح إلا بأردأ التعبيرات في الطاعة والانصياع والولاء والسجود. عدد من المثقفين في البلدين انسحب من ساحة التغريد حفاظاً على كرامته فيما بقيت الأبواق الصدئة. والسعوديّة هذا الأسبوع أعلنت أن عقوبة نشر إشاعة تصل إلى خمس سنوات سجناً مع غرامة. تضيف ذلك إلى القانون الإماراتي الشهير الذي يسجن المُغرّد لـ15 سنة سجناً على التغريدة أو إعادة التغريدة التي لا تتفق مع أهواء النظام. هذه أنظمة غسل أدمغة ومنهج التعليم يخرّج مطيعين على طريقة «1984» لجورج أوريل. كليّة إعلام محمد بن راشد (في جامعة الياس بو صعب التجاريّة في دبي) تعترف بأنها تعدّ التلاميذ لمعرفة كيفيّة التكيّف وخدمة أجندة حكومة الطاغية هناك.
وزارة خارجيّة لبنان فضحت نفسها. هي تتضامن مع السعوديّة ومع الإمارات ولا تجرؤ مرة على التعاطف والتضامن مع الشعب اليمني في محنته. لكن دولة لبنان للبيع والإيجار، وعدد من حلفاء حزب الله انتقلوا إلى المحور الآخر مقابل أجر. لو لم يكن اليمن فقيراً لكانت العروبة تتجسّد في التضامن معه وليس مع الغزاة المُستبدّين. لبنان تصنّع قبول مفهوم العروبة المقلوب: أن التحالف مع إسرائيل هو عروبة وأن مقاومتها هو نهج فارسي مجوسي. وعندما تسمع كل صفّ انعزاليّي لبنان (من «الكتائب» و«الأحرار» و«القوات» والسنيورة «بطل» حرب تموز ـــــ في المحور المقابل لنا) يلهجون بحمد العروبة تعلم أنها ليست العروبة الحقّة.
كانت إدارة بايدن تريد إنهاء الحرب ـــــ أو هي قالت. كان الخطاب الليبرالي المعادي للتحالف مع الطغاة كلاماً سياسياً يصلح لحملة انتخابيّة ضد خصمه دونالد ترمب. وصدّقت الصحافة السائدة هنا كلام وعود بايدن إلى أن توضّحت الصورة. لقد أرسل بايدن مسؤولين للقاء حكام السعوديّة أكثر من ترامب، أو مثله تقريباً. كلام الطمأنة عن المسؤولين العسكريّين هنا عن الالتزام بدعم أمن النظامين السعودي والإماراتي لا يتوقّف أبداً. والإدارة ـــــ في عصر التضخّم والشكاوى الاقتصاديّة ـــــ تطمح كما طمح ترامب نحو المزيد من صفقات الأسلحة العملاقة. والنظام القطري بات مستعدّاً لتمويل إطعام وكسو الجيش الأميركي. أميركا تريد جزية من عائدات النفط، وليس هناك غير الطغاة لدفع الجزية بكل طيبة خاطر.
لن يكون الحوثيّون بعد انتهاء الحرب كما كانوا قبلها. كما أن حزب الله لم يكن في ظل قيادة نصرالله كما كان في زمن الطفيلي. الحرب والمواجهة والتحالف الإقليمي والدولي تعلّم الكثير. والتظاهرات العارمة من أجل فلسطين في اليمن (وهي كانت الأكبر هناك في السنوات الماضية) ليست إلا تسجيلاً لفهم طبيعة المعركة وتصنيف الأعداء والأصدقاء على طريقة «إستراتيجيّة الجبهة الشعبية» التي وضعها جورج حبش في زمانه. الحقد السعودي على اليمن سيستمرّ وسينمو وسيزيد ذلك من إصرار محمد بن سلمان ـــــ لو وصل إلى العرش ـــــ على الانتقام من هزيمته على يد من احتقرهم من قبل. لكن نستطيع أن نقول إن الشعب اليمني سجّل من الانتصار ما يندر في زمن الطغيان الغربي - الخليجي - الإسرائيلي. سيصبح اليمن رمزاً للصمود والمقاومة والشجاعة والبطولة. علّمنا الشعب اليمني أنك لا تحتاج إلى ثروة كي تشهر كرامتَك بوجه أعدائك المتخَمين بالنفط ـــــ وبالتحالف مع إسرائيل. اليمن هو اليوم مدرسة الكرامة، فيما أن نخبة الثقافة والفن والإعلام في لبنان هي مدرسة في الذلّ والطاعة والانحناء.

* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر asadabukhalil@