بعدما علِق الإعلامي السعودي علي الظفيري في منتصف التناقضات الأميريّة إبّان الأزمة الخليجية فانكفأ وغاب على إثرها، عاد إلى الواجهة الإعلامية عبر برنامج «المقابلة» (على شاشة «الجزيرة»)، مستضيفاً العديد من الشخصيات البارزة بما يضفي نوعاً من الحركة على ركود الشاشات العربية، وخصوصاً في دوائر وأوساط نخب ومثقفين خليجيين وعرب كانت المعركة الإعلامية لدول الخليج قد ألقت بظلالها عليهم. بعد سلسلة من الحلقات، فاجأنا الأستاذ علي بكبوة، ليست بالصغيرة لا من ناحية العناوين ولا التفاصيل، إذ استضاف أحد أعتى الوجوه الصحافية الصهيونية المتمثّلة في توماس فريدمان. قدّم الظفيري للصحافي الأميركي ــــ الذي تحوّلت أطروحاته إلى بالية ومستهلكة في الوسط الأميركي ذاته ــــ إحدى أكبر الخدمات مسخّراً له أكبر الشاشات العربية ليخاطب الجمهور والشباب العربي. ولم يكن من المصادفة أن ردود الفعل من المتابعين العرب على مثل هذه الجرأة والفجاجة كانت هامشية، فلن يكون هنالك استدراك على هذا الفعل من قبل ذات الفلك الإعلامي وشخصياته وصحافييه. اقتصر الرد على عدد من المغرّدين العرب والفلسطينيين الذين رأوا الفعلة جريمة بحق أي عربي ذي اعتداد بذاته (بعد نقد الحلقة على «تويتر» تواصلت معي إحدى الشخصيات الإعلامية الدائرة في الفلك ذاته لتشكرني لأني قمت بما لا تسمح لهـ/ا الظروف بالقيام به). في الأخير، يعطي الظهور على شاشة كـ«الجزيرة» نوعاً من السلطة الثقافية. وخلافاً لما يعتقد، فإن شبكة إعلامية كبرى بهذا الشكل لا تعكس «صوت الشعوب» بقدر ما تصيغه وتصنعه، وهنا مكمن الخطورة.
بطبيعة الحال، هذه ليست المرّة الأولى التي يظهر فيها فريدمان على شاشة «الجزيرة»، لكن الاختلاف أننا هنا كنا نأمل من شخصية كالظفيري، ذات حس عروبي ومفترضين حرصها على فلسطين لا كشعار بل كقضيتنا الوطنية الأولى، مستوىً أكبر من المسؤولية. لكن، وللأسف، تحوّلت الحلقة إلى إبراز لسطوة ثقافية ومهنية لصحافي أميركي يعمل في مؤسسة «عريقة» (إن كانت «نيويورك تايمز» عريقة في شيء فهي عريقة في الصهيونية) وبشكل وكأن على المشاهد العربي التعلّم واكتساب الخبرة الصحافية والسياسية من أهلها.
لم يمنع الظفيري ابتداء الحلقة بتعريف فريدمان كأحد أبرز المنحازين لكيان العدو الإسرائيلي و«مغرم بإسرائيل» بأن يسأله عن الموضوعية وعن متى على الصحافي أن يظهر عواطفه؟ وللمفارقة، كان فريدمان، طوال الحلقة، يؤكد انحيازه لعدو العرب الأوّل. ومن ثم يتم قلب موازين الموضوعية لمعايير الصراع العربي الصهيوني بالتموضع تحت إطار ما يطلق عليه «حل الدولتين». فتكون الموضوعية هنا، التي تتسلّل إلى وعي المشاهد، هي في اتخاذ خطوة للخلف تساوينا، ولو لفظياً، كعرب، في الحق في أرضنا بكيان استعماري غريب. فيتلقّى المواطن العربي، وخصوصاً الأجيال الجديدة، منظورَه للصراع من فم عدوّه، وبصيغة تكتسي الأهلية والخبرة وترتقي لتكون أحد مظاهر «عقدة الرجل الأبيض».
وللأسف، مكّن الظفيري فريدمان من تمرير نفَسه الاستعلائي والاستشراقي بالحديث عن العرب والفلسطينيين كمفعول به، والفاعل الرئيس هو دولة الاحتلال التي قصّرت في تكوين طرف مقابل يفاوضها. تحدّث فريدمان عن الإسرائيليين كأكثر المجتمعات إبداعاً وابتكاراً «المجتمع الخيالي المذهل»، طارحاً التساؤل بأنه أين هذا الإبداع المفترض اليوم في العودة لحل الدولتين؟
والمسألة هنا أن الحديث عن «خيالية وإبداع» مجتمع كيان العدو تندرج ضمن إطار صُلب تعريف الهوية الصهيونية لذاتها تحت إطار «العبقرية اليهودية» التي تكاد ترتقي لتكون النسخة العلمانية من «شعب الله المختار»، وكأن العرب في محيطهم مجموعة من البلهاء والحمقى.
ظهر فريدمان على الشاشة كالمحلل والخبير بالمنطقة، منطقتنا نحن، والطريف والمؤسف أنه في نهاية الحلقتين طرح الظفيري سؤالاً عن التحوّل الديموقراطي في المنطقة «كيف يحدث ذلك يا توم؟ كيف وروسيا تدعم المستبدين والولايات المتحدة تدعم المستبدين والانقلابيين؟»، ليجيب «توم» بأبوية بأن المسألة حين تنخفض أسعار النفط فسيبحث الشباب العربي عن فرص عمل وهذا ما سيدفعهم إلى «الابتكار والإبداع». لعلّ علينا التذكير هنا بوصف فريدمان تغييرات وليّ العهد السعودي بأن «الربيع العربي قد وصل إلى السعودية»، هذا هو الشخص الذي يستشيره العرب لبناء الديموقراطية.
وهذا يعيدنا إلى الكبوة الكبرى يا أستاذ علي، كيف تسمح العروبة والموضوعية الصحافية في قضيّتنا الأولى فلسطين بأن تقدّم هذه المادة للجمهور؟ كيف يتسنّى لنا الحديث عن مستقبلنا العربي مع من يدعم اغتصاب أرض فلسطين ويعمل جاهداً على ديمومته وشرعنته؟ وأنت تعلم أن فلسطين وتحريرها من البحر إلى النهر هو جوهر ذاتنا كعرب، فعن أيّ مستقبل للشباب العربي تتحدّث بدون فلسطين يا أبا سلمان؟
* كاتب عربي