مع انتهاء عام 2021، تكشّفت خريطة النشاط الإسرائيلي في أفريقيا عن امتداده، عسكرياً وأمنياً بالأساس، عبر أقواس واسعة من شرقيّ القارة حتى غربيّها، وملامستها جنوبي أفريقيا، وحضور متنامٍ في شمالها، ولا سيما في المغرب، واحتمالات تصاعد الدور في ليبيا في الفترة المقبلة.تنوّعت ملفات هذا النشاط؛ من تعزيز ناجح ومطّرد للعلاقات الثنائية مع الغالبية العظمى من الدول الأفريقية (46 دولة تقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل من أصل 54 دولة)، وحضور قوي في قطاعات التعاون العسكري والأمني عبر دور متزايد في «جهود مكافحة الإرهاب»، وبدرجة أقل مسألة التعاون الاقتصادي في ضوء محدودية الموارد الإسرائيلية المخصّصة للمعونات والمساعدات الخارجية. كما بدأت إسرائيل، مع نهاية 2021، تغييراً في سياسة دعم الدول الأفريقية في مواجهة جائحة «كوفيد-19» وتداعياتها بقرار توجيه مليون جرعة لقاح إلى دول القارة. بينما تبرز الأزمة الليبية كساحة محتملة بشكل كبير لتنامي النفوذ الإسرائيلي، بمختلف جوانبه، في شماليّ القارة.

تعزيز العلاقات الثنائية والتعاون مع «الاتحاد الأفريقي»
قطعت إسرائيل خطوة كبيرة ومهمّة بنيلها وضع مراقب في الاتحاد الأفريقي في تموز 2021، الأمر الذي عُدّ في الواقع تجسيداً لتنامي علاقاتها الديبلوماسية مع 46 دولة أفريقية. ورغم طلب كل من جنوب أفريقيا وجزر القمر والجزائر ومصر وجيبوتي وليبيا وتونس رسمياً من الاتحاد مراجعة الخطوة، فإن المسألة لا تزال تراوح مكانها منذ طرحها في المجلس التنفيذي للاتحاد في تشرين الأوّل الفائت. في المقابل، تمثّل دول كينيا وإثيوبيا ورواندا وأوغندا طليعة الدول المتمسّكة بالتقارب مع إسرائيل على المستويات كافة، وعلى خلفية التقارب الإسرائيلي - العربي الأخير. وستمثّل قمّة الاتحاد الأفريقي في كانون الثاني 2022 اختباراً حقيقياً لقدرة المؤسّسة الإقليمية على معالجة الأزمة.
لكن تظل الحالة الراهنة، أي القبول الضمني لوضع إسرائيل مراقباً، هي الأقرب للاستمرار، لعدة اعتبارات، منها (بجانب وجود علاقات ديبلوماسية مع أغلب دول القارة) اندماج إسرائيل بشكل أكبر في السياسات الإقليمية والدولية في أفريقيا عبر فاعلين متوسّطين أو كبار (الإمارات، فرنسا، إضافة إلى الولايات المتحدة)، والدور المحوري الذي باتت تمثّله إسرائيل في السياسات الدفاعية والأمنية لقوى أفريقية صاعدة (مثل رواندا والكونغو الديموقراطية وساحل العاج، ووجود مالاوي وزيمبابوي على هذه القائمة ترقّباً لفتحهما سفارتين في فلسطين المحتلة هذا العام)، وقوى تقليدية باتت تبني مقاربات أكثر براغماتية مع إسرائيل، مثل نيجيريا والمغرب. ذلك إضافة إلى بعض المبرّرات التي تقدّمها دول، مثل إثيوبيا ورواندا وغيرهما، بأن مصر (أكبر دولة عربية ومن أكبرها أفريقياً) تُقدِم منذ منتصف العام الماضي على تمتين علاقاتها مع إسرائيل.
وهكذا تظل القوّة الأكثر معارضة للمسار السابق جنوب أفريقيا، التي يمكن إرجاع معارضتها، إلى جانب ما تعلنه من موقف مبدئي داعم للقضية الفلسطينية، إلى التخوّف من منافسة إسرائيلية قوية، وربما غير مسبوقة، في الأسواق الأفريقية في قطاعات شتى، ولا سيما الأمنية والعسكرية (كما اتضح في سرعة تدخّل القوات الرواندية وطيدة الصلة بإسرائيل تسليحاً وتدريباً في شمالي موزمبيق منتصف عام 2021 فيما كانت تعد منطقة نفوذ إقليمي حصرية لبريتوريا).
وهكذا، تركّز إسرائيل على استعادة علاقات جيّدة مع جميع مؤسّسات العمل الأفريقي الجماعي، وفي مقدّمتها «الاتحاد الأفريقي» و«المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس)، ومحاولة اختراق جماعة «كوميسا». وقد نجحت إسرائيل إلى حد كبير في هذه المساعي «عمليّاً» بعد سنوات من العمل الدؤوب.

ملف التعاون الأمني - العسكري و«مكافحة الإرهاب»
يقع ملف التعاون الأمني - العسكري، ونواته صادرات السلاح الإسرائيلية للدول الأفريقية، في قلب جهود تل أبيب، أو ما يعرف بـ«أمننة» سياساتها الأفريقية. وميّز نجاح إسرائيل اللافت، حسب محلّلين، «تفهّمها» للتهديدات التي تواجه الدول الأفريقية وحاجاتها الدفاعية أفضل من الدول الغربية، التي تملك خبرة أقل في تجربة حرب مواجهة الحركات المسلحة، وتهتم أحياناً بشكل أكبر بـ«الديموقراطية وحقوق الإنسان». على سبيل المثال، كشفت وثائق «ويكيليكس» كيف أن أواخر العقد الأوّل من بداية الألفية الحالية شهدت عدم رضى قادة الجيش الإثيوبي ورئيس الوزراء ميليس زيناوي إزاء حجم التعاون الأميركي مع أديس أبابا في ملف محاربة الإرهاب وسخطهم من النقد الأميركي لسجل إثيوبيا في حقوق الإنسان. واحتجّوا بشكل منتظم لدى المسؤولين الأميركيين وأشاروا إلى أن «إسرائيل والصين لم تعِدا أبداً بالكثير لكنهما تقدّمان دائماً القليل الذي تعدان به، ومن دون شروط متعلّقة بحقوق الإنسان أو غيرها». ويسري المنطق نفسه على شراكة إسرائيل مع دول مواجهة أخرى في «حرب شرق أفريقيا على الإرهاب» وملف الأمن الإقليمي، ولا سيما كينيا وأوغندا ورواندا، وجميعها - مثل إسرائيل - دول حليفة للغرب وعانت مراراً من انتقاد سجلاتها في مجال حقوق الإنسان.
ومقابل هذه الخلفية، يتمثّل التحوّل أو المتغيّر الرئيس في ملف التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب بين إسرائيل والدول الأفريقية في تكالب الأخيرة على الحصول على دعم الأولى في الملف بشكل غير مسبوق، وحتى من قبل بعض الدول العربية، كما يتّضح في العلاقات الوطيدة والقابلة لانفتاح أكبر بين إسرائيل والمغرب في الفترة المقبلة. وفي زيارة لافتة لوفد سوداني (مطلع تشرين الأوّل 2021) برئاسة ميرغني إدريس سليمان، رئيس «هيئة التصنيع الحربي»، ومقابلة نظرائهم الإسرائيليين على مدار يومين، في زيارة أثارت كثيراً من الجدل، ولا سيما أنها جاءت قبل أسابيع من «انقلاب» رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان على رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وأثارت تكهّنات بوجود «دعم إسرائيلي»، أو عدم ممانعة ضمنية، للخطوة.
ويتوقّع تصاعد إسهام إسرائيل في الجهود الأفريقية «لمواجهة ظاهرة الإرهاب» في ضوء ما أجمع عليه محللون معنيّون (كانون الأوّل 2021) من فرص وقوع موجة هجمات إرهابية جديدة في أجزاء متفرّقة من أفريقيا، ولا سيما في إثيوبيا، ووسط أفريقيا، وأن يكون تنظيم «الدولة الإسلامية» في إقليم وسط أفريقيا ضمن الجماعات الإرهابية الأكثر خطورة في عام 2022 قياساً إلى نشاطه في العام الماضي. وكذلك نشاط قوي لهذا التنظيم في شمالي موزمبيق وعبر الحدود مع تنزانيا على سبيل المثال. وتبدو فرص إسرائيل شبه محسومة في ضوء حضورها القوي بشكل مباشر في أغلب الدول المعنيّة به (رواندا، موزمبيق، أوغندا، الكونغو، تشاد، نيجيريا وعدد من دول شرق أفريقيا وغربها، باستثناء غياب لافت في حالتَي النيجر ومالي)، مع توقّعات دالة على تعاظم مساعي الجماعات الإرهابية للحصول على التكنولوجيات المتطوّرة لتعزيز قدراتها الهجومية، بما يتجاوز النظرة التقليدية لقدرات الجماعات الإرهابية، ما سيقود ملف «مواجهة الإرهاب» إلى مستويات وتهديدات غير مسبوقة، ويدفع الدول الأفريقية لطلب ملحّ على التكنولوجيا الإسرائيلية.

التعاون الاقتصادي: خصخصة دور الدولة
رغم الزخم الذي تثيره مسألة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، فإن التعاون الاقتصادي بين الجانبين ظل في مستويات دنيا للغاية مقارنة حتى بقوى إقليمية متوسّطة أو صغيرة الحجم (مثل تركيا والإمارات). كما لاحظ مراقبون أن إسرائيل لم ترفد جهودها الديبلوماسية بموارد مالية مناسبة «ومن ثم فشلت في مراكمة مكاسبها السياسية بتعزيز نفوذها (الاقتصادي) في القارة» على النحو المأمول. مع ملاحظة تحقيق إسرائيل عجزاً متزايداً في الموازنة في السنوات الأخيرة بلغ في عام 2020 ما نسبته 11.6% من الناتج المحلي الإجمالي الذي تجاوز 400 بليون دولار، ويتوقّع أن يبلغ 7% في عام 2021، وأن يتراجع بشكل كبير في عام 2022 ليصل إلى 3.4%.
وفي مقابل تراجع العلاقات الدولتية الاقتصادية، ينشط رجال أعمال إسرائيليون (مثل إيران مواس وجابي بيرتس وأورلاند باراك، وغيرهم) في القارة لدعم ما يصفه المحللون بـ«ديبلوماسية القنوات الخلفية» على نحو متزايد، ولخدمة مصالح الحكومة الإسرائيلية على نحو غير مباشر. ويتمتّع رجال الأعمال الإسرائيليون بإمكانية التواصل المباشر مع الكثير من الرؤساء الأفارقة الذين يتشاورون معهم في مجالات مثل الاستخبارات والتجسّس والأمن السيبراني وتجارة الأسلحة وغيرها ويمثّلون بشكل واضح بوابة للشركات الإسرائيلية للتوسّع في أفريقيا. وبدورها، فإن هذه الشركات هيمنت في السنوات الأخيرة على سوق التجسّس الإلكتروني في أفريقيا جنوب الصحراء (ولا سيما عبر شركتَي Verint و NSO Group)، وهي شركات وثيقة الصلة بالجيش وجهاز الاستخبارات الإسرائيليين. كما تسعى شركات إسرائيلية للعمل في قطاع تطوير المشروعات الزراعية ثم تغيّر نشاطها إلى «المجال الأمني» بناءً على طلب العديد من الدول الأفريقية التي تطلب منها مساعدتها في هذا المجال.

إسرائيل وأفريقيا وتداعيات «كورونا»
تعاني القارة الأفريقية من بطء الاستجابات لتحديات جائحة «كوفيد-19»، ويمثّل ذلك البطء فرصاً أمام قوى مختلفة لتعزيز علاقاتها مع دول القارة (التي لم يتلقّ إلا 6% من سكانها أمصالاً لمواجهة الفيروس) بتكلفة منخفضة أو باستغلال فوائض جهودها لمواجهة الأزمة (مثل الفائض في إنتاج أمصال اللقاح) وتوجيهها إلى أفريقيا مقابل مكاسب متوسطة وبعيدة المدى. وبادرت إسرائيل، مثل تركيا والهند والصين على سبيل المثال، منتصف كانون الأوّل 2021 (بعد مداولات دامت شهراً بين مكتب رئيس الوزراء ووزارة الخارجية ووزارة الصحة الإسرائيلية، على خلفية انتقادات من «منظمة الصحة العالمية» لتل أبيب لبدئها توزيع الجرعة الثالثة على مواطنيها فيما لا تزال دول كثيرة في العالم غير قادرة على تطعيم كبار السنّ أو العاملين في القطاع الصحي) إلى إعلان عزمها توجيه نحو مليون جرعة لقاح «أسترازينيكا» إلى أفريقيا، في خطوة اعتبرها وزير الخارجية يائير لابيد مشاركة إسرائيلية في الجهود الدولية لتطعيم «السكان الذين لا يستطيعون الحصول على الأمصال». وربطت الخارجية الإسرائيلية بين الخطوة والتطوّر «في الأشهر الأخيرة في العلاقات مع القارة الأفريقية بما فيها العودة إلى وضع مراقب في الاتحاد الأفريقي» مؤمّلة أن تسهم الخطوة «في مزيد من تقوية الصلات بين إسرائيل وأفريقيا».

تأثير المقاربة الإسرائيلية على التفاعلات الإقليمية: الحالة الليبية
يمكن وصف المقاربة الإسرائيلية في القارة الأفريقية بمفهوم «القوة الذكية» التي تجمع بدقة بالغة بين أسلوبَي «القوة الخشنة» و«القوة الناعمة»، ومن دون أي خصم يُذكر من موازنات الحكومة الإسرائيلية لمصلحة تقديم معونات أو مساعدات للدول الأفريقية. كما أعادت إسرائيل توظيف دورها التقليدي كـ«ميسّر» (facilitator) للسياسات التنموية التي تنتهجها القوى الخارجية الفاعلة في القضايا الأفريقية عبر تقديم حزم فاعلة من الخبرات الفنية (التنموية والعسكرية في واقع الأمر) لعدد كبير من الدول الأفريقية في مختلف أرجاء القارة.
ربما تمثّل الأزمة الليبية الحالة الأبرز لتجلي تأثير هذه المقاربة المرتقب في الفترة المقبلة على التفاعلات الإقليمية. ورغم الحضور التركي (عسكرياً وسياسياً) في ليبيا، فإن أنقرة تبدي تخوّفاً متزايداً من الدور الإسرائيلي في الأزمة، ولا سيما ما زعمته «تقارير إعلامية تركية» (نهاية تشرين الأوّل 2021) عن تودّد كل من خليفة حفتر (بوساطة ابنه) وسيف الإسلام القذافي لتل أبيب لدعمهما في الانتخابات التي كانت مقرّرة في 24 كانون الأوّل، واستئجارهما (على نحو منفرد؟) لشركة استشارات إسرائيلية «مقرّها في الإمارات» لدعم حملاتهما الانتخابية.
كما يتيح ما يعدّه مراقبون كثر انزواءً في نجاعة السياسات الأميركية في الشرق الأوسط عامّة، وفي ليبيا ضمن هذا السياق، المجالَ أمام تصاعد هذا الاستقطاب الإقليمي وإتاحة دور فعّال لإسرائيل قد يصل إلى مستوى علني وغير مسبوق في العام المقبل. ويعزّز هذا التوجّه الإسرائيلي نحو ليبيا التنسيق عن كثب مع الإمارات، أحد أبرز الفاعلين الإقليميين في ليبيا، كان آخره خلال قمّة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، والتي استغرقت أربع ساعات في أبوظبي منتصف كانون الأوّل الفائت، في مؤشر على نجاح الخارجية الإسرائيلية في تجاوز «توتّر مكتوم» في مسار التطبيع بين البلدين في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو، الذي «أُجبر» على تأجيل زيارة مماثلة قبل أشهر، ومؤشر إضافي على رجحان تنسيق رفيع المستوى بين البلدين في الملف الليبي الذي يمثّل الفرصة الكُبرى للنفوذ الإسرائيلي أفريقياً في عام 2022، ويؤشّر إلى اضطراب التفاعلات الإقليمية المعقّدة به.

* باحث مصري متخصّص في الشؤون الأفريقية