بعد مرور أكثر من عام على اندلاع الحرب بين نظام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وقوّات «جبهة تحرير إقليم التيغراي» (تشرين الثاني 2020)، كادت خلالها العاصمة أديس أبابا أن تسقط في يد الأخيرة والقوّات المتحالفة معها، اتضح بشكلٍ ملفت تداعي جهود دولية حثيثة من قبل أطراف بالغة التنوّع والاهتمامات والمصالح، للحيلولة دون «سقوط الدولة الإثيوبية» في فوضى شاملة أو إقصاء أية حلول سياسية داخلية، على الأقل على المديَين القريب والمتوسط، حتى بعد النجاح النسبي لنظام آبي أحمد في استعادة المبادرة نهاية عام 2021. ورغم تسارع تحليلات سيناريوات تقسيم إثيوبيا وسقوط الدولة، فإن القراءة التاريخية كانت تشي باستبعاد ذلك لصالح - ضمن عوامل أخرى - تحرّك دولي تكرّر مراراً في قرون سابقة، لتفادي هذا المسار وحماية إثيوبيا من انقساماتها السياسية والاجتماعية والإيديولوجية.
ورغم عضوية الأدوار الخارجية ودورها الحاسم في دعم بقاء الدولة الإثيوبية - منذ بدايتها ربّما - في مواجهة التهديدات والمخاطر التي أحاطت بها (وكذلك دعم توجّهاتها التوسّعية) طوال قرون، فإن رؤيتها العالم الخارجي على أنه عالم خطير وقاس ودافع إلى نهاية كارثية عُدّت جزءاً أصيلاً من «الرؤية الآخروية» (eschatology) التي طوّرتها إثيوبيا اعتماداً على أفكار «الألفية المسيحية» (Christian Millenarianism)، التي تتّضح في غلبة المكوّن الديني على شكل الدولة.
معركة العدوة (فنان غير معروف)

الحبشة وإثيوبيا: معرفة تائهة في الترجمة
انطلاقاً من رؤى كلاسيكية للتاريخ وتدوينه، ساد خلط دارج ومتواصل في فهم كلمتا «إثيوبيا»، التي قصد بها اليونانيون الأراضي الواقعة جنوب مصر، و«الحبشة» نسبة إلى قبيلة الحبشات (Habashat) إحدى أبرز القبائل التي استوطنت المرتفعات في دولة إثيوبيا الحالية منذ ما قبل «العصر المسيحي» فيها. وعزّز هذا الخلط استمرار ذكره في التراث التاريخي الديني المتنوّع في الشرق الأدنى وعالم البحر المتوسط. ويُجمع مؤرّخون كُثر على أن «إثيوبي» و«إثيوبيّين»، الواردة في الكتاب المقدّس، وتعني باللغة اليونانية ذا البشرة الداكنة، كانت إشارة لشعوب أقامت داخل حدود مملكة كوش التي امتدّت في أقصى توسّعها من الشلال الأوّل في جنوب مصر شمالاً حتى تخوم حدود دولة جنوب السودان الحالية جنوباً، ومن شرق السودان الحالي شرقاً إلى داخل إقليم دارفور الحالي غرباً (أي لا تماس على وجه الدقة مع الدولة الإثيوبية الحالية). وتعزّز ذلك الإجماع شواهد تاريخية وأثرية متنوعة، بالرغم من الروايات الشفهية التي كرّرها رحّالة أوروبيّون للحبشة، منهم بنيامين التطيلي الذي سعى لاستكشاف ما اعتبرها «دولة يهودية قوية» في القرن الأفريقي (تبقّى منها «يهود الفالاشا» حسب عدد من المستشرقين في القرن الماضي ما مثّل أساساً تبريرياً لـ«عملية سليمان» عام 1991)، والرحّالة الاسكتلندي البارز جيمس بروس في مؤلّفه «رحلات لكشف منابع النيل» (1790) الذي قدّم فصولاً كاملة من مؤلّفه قائمة على الرواية والتفسيرات التوراتية لتاريخ جنوبي البحر الأحمر والحجاز لمأسسة تاريخ غير متماسك للحبشة.
وُصفت إثيوبيا قبل القرن العشرين من قبل بعض المؤرّخين بأنها «الإمبراطورية الخفيّة» لاعتبارات عزلتها النسبية وطبيعة حكمها الإقطاعية


وشهد القرن الثامن، كما يؤكّد بول ب. هينز في مؤلّفه الشهير عن تاريخ إثيوبيا «Layers of Time (2000, 58)»، انتقال المركز السياسي لـ«الهضبة الحبشية» من إقليم التيغراي (في أقصى شمال إثيوبيا الحالية) إلى الجنوب (بعد توسّع القوة الإسلامية في البحر الأحمر وضغط جماعات البجا على مملكة أكسوم للتحرّك نحو الداخل منذ منتصف القرن السابع) وبدفع من «المستعمرين المسيحيّين» نحو أنغوت وما يُعرف حالياً بإقليم الأمهرا الذي قاوم وقتها بقوة عملية التحوّل المسيحي حتى القرن الـ 13 حين رسّخ المسيحيون وجودهم داخل مجتمعات وثنية كبيرة. بينما لم تكترث الممالك الإسلامية المحيطة بالتوسع في الهضبة الحبشية (من الشرق والجنوب والشمال الشرقي على سواحل البحر الأحمر)، بينما ركّزت بشكل أكبر على التجارة مع الساحل (لا سيما سلطنة شوا التي أصبحت همزة الوصل الرئيسة بين المناطق الحبشية الداخلية وعالم البحر الأحمر)، بل وقبول التحالف مع الحاكم يكونو أملاك في النصف الثاني من القرن الـ 13، قبيل تكوينه «الأسرة السليمانية» التي حكمت الهضبة، وفق التاريخ الشفهي بالأساس لهذه الأسرة (في ظل غياب أي قدر معتبر من التوثيق التاريخي المعروف).

البرتغال وتركيا: الاقترابات «الصليبية» المتأخرة
مع النمو الاقتصادي لـ«سلطنة عدل»، القوة الإسلامية المعادلة تاريخياً للحبشة، وازدهار مينائي زيلع وبربرة في القرن الـ 15 رأى الإمبراطور الحبشي زارا يعقوب ضرورة مواجهة السلطنة. وبالفعل تمكّن عام 1445 من هزيمة السلطان بادلاي بن سعد الدين، وأجبر قواته على الانسحاب، ولم تؤثر الهزيمة بشكل ملموس على قوة «عدل» التي ركّزت جهودها في تجارة البحر الأحمر. وواجهت الأسرة الإثيوبية سلسلة من تعقيدات وراثة الحكم، وحدث لاحقاً تقارب بين محمد بن بادلاي والإمبراطور بيدا مريم (1468-1478)، مثل هدنة قصيرة تجدّدت بعدها التوسعات الحبشية في مناطق الجوار مع نقل الأسرة السليمانية مقر بلاطها إلى غوراغ وتكثيف هجماتها نهاية القرن الـ 15. ويؤكد مينز أن الملكة الأم «إيليني» (أو هيلينا Helena التي تولّت عام 1508 بعد مقتل الملك ناود Na›od وصغر عمر ابنه ليبنا دينغل وقتها حيث لم يتجاوز 7 أعوام) ظلت واعية بشؤون العالم الإسلامي المحيط ببلادها وسّعت لتحقيق درجة من المصالحة والعلاقات التجارية الجيدة بين «المملكة المسيحية» وسلطنة عدل في عهد السلطان محمد الذي حكم السلطنة 30 عاماً (1488-1518) وحافظ على علاقات ودّية مع إيليني، وإن لم يستطع الحيلولة دون هجمات متكرّرة من قبل الأمير الهرري محفوظ على المملكة. وشرعت إيليني في محاولة موازنة التعاطف والدعم الذي حظي به المسلمون في المناطق المجاورة من شبه الجزيرة العربية والشام، في طلب دعم الدول المسيحية لمملكتها، وبادرت، بنصيحة من بيرو دا كوفيلهو المقيم ببلاطها منذ أكثر من عقد في ذلك الوقت بعد وصوله هناك عام 1493، بإيعاز من الملك جواو الثاني في لشبونة خلال رحلته إلى الهند مروراً بالقاهرة متنكّراً في شخصيّة تاجر مسلم، بإرسال مبعوث أرميني اسمه ماتيوس إلى البرتغال لطلب مساعدتها لإثيوبيا «في مقاومة ضغط المسلمين». وتوجّه ماتيوس إلى أوروبا عن طريق الهند حتى وصل لبلاط الملك مانويل الأوّل في لشبونة عام 1514 وحظي باستقبال طيّب. ورغم ذلك انتظر البرتغاليون حتى عام 1520 عندما أرسلوا أولى بعثاتهم الاستكشافية لإثيوبيا، بعد أربعة أعوام كاملة من غزو محفوظ الهرري المرتفعات الحبشية (1516) ونجاح دينغل في هزيمته وطرده من أراضيه في وقت بدء البرتغاليين مهاجمة ميناء زيلع وحرقه.
وبينما كان الصراع يشتدّ بين الممالك الإسلامية والمملكة المسيحية في الحبشة، أسرع العثمانيون، بعد هزيمة المماليك في مصر (1517)، نحو التوسّع في البحر الأحمر للسيطرة على التجارة الثرية به، كما عرض العثمانيّون مساعدة السلطنات الإسلامية على امتداد الساحل، واحتلوا اليمن في ثلاثينيات القرن 16؛ مما شجّع سلطنة عدل على إعادة مهاجمة «المملكة المسيحية» مع تصاعد قوة البرتغال البحرية عالمياً (بعد نجاحهم في طرد المسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية). ووصلت بعثة برتغالية بقيادة رودريجو دا ليما إلى مصوع عام 1520 للتفاوض مع البلاط المسيحي في إثيوبيا للتوصّل لتحالف دائم بينهما. لكن البعثة ظلت في الحبشة حتى عام 1526 بعد تمكّن سلطان عدل أحمد بن إبراهيم من تحقيق نصر ملفت على حملة حبشية ضد السلطنة، التي كانت تضربها الفوضى حينذاك، وما تلا ذلك من بدء هجمات «إسلامية» على «المملكة المسيحية» (منذ عام 1529) بهدف الاستيلاء عليها واعتناق أهلها الإسلام. ولم يواجه أحمد بن إبراهيم هزائم ذات بال إلا في شباط 1541 على يد الإمبراطور جالاوديويس (تولى 1540) بفضل دعم حصل عليه الأخير من البرتغاليّين بحملة بقيادة كريستوفاو دا غاما (ابن الرحالة داغاما) هبطت إلى مصوع بصحبة 400 فارس برتغالي، واستغرقت الحملة عدة أشهر حتى تصل من مصوع إلى تيغراي في الهضبة. وانطلقت الحملة بدعم إثيوبي محدود لمواجهة قوات أحمد بن إبراهيم وتمكّنت من تحقيق انتصارات كبيرة عليها بفضل تسليحها الأوروبي الحديث. وفي المقابل استدعى أحمد بن إبراهيم مساعدة العثمانيّين المتمركزين في اليمن لقواته. وبالفعل حصل على قوة قوامها 900 جندي تركي تمكّنت من قتل داغاما وأسر من تبقّى من قوّته وإرسال رأسه برفقة 12 أسيراً برتغالياً إلى باشا زبيد باليمن.
وإجمالاً، كانت الفترة من 1529 حتى 1632 فترة مشكلات عويصة للدولة السليمانية؛ فقد استولى العثمانيون على ميناء مصوع عام 1557، وتمكّنوا من التوغّل عبر تخوم منطقة التيغراي المرتفعة، وزودوا الصوماليّين والعفر بالسلاح ممّا مكّنهم من الضغط على الحبشة من جهة الشرق والجنوب، بالتزامن مع ضغط الأورومو الكوشيين من الغرب والجنوب على «المملكة المسيحية». وفي المحصّلة، يلاحظ أن نجاح أحمد بن إبراهيم في توحيد القوى الإسلامية المختلفة وراء سلطنة عدل واستيلائه على ثلاثة أرباع «المملكة المسيحية» في المرتفعات قبل هزيمته في نهاية حرب استمرت نحو 14 عاماً أثّر على العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين، وتصوّر الحكام الإثيوبيين للإسلام. وكما ذكر هاجاي إلريك (1994)، فإن هذه الحرب أصبحت أساساً للخوف داخل المجتمع المسيحي الإثيوبي وظهور ما سمّاها «متلازمة أحمد الغازي». وفيما لاحظ المؤرّخ البارز ستيفن روبنسون أن فكرة «الجزيرة المسيحية» كانت مجرّد فكرة أوروبيّة بالغت في تهديد الخطر الإسلامي (لتبرير تدخّلها في ما يشبه حملات صليبية أفريقية)، فإن آخرين رأوا أنه تجاهل حقيقة نظر الحكام الإثيوبيّين للمسلمين تقليديّاً باعتبارهم خطراً حقيقياً على حكمهم (ومشروعهم التوسّعي).

الإمبراطورية الحديثة
وُصفت إثيوبيا قبل القرن العشرين من قبل بعض المؤرّخين بأنها «الإمبراطورية الخفيّة» لاعتبارات عزلتها النسبية وطبيعة حكمها الإقطاعية، في الوقت الذي اعتبرها البعض الآخر، لاسيما الأفارقة في المهجر، رمزاً للاستقلال وتقرير المصير الأفريقي، خاصة بعد هزيمتها القوات الإيطالية في معركة عدوة الشهيرة (1896). إذ بلغت القوات الإثيوبية بقيادة منليك الثاني نحو 100 ألف جندي مقابل 17 ألف جندي إيطالي. وتسلّحت القوات الإثيوبية بأسلحة حديثة للغاية استوردتها خصّيصاً من فرنسا وروسيا قبيل المعركة. ولاحظ المفكر الأفريقي البارز وليام ديبوا (1935) أن إثيوبيا «على نقيض أجزاء أخرى من أفريقيا المستعمرة قد حافظت على استقلالها السياسي، وبدأت في إعادة تنظيم سياستها القديمة وكانت من عدة نواح نموذجاً واعداً لما يُمكن أن يقوم به شعب محلي لم يمسه الاستغلال الحديث والتحامل العرقي». واعتبرت ملاحظة ديبوا انحيازاً لـ«النزعة الإثيوبية» (Ethiopianism) التي ظهرت بالأساس من التقاليد «الدينية الأدبية» الأفرو-أطلسية الشائعة وسط الناطقين بالإنكليزية منذ نهاية القرن الـ 18، ومطلع القرن الـ 19، وأنها جاءت في سياق صعود النزعة الدولية السوداء الحديثة ورغبة القوى الكبرى في دعم أفريقيا في مواجهة العدوان الإيطالي ضد ما عدت «قلعة الرجل الأسود الأخيرة».
يمكن القول إن خريطة إثيوبيا السياسية الحالية قد أخذت في الوضوح منذ النصف الثاني من القرن الـ 19؛ حظيت جهود الإمبراطور يوحنا الرابع (1872-1889) لاستكمال سياسات سلفه ثيودور بمركزية الدولة بدعم كبير من الوكلاء الأوروبيّين الذين أمدّوه بالأسلحة والذخيرة بشكل كبير للغاية، وأوردت تقارير حصول الإمبراطور على هدايا ومُنح من «القوى الأوروبية» أفراد وحكومات (شملت 6 مدافع وستة مدافع هاوتزر و400 عبوة ذخيرة و850 بندقية قصيرة وحربة سونكي و40 ألف عبوة ذخيرة للأسلحة الصغيرة، و28 برميلاً من البارود) كجائزة لتوقيعه على مجموعة من معاهدات الحياد والصداقة مع القوى الأوروبية. ومكّن هذا الدعم يوحنا الرابع من مواصلة سياسات توسّعية كبيرة وضم مزيد من الأراضي على أطراف المرتفعات الإثيوبية.

رؤية إثيوبيا العالم الخارجي على أنه عالم خطير وقاس ودافع إلى نهاية كارثية عُدّت جزءاً أصيلاً من «الرؤية الآخروية» التي طوّرتها اعتماداً على أفكار «الألفية المسيحية»


إضافة إلى ذلك، رأى بريان ج. ياتس (في مؤلفه المثير للجدل The Other Abyssinians, 2020) أن حصول الإمبراطور منليك الثاني على دعم طبقة النبلاء في شمالي البلاد كان عاملاً حاسماً لما حدث في عدوة 1896. وأن هذه الاستراتيجية قادت إلى بروز مثال من القومية قادت مجموعات متنوعة - بمن فيهم الأورومو والتيغرنيين والقندريين والعفر والشعوب الناطقة بلغة الأومو (نسبة إلى نهر أومو) – ليس فحسب للاقتناع بأنهم «أحباش»، لكن لدخولهم الحرب دفاعاً عن الإمبراطورية ومشروعها التوسّعي داخل «إثيوبيا الحالية». ومهّد الانتصار الإثيوبي في معركة عدوة الطريق أمام نجاح الإمبراطور منليك في سياساته التوسعية.
هيمن الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، الابن الأصغر لراس مكونن، على المشهد السياسي في إثيوبيا طوال الفترة 1919-1974، وكان له تأثير كبير في بناء إثيوبيا الحديثة. وكان دخول إيطاليا الحرب العالمية الثانية مؤدّياً لترك القوات الإيطالية في القرن الأفريقي معزولة عن الدولة الأم (إيطاليا) وسط مجموعات سكانية معادية بشكل عام. وأكمل تفرّق الجيوش الإيطالية في شمال أفريقيا في كانون الأول 1940 عزلة هذه القوات، وأطلقت قوات الحلفاء بقيادة البريطانيّين لمهاجمة القوات الأخيرة في شرق أفريقيا. وغزا أحد جيوش الحلفاء إريتريا انطلاقاً من السودان، وهاجم آخر الصومال منطلقاً من كينيا، ودخل الإمبراطور هيلاسيلاسي بلاده قادماً من منفاه في المملكة المتحدة إلى السودان في عبر إقليم غوجام بصحبة قوة سودانية ــ إنكليزية وقوة إثيوبية صغيرة. وسرعان أن هُزمت القوات الإيطالية هزيمة كاسحة حتى استسلمت آخر حامية إيطالية في قندر في تشرين الثاني 1941. وبذلت بريطانيا جهوداً هائلة في استعادة بناء الإمبراطورية الإثيوبية طوال العقد التالي (1941-1952) بداية من إعلان لندن (شباط 1941) ترحيبها بعودة دولة إثيوبية مستقلة وأنها ستعترف بمطالبة هيلاسيلاسي بالعرش. وبالفعل كان أوّل ملفات حكم هيلاسيلاسي تنظيم علاقته مع القوات المسلحة البريطانية التي سيطرت بفاعلية على البلاد وأعاقت قيام إدارة مدنية. وتحقّق ذلك بالإعلان عن توقيع الاتفاق الإنكليزي الإثيوبي (كانون الثاني 1942) اعترفت بمقتضاه بريطانيا باستقلال إثيوبيا واحتفظت بميزات خاصة اعتبرها الإثيوبيون انتقاصاً من سيادتهم الوطنية (من بينها عدم قدرة الحكومة الإثيوبية على تعيين أي مستشار أجنبي دون قبول بريطانيا، ووجوب حضور قاضٍ بريطاني في أية قضية تخص الأجانب في إثيوبيا. وعدّل هذا الوضع في اتفاق تالٍ عام 1944 احتفظت خلاله بريطانيا بحقها في إدارة منطقتَي الهود وأوجادين جنوب شرق إثيوبيا).

خاتمة
رغم ما مثّله تكوين الدولة الإثيوبية من عملية طويلة من التوسّ0عات على حساب شعوب وجماعات إثنية تعدّ في مجملها «استعماراً داخلياً» من ملوك وأباطرة ادعوا نسباً سامياً لمجموعات أفريقية، وبدعم من قوى أوروبية متصارعة في بعض المراحل، فإن إثيوبيا نجحت، لعوامل خارجية أكثر منها موضوعية وداخلية، في ترسيخ صورتها كقوة أفريقية وتهميش ما تضمّنته سياقاتها التاريخية من إقصاء وقسر واستعمار داخلي والاستعانة بقوى خارجية في سبيل قيام «إثيوبيا الحديثة». وقد رصد الباحث البارز في الشؤون الأفريقية فريدريك كوبر، على نحو غير مباشر بطبيعة الحال، خطأً معرفياً دالاً على تلك الرؤية بقوله إنه عندما بدأ النشطاء الأفروأميركيون، الذين لعبوا الدور الأكبر في صياغة الفكر الأفريقي الحديث، في مطلع القرن الـ 19 في استدعاء صور أفريقيا أو إثيوبيا فإنهم كانوا يطرحون الفكرة داخل المفهوم المسيحي للتاريخ العالمي أكثر من رجوعهم (أو استدلالاهم) إلى تشابهات ثقافية محددة. وعكست رؤاهم، مع تباين علاقتهم بخصوصيات أفريقيا، تباين معاني «الوعي الأفريقي» (الأصيل والدخيل هنا). ويضرب ج. لوراند ماتوري مثالاً على ذلك بأن «جماعات إثنية» أفريقية معينة قد حدّدت/ عرّفت نفسها في مسار حوار أفريقي - أميركي بتأثير من الرقيق السابقين الذين عادوا إلى إقليم آبائهم ودافعوا عن صور «هويات جمعية» تجاوزت الانقسامات المحلية وكانت قائمة على مستقبل متخيّل كمقابل لماضٍ مدّعٍ. وهو الأمر الذي يتجسّد في التصوّر التقليدي لإثيوبيا كأبرز حالات هذه الثنائية الإشكالية.
* باحث مصري متخصص
في الشؤون الأفريقية