لا يبدو رجب طيب إردوغان مدركاً لمعنى أن «تخوض حرباً»، من موقع حليف للغرب، ضدّ سياسة أسعار الفائدة. التضخّم الحاصل في الاقتصاد العالمي هو نتيجة لهذه السياسة التي تقوم على ضخّ السيولة وسحبها، كلّما اقتربت دورات الركود من شلّ التبادلات التجارية عبر العالم. الأزمة الحاصلة حالياً في تركيا ليست منفصلة عن هذا السياق. فالاقتصاد التركي، فضلاً عن ارتباطه العضوي بأسواق المال العالمية، هو أيضاً ذو حجم كبير. وتبادلاته مع الإقليم والعالم محكومة بتدفُّق السلع والخدمات والرساميل واليد العاملة. وأيّ إخلال بها سينعكس حُكماً، ليس فقط على الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد، بل أيضاً على الدور الإقليمي الذي يقوم به الاقتصاد هناك، بوصفه حلقة وسيطة للتجارة والخدمات والسياحة بين غرب آسيا والاتحاد الأوروبي.
سياق الأزمة
بهذا المعنى، فإنّ تأثير أزمة «كوفيد» وما صاحَبَها من شلَل في قطاعات النقل والسياحة والخدمات، لم يكن أقلَّ على تركيا من دول مثل روسيا وإيران والهند والبرازيل، إن لم نقل حتّى من مركزي «الوباء» في أوروبا والولايات المتحدة. إذ لم يعد ثمّة مساهمة، طيلة فترة تقييد التنقّلات، لهذه القطاعات في الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد. وهو ما تَرَك التأثير الأكبر في سعر الصرف، باعتبار أنّ القطاعات الإنتاجية هناك، التي لم تتأثّر بالقدر نفسه، لا تحظى بالحصّة نفسها من الدخل القومي.
خروج هذه الأجزاء من الناتج المحلّي لم يُعوَّض ببدائل كما حصل في الغرب. فتركيا ليست من الدول التي انضمّت إلى نادي منتجي اللقاحات، أو حتى المنتجات الصحّية قبلها، لترميم الخسائر الحاصلة في عملية التراكم. وهي أيضاً لم تستفد، بحكم وقوعها خارج نطاق المركزية الغربية، من رزم التحفيز التي أُقِرّت بالتنسيق بين الحكومات هناك والبنوك المركزية الكبرى، والتي أبقَت على عناصر عملية الإنتاج خارج القطاعات «المندثرة» قائمة إلى حين استعادة الأجزاء التي خرجت من الناتج الإجمالي العالمي. عدم استفادة تركيا من الأمرين أبقى على عنصر الهشاشة في الاقتصاد، حتى وهو يخرج معافىً، نسبياً، من الأزمة الصحّية التي تسبَّب بها الفيروس.

سياسة أسعار الفائدة
النموّ الذي تباطأ بسبب الأزمة محكومٌ هناك بالعوامل نفسها التي تحرّك الاقتصاد العالمي. فحين يحدث ركود على مستوى العالم تلجأ البنوك المركزية، بالاتفاق مع الحكومات الرأسمالية، إلى خفض أسعار أو نسب الفائدة، لتحفيز الإقراض، بالتالي تحريك الأسواق بغرض إبقاء السيولة موجودة، ومعها الطلب على السلع والخدمات. وهذا ما حدث مع أزمة «كوفيد»، ولكن مع متغيّر رئيسي، هو سياسة التحفيز التي لم تكن مُتّبعة في الأزمات المالية الكبرى السابقة، على اعتبار أنّ سياسة أسعار الفائدة لم تعد كافية وحدها لمعالجة الاختلالات الكبرى في الاقتصادات الرأسمالية. سياسة إردوغان تقاطعت في البداية مع المنحى العالمي لخفض أسعار الفائدة، لجهة تحفيز الإقراض وضخّ السيولة إلى الشركات المتوسّطة والصغيرة، بغية الإبقاء على الطلب.
ولكن حين تفعل البنوك المركزية ذلك لا تكون غايتها إيصال التضخّم إلى الحدود القصوى، كما حصل في تركيا، لأنّ ذلك سيعيق، رأسمالياً، النموّ، تماماً كما أعاقه الركود وانهيار الطلب في البداية. هنا حصل الافتراق بين منهج البنوك المركزية عبر العالم، بما في ذلك دول مثل روسيا والصين، وبين سياسة إردوغان المؤيّدة، ليس للتضخّم المفرط بحدّ ذاته، وإنما للحفاظ على الوتيرة نفسها في خفض أسعار الفائدة. هذا يتعارض، ليس فقط مع سياسة البنوك المركزية التي تضع السياسات النقدية حول العالم، بل أيضاً مع مبادئ الاقتصاد الرأسمالي نفسه، لجهة اعتبار الفائدة المرتفعة دورة مكمّلة لعملية التراكم الرأسمالي. حيث بعد جني الأرباح من سياسة الفائدة المنخفضة «تُعاد» إلى البنوك على شكل ودائع لمعاودة رسملة الاقتصاد لاحقاً عبر القروض حين يتباطأ النموّ مجدداً.
صحيح أنّ التفاوت في أسعار الفائدة هو من أسباب الفروقات الطبقية في المجتمعات، ولكن هذه هي طبيعة الرأسمالية التي يقوم عليها أيضاً الاقتصاد التركي


ما يطرحه إردوغان، لجهة الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة دائماً، لا يتعارض فحسب مع قواعد تراكم رأس المال، بل كذلك مع «الفلسفة» التي يقوم عليها عمل البنوك عبر العالم. حيث لا ادّخارَ ممكناً، حتى بالليرة التركية بدلاً من الدولار، كما يطالب مواطنيه، من دون «فائدة مرتفعة» على الودائع. لأنَّ الأموال التي ستُضَخّ في شرايين الاقتصاد، عبر القروض لاحقاً، هي ذاتها التي دخلت إلى الجهاز المصرفي كودائع، بتأثير جاذبية الفائدة المرتفعة، مضافاً إليها ربح البنوك من عملية التجارة بالمال أو السيولة النقدية.

تفسير الأسباب بالنتائج
عزو التضخُّم هنا، ومعه تقلُّب سعر الصرف، إلى سياسة الفائدة المرتفعة، هو بمثابة قلب للعملية بأكملها. لأنّ تراكم رأس المال نقدياً، بعد إنتاج السلع والخدمات وتبادلها تجارياً، عبر المال، لا يحدث من دون إيصال التضخُّم إلى حدّ معيّن، لكي يبدأ إنفاق الأموال، ويتأمّن التوازن بين العرض والطلب، قبل معاودة تباطؤ العملية الاقتصادية مجدداً. هكذا، تصبح سياسة الفائدة المنخفضة هي سبب التضخُّم، وليس العكس كما يقول إردوغان. صحيح أنّ التفاوت في أسعار الفائدة هو من أسباب الفروقات الطبقية في المجتمعات، ولكن هذه هي طبيعة الرأسمالية التي يقوم عليها أيضاً الاقتصاد التركي، المُراد تخليصه، بحسب الرجل، من شرور الفائدة المرتفعة.
حتى التقلّب في سعر الصرف، نزولاً، لا يمكن تفسيره بالنتائج كما يفعل إردوغان، لأنّ ثباته أو استقراره يعتمد على التقيُّد بسياسات البنوك المركزية، عبر العالم، والتي شَرَعت مع نهاية العام 2021 في رفع الفائدة تدريجاً، بالتزامن مع دعوة تركيا للإبقاء عليها منخفضة. الانهيار الكبير الأخير في السعر، قبل معاودة استقراره، مع طرح البنوك، بحثّ مباشر من إردوغان لجملة أدوات نقدية- أهمُّها توفير ملاءة مالية للودائع بالليرة- كان بمثابة ردّ فعل من أسواق المال التي تعمل بالأدوات النقدية المتعارَف عليها، رأسمالياً، على طروحاته الخاصّة بالتخلّص من الفائدة المرتفعة. الاستمرار في خفض الفائدة، مع الحفاظ على آليات التراكم نفسها في إدارة السيولة، يعني بالنسبة للأسواق، ليس فقط هبوط أرباح المصارف التي تضخّ السيولة إليها، بل أيضاً التراجع في نسب الإقراض. بالتالي حصول نموّ سالب في مرحلة الركود التي تفترض العكس، مع تدخُّل البنوك المركزية وأدواتها لنقل الاقتصاد من الركود إلى الانتعاش.

خاتمة
مواجهة أسعار الفائدة بالاعتماد على منظور «غير ربوي» للاقتصاد، كما يفعل إردوغان، لا تعدو كونها «فقاعة اقتصادية»، حتى مع النجاح النسبي الذي تحقّقَ هناك برفع سعر صرف الليرة من 18 في مواجهة الدولار إلى 12. لأنّ التجاوز الوحيد الممكن للرأسمالية هو باتجاه الاشتراكية التي تستطيع وحدها تقديم بديل، ليس من عملية التراكم الرأسمالي فحسب، بل أيضاً من آليات توزيع الثروة، سواء عبر البنوك أو سواها من القنوات الاقتصادية.
أمّا ما يفعله إردوغان من هجوم متواصل على أسعار الفائدة المرتفعة فهو بمثابة نكوص حتى عن الآليات التي كانت متبعة بُعيد الثورة الصناعية في أوروبا. الاندماج الذي تحقّقَ لتركيا في الاقتصاد العالمي، مع مصطفى كمال أتاتورك، غيّر، ليس فقط في بنية النظام سياسياً عبر نقله من السلطنة إلى الجمهورية، بل أيضاً في وظيفة الاقتصاد هناك، حيث تجاوزت تركيا مع الجمهورية مرحلة «الاقتصاد الإسلامي»، المتمحور حول ذاته والمعتمد على آليات تراكم بدائية لرأس المال، إلى أفق محكوم بالوظيفة الرأسمالية للاقتصادات التابعة التي تدور في فلك الرأسماليات العالمية.
المسألة ليست في صعوبة تغيير هذه الوظيفة مع استمرار تركيا في لعب دور الوكيل الإقليمي للغرب، سياسياً واقتصادياً، وحتى عسكرياً مع عضويتها في «الناتو»، بقدر ما هي في الأدوات المُتاحة لفعل ذلك، والتي يستحيل تحقيقها مع طروحات إردوغان «النكوصية» حتى عن آليات التراكم البدائية التي كانت مُتبعة في عهد السلطنة.
* كاتب سوري