تقرأهُ فتخطر صورته في ذهنك على الشكل التالي: جالساً على كرسي خشبي ويحدّق في عينيك. بيده اليمنى يحمل كتاباً ضخماً شبه مغلق لولا إبهامه الذي يفصل الصفحة المقروءة عن الصفحات القليلة المتبقّية لديه. وبيده اليسرى المسدلة على ساقه يحمل نظّاراته السميكة. لحيته طويلة بيضاء يكتسحها الشيب ناصعة كنقاء الحكمة. ووراءه تجد مكتبة كبيرة مزخرفة بالعناوين تشبه لوحة فسيفساء تغطّي الحائط خلفه بالطول وبالعرض. هكذا يبدو، للوهلة الأولى، لك. ولكن، من هو هذا المتعمّق العتيق، الطاعن في السنّ قدمَ المعرفة واليافع بالروح كمراهق مستكشف الذي يتعامل مع اللغة تعامُل المتفوّه الفصيح ولا يفارق عالم «تويتر»؟ هناك لوثة تصيب مواقع التواصل الاجتماعي لا يمكن تجنّبها أو التخلص منها، وهي بأصلها، عارض إنساني سقيم لا تجد الترياق سوى في الخداع. أن تخدع هو أن تمد يديك وتغلقهما وتخيّر الذي أمامك بأي كفة تخبّئ بطاقة هويّتك وأنت أساساً لا تحمل بطاقة هويّة.
عدا كونه دعاية حرب، يصرّ وليد البخاري على إقحام الفلسفة في السياسة، بالحشر والحشو، متجاهلاً الفلسفة السياسية التي تقوم على نقيض موقعه

تأخذ قراراً بالغش لتضمن الفوز، وهكذا تستمر بفعلتك وتتمادى حتى تفقد السيطرة ويفوز الغش فتنطلي الكذبة عليك. يسمح لك الإنترنت بأن تزوّر بطاقة هويّتك إن شئت. يتيح لك الفرصة بأن تمارس الغش براحة ضمير كمستلقٍ حتى النوم على سرير ناعم من حرير. هكذا تجد أخباراً كاذبة تنتشر بسهولة كجرعة ماء، يشربها كثر، تُقنِع وتُصدّق فتحلّ مكان الحقيقة، كما تجد حسابات لأشخاص يكونون على مواقع التواصل الاجتماعي كما يتمنّون لو كانوا عليه في الواقع. ومن بين هؤلاء، وهم كثر، سنجد أن ذاك الذي دمغت صورته في ذهننا كنتيجة لما نقرأه له ليس عجوزاً هرماً متبحّراً في المعرفة، ولا شاباً موهوباً يطوّع اللغة بحنكة، بل هو سفير المملكة العربية السعودية في لبنان... وليد البخاري. مع ملاحظة ضرورية: إن ما ينشره البخاري كتغريدات ليست بأغلبها من تأليفه، أي من كتابته، إنما من أقوال واقتباسات لفلاسفة وكتّاب آخرين. والفارق كبيرٌ هنا، بين صاحب القول وناقلِه، خصوصاً إذا كان الاستخدام قادماً من بتر السياق وتوظيف القول خدمة لأهواء قائله. وهذا الفارق يمتد وينعكس تلقائياً، وبالموازاة، على الصورة المرجوّة التي يبتغي البخاري ترويجها لنفسه. فإضافة التنوين أو الاجتهاد بكتابة جملة أو جملتين مع تحريك الحروف مثلاً لا يجعلان منك بليغاً، وهو الأمر الذي يفعله، ليتضح ها هنا أن صورته المبتغاة ليست إلا نسخة وليست الأصل، بل نسخة رديئة عن أصل هو يجهل شكله.

أوتوبورتريه - شعور القلق من السوشال ميديا (ميليسا شلهوب)

عدا كونه دعاية حرب، يصرّ وليد البخاري على إقحام الفلسفة في السياسة، بالحشر والحشو، متجاهلاً الفلسفة السياسية التي تقوم على نقيض موقعه، ودون أن يدرك أن للفلسفة سياسة نسقها يرتكز على مقارعة الأمراء وملوك قرون الوسطى.
يقدّم البخاري نفسه على «تويتر» بطريقةٍ لافتة. ما هو لافت في طريقته هو خروجه عن الديبلوماسية المفروضة عليه كوظيفة يشغرها بديبلوماسية. يجري ذاك بالغش باستنجاده بغيره لينطق عنه أوّلاً، وبترصيع ما يريد أن يقول في جملة مزخرفة تعطي انطباعاً بالجمال البلاغي، غير أنها تحمل بفحواها نيّة باطنية في الإطاحة بالمخاطَب ثانياً. يرسل قنبلة على شكل قبلة. يستبيح موقعه الرسمي فيتلطّى وراءه، ويكمل العدوان الذي تشنّه إمبراطوريته علنياً وظاهرياً بالكلام المكتوب المدوّن، ولكن بطريقة يجدها كل قارئ هاوٍ أو متفحّص رزين تشبه دعابة تقهقه من الضحك. استراتيجية البخاري ترتكز على نشر تغريدات من اقتباسات لفلاسفة وتطويعها في سياقات سياسية يراها مناسبة لينشر رسائل أراد لها أن تكون مبطّنة. على هذا النحو، يعمد إلى الإحالة والإسقاط، رغبة منه في خروج المعنى من النص إلى الواقع. وفي خطته هذه، الكثير من الأسئلة والعديد من الشوائب، تبدأ من كيفية توظيف الاقتباس وعن مغزاه ولا تنتهي عند قصدية النص الأصلي المُستشهد به والظروف التاريخية حيثما كتب أثناءها. وهذا كان أحد المآخذ حول الاقتباس كمفهوم ووظيفة عند بيتر برغر وتوماس لوكمان، في كتابهما «البنية الاجتماعية للواقع: بحث في سوسيولوجيا المعرفة»، حيث انطلقا من مقولة ابن عربي «حرّرنا، يا الله، من بحر الأسماء»، معتبرين أنه بإلغائنا للأسماء التي تشكّل دلالات على الأشياء، أصبحنا نحاجج ونقرأ من موقعنا بدون تمييز، نوظّف الاقتباس عشوائياً ونتعامل معه كالمجاز، ونجعل لساناً آخر يتكلّم بالنيابة عنا دون أن نفهم ونوافق كيف وصل الكاتب إلى الخلاصة التي نتبنّاها معه. ومن ثم، كيف يمكنك مثلاً أنت المتفق مع غرامشي أن تختلف مع البخاري إذا كان الأخير قد استشهد به وليس في دراسة أو بحثٍ بل بمقطع لا يتعدّى المئتين وستين كلمة؟
يأتي مضمون تغريدات وليد البخاري، أو كما يريد لها أن تكون، كاستفزاز للحدس ولإثارة الإعجاب والدهشة بثقافته العالمية (على طراز «رؤية 2030») بغية حثّ المتابع للتفتيش في ما وراء السطور لفهم واستنتاج ما يعنيه. هو إذاً محطة نظرية تستدعي الذاتية كما لو أن الموضوعية حائط مانع أمام الإبصار (ربما بحكم موقعه كسفير الأمر الذي يفرض عليه تبني لغة مدرِكة ومدرَكة أي مفهومة وواضحة) وبالتالي، يكون على قارئه أن يتخلّى عن القراءة ويذهب نحو التأويل. ومن هذا المنطلق، يضحي البخاري أشبه بفيلولوجي عقيم، كونه لا يتعامل مع النصوص تعاملاً متأنياً بمحاولة القبض على معنى يصنع السكينة إنما بتعامل الجندي الهائج في ساحة حرب. يعطي تعليمات نحويّة خاطئة، مثل تغريدته التي نشرها عقب استقالة القرداحي عندما كتب «النقطة على السطر الرمز الأعظم في النص»، غير أن البخاري، الخبير بوضع النقاط على الحروف وإحلاله للغفران في خيمته الشهيرة، قد فاته أن النقطة ليست برمزٍ بل علامة، وأن نصوصاً كثيرة قد نالت عظمتها بفضل عدم التنقيط وبفضل قوة ومتانة جملتها الواحدة الطويلة، أبرزهم نص بوب كوفمان الذي يبلغ خمس عشرة صفحة بعنوان «يهمس العقل السرّي؟» (من كتاب «الحياة كسكسوفون في فم الموت»، ترجمة سامر بو هواش، دار «المتوسّط»). وأحياناً تغلبه ذاكرته، مرد ذلك يعود على الأرجح إلى كثرة قراءته، ولكنه جهلهُ على الأغلب هو غالبه إذ تعثّر المرّة الفائتة في نسبهِ المرجع الحقيقي لاقتباس كان قد أخذه من الفيلسوف النمسَوي فيتغنشتاين محيلاً إيّاه إلى كتاب آخر.
لكن حقاً، ما الذي يفعله وليد البخاري؟ هو ينجز مهمّة التشويه، أو يكملها. يشوّه الآخر بطرفيه: المُستمد منه للرسالة المنشودة التي ينشرها على حسابه، والمرسل إليه. يشوّه الأوّل عملياً مستغلاً النص وهيبة كاتب النص ليمرّر غايته ببطء وسلاسة، ويشوّه الثاني رمزياً، بعنفه اللفظي تهديداً ووعيداً. وهو كما يملي الشرط الأساسي لاستخدام الاقتباس: وضع الغمّازتين. يريد وليد البخاري أن يزجّ القارئ هناك، أن تكون الغمّازتان بمثابة حصن مشيّد، معزول، لا خارج له، وعليك أن تصدّق الجملة القابعة تلك وتهزّ برأسك إيجاباً وبدهشة. فقوله مقدّس وممنوع الشك فيه، بحيث إذا ما عصيتَ فستُصبح الغمّازتان قفصاً من حديد وستنحبس عندها في السجن الحقيقي.
كان عاماً مليئاً بالضحك من ذاك الرمز العظيم، نقطة.

* من أسرة «الأخبار»‬