حتمية زوال الكيان الصهيوني لا جدال فيها، مهما طال الزمن على وجود هذه الغدّة السرطانية، في جسد أمتنا، وهذه الحتمية، التي ستتحقّق عاجلاً أم آجلاً، وُلدت يوم تأسّس هذا الكيان على ركيزة استعمارية غربية، استطاعت تدجين جلّ القيادات العربية لخدمة مشروعها، فكانت الحزام الأمني الحقيقي الذي أضحى، واقعاً، حاضنة تأسيس هذا الكيان والشريان الحيوي الذي أمّن استمراريته حتى هذه الأيام.تبنّى الجيل المؤسّس للكيان عقيدة التفوق على العرب، وأرهبهم بتفوّقه العسكري، وبخاصة في المجال الجوي، وألقى في قلوبهم الرعب، بجرائمه ومجازره، حتى غرس في النفوس مقولة: «الجيش الذي لا يُقهر»، وخاصة مع مفهوم الحرب الخاطفة، ومقولة الذراع الطويلة، وغيرها من الأفكار التي هزمت النظام العربي الرسمي، وأجبرته على التسليم بوجود هذا الكيان وكأنه أمر واقع حتمي، ولا بد من التصالح معه فكانت اتفاقية كامب ديفيد الخيانية فاتحة عهد خروج النظام العربي، بشكل عام، من الصراع مع العدو، ليجد هذا الكيان نفسه في مواجهة فعلية ومصيرية أمام الشعوب العربية.
بدأ هذا النمط من المواجهات يتبلور مع اجتياح جنوبيّ لبنان في عام 1978 لتكون المواجهة مع فصائل مقاومة في دولة بلا نظام، بفعل تركيبة هذا البلد، وتفكّك سلطته المركزية، واندلاع ما سُمّي بالحرب الأهلية فيه قبيل سنوات. تعمّقت تلك المواجهة مع اجتياح لبنان الأكبر في عام 1982، وغرق العدو في «الطين اللبناني» لسنوات طويلة بلورت مفهوم حرب العصابات، ورسّخت مصطلح المقاومة الشعبية ضد الكيان، إذ بات مشروعه وهيمنته على المحكّ.
طبعاً تنامت المقاومة الشعبية غير الرسمية لهذا العدو، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، وبات هذا الكيان يواجه عوامل غير مسبوقة في مسيرته، وتُرسِّخ يقينية انهياره الحتمي الذي سيأتي، عاجلاً أم آجلاً.
وفي سياق استعراض العوامل التي تؤكد حتمية زوال هذا الكيان سنحاول هنا باختصار تقديم خمسة منها، وهي التي تتمظهر مثل يد تطوّق بأصابعها عنق هذا الكيان وستبقى تشد خناقه حتى يلفظ أنفاسه، ويُقضى عليه.
وهذه العوامل هي الآتية:
1 - تحورات البنية اللاواعية الصهيونية: يتحدث الكثير من المحللين والخبراء الصهاينة أن إشاعة أسطورة أن الكيان «لا يمكن أن يُهزم» وخاصة بعد حرب الـ67، وحرب الـ73، كان لها مفعول سلبي إذ أرخت حالة من الطمأنينة الكاذبة، وأسّست أجيالاً صهيونية تعيش حالة من الدعة، وتحلم بالترف على حساب البذل للمحافظة على تفوق «دولتهم».
هذا التحور، في البنية الصهيونية اللاواعية، هو مسمار مهم في نعش هذا الكيان، وأحد عوامل انحداره، بحسب المنحنى الخلدوني الذي يجعلنا نتيقن أن مشروع هذا الكيان تجاوز مرحلة الأوج، ودخل طور الانحدار.
2 - الصراعات الصهيونية البينيّة: من الصعب اختصار الخلافات التي تعصف بالمجتمع الصهيوني، المؤلف من «طبيخ الشحادة»، بحسب تعبير المثل الشعبي، إذ يتكون من خليط من أعراق وثقافات ولغات ومذاهب وطوائف وأحزاب، وعقائد فكرية وسياسية بين قومي وديني وعلماني ...وغيرها من التنوّعات التي تسبب الكثير من الخلافات العميقة... ولكن!!!
تبقى هذه الخلافات محكومة بمشروع صهيوني أعلى، وتأتي هي تحت سقفه، وكل خلاف داخلي يبقى أقل أهمية من مشروع الحركة الصهيونية، وكل صراع بينيّ يكون في درجة أقل حماوة من درجة الصراع مع الأعداء الخارجيين ...وعندما تتقدم الخلافات الداخلية على الصراع الخارجي، وعندما تتفوّق أهمية العداوة الداخلية فوق أهمية المشروع الصهيوني وفوق عداوة الأطراف الخارجية وبالتالي إمكانية الاستعانة بهذه الأطراف... عندها تصبح هزيمة الصهيونية حتمية متحقّقة!!
وهذه إحدى فتائل التفجير الكامنة التي ستندلع يوماً ما، بلا شك، وبدأت إرهاصاتها بالتصاعد، حسب متابعة الأحداث في الكيان، ومراقبة إعلامه الحافل بالخلافات الحامية بين شرائح مجتمع الاحتلال.
3 - تغير مزاج المجتمع الدولي: قد يكون الغرب الرسمي أحد أعمدة المجتمع الدولي، ولكنه العمود الأساس في تأسيس الكيان واستمرارية وجوده والمستثمر الأول لهذا الوجود، ويعوّل عليه الكيان والحركة الصهيونية جلّ آمالهما. لكنّ هذه العلاقة لن تدوم بفعل طبيعة الغرب الرأسمالي الباحث أبداً عن مصالحه، التي باتت قاموسه، وكتابه المقدّس الأوحد، فلا يخطّ سطراً خارجه، ولا يرى علاقة إلا عبر جيوبه. لذلك من الطبيعي أن نجد أنفسنا يوماً ونحن نرى الكيان وقد تحول إلى عبء فوق كاهل هذا المستثمر الغربي، وباتت مداخيله أعلى من مصاريفه على صعيد مصالح الغرب في ظل تغيّر موازين القوى في المنطقة والعالم، وتحول وجود الكيان إلى نقطة في بازار الاتفاقيات الدولية والإقليمية.
هذا على الصعيد الرسمي، أما على المستوى الشعبي فإن ازدياد وتيرة ظواهر معاداة الكيان، ومقاطعته في ميادين شتى، وفي بلدان عدة، هو وليد واحدة من حسنات مواقع التواصل، وعالم الإنترنت الافتراضي، الذي بات لاعباً مرموقاً على مستوى الإعلام الدولي.
قبل عالم الإنترنت كانت وسائل الإعلام معدودة، ولكن تهيمن على إغلبها جهات معروفة، ووثيقة الصلة بالغرب وبالصهيونية. ولكن مع بروز ظاهرة الإعلام الفردي، مع وسائل التواصل، تحرّرت القضية الفلسطينية من سطوة هيمنة الإمبراطورية الإعلامية المؤيدة للعدو، وبات كل فرد عربي، أو مسلم، أو غربي يؤمن بهذه القضية، قادراً على نشر آرائه لدعمها وإيصالها إلى أنحاء المعمورة عبر الفضاء الإلكتروني المتحرّر، نوعاً ما، من تلك الهيمنة، وهذا ما لمسناه في جولة الحرب الأخيرة على غزة، حيث دلّت دراسات صهيونية أن أكثر من نصف سكان العالم استطاع مشاهدة محتوى رقمي يناصر القضية الفلسطينية، ودقّت نفير ضرورة العمل على تغيير هذا الواقع غير المسبوق.
إن التأثير على الرأي العام العالمي، لمصلحة القضية الفلسطينية، هو بلا شك طعنة في صميم الكيان، ونقطة ضغط على المجتمع الدولي، والنظام الرسمي الغربي، ما يكبح المشروع الصهيوني، ويكون عاملاً مهماً على طريق زواله من منطقتنا.
4 – «قنبلة»عرب الـ48: تمثل الكتلة الديمغرافية لعرب الأراضي المحتلة في عام 1948، أحد أهم التحديات الوجودية للكيان الغاصب، وهي محط نقاش منذ عشرات السنوات بين الصهاينة، بحيث استعمل بعضهم مصطلح «القنبلة الديمغرافية» للإشارة إلى التهديد الذي تشكله الكتلة السكانية لأهل الأرض الأصليين.
والمؤسف أن التعاطي العربي لم يكن بقدر المسؤولية مع هذه الكتلة. فبدل أن يعزز لديها الشعور القومي، وشعور الصمود، والانتماء إلى الأرض، وينظمها ويمدّها بالسلاح، ويحولها إلى غصة في حلق العدو، بل قام بوصمها بصفات الخيانة والتطبيع! ما أجبر شرائح كبرى منها على الاستسلام للأمر الواقع... للأسف.
أثبتت الأيام أن الهاجس الصهيوني كان في محله، وخاصة مع تنامي مفهوم الذاكرة الإلكترونية الافتراضية، الذي تجاوز الحدود التقليدية، عبر وسائل الاتصال الحديثة، ومدّ وشائج التواصل بين مكوّنات الشعب الفلسطيني، وعزّز شعور الانتماء لدى عرب الأراضي المحتلة في عام 1948.
ويُلاحظ المتابع تنامي وتيرة الأفعال والمواقف الرافضة للعدو والمؤيدة للمقاومة بشكل جليّ عند هؤلاء. وهذا ما شكّل صدمة غير مسبوقة للعدو، برزت أكبر تجلياتها أثناء العدوان الأخير على غزة، بحيث انفجرت بوجهه هذه القنبلة الموقوتة، في حين كانت الصواريخ تتساقط فوق رأسه، وكان خوفه من «الحرب الإقليمية» يطبع تحركاته، وتصريحات قادته. وجاءت صدمة انتفاضة عرب الـ48 التي زلزلت خطط الكيان، ووضعته في موقف غير مسبوق، ولا يُحسد عليه، وبات كمن تهاجمه الضواري، ولكن انحصر همّه في إطفاء النيران التي اندلعت داخل منزله، حتى عنونت واحدة من أكبر صحف الكيان بثيمة لافتة: «سقوط 75 عاماً من التعايش»!!
نعم... عرب الـ48 ورقة قوة، وطعنة نجلاء في خاصرة العدو المحتل وقد أزف وقتها.
5 - تنامي قوة فصائل المقاومة: وهي العلامة الأبرز في تاريخ الصراع مع العدو الذي كان يتغنّى بسياسة «اليد الطولى» القادرة على الضرب أنّى يشاء، ساعة يشاء!! وسياسة «رد الصاع ألف صاع» لإرهاب كل من يفكر بتنفيذ عمل عسكري ضده، واستغلال الرد لتأليب الرأي العام ضد المنفّذ. ولكن مع تنامي قدرة فصائل المقاومة، واكتسابها خبرات تراكمية وتنظيمية، وتحركها ضمن مشروع محور المقاومة، وضع قواعد جديدة للصراع.
بات العدو ملزماً بالوقوف موقف المتفرج، بشكل عام، أمام تنامي قدرات هذه الفصائل، ومراكمتها للسلاح النوعي. وبات عاجزاً عن استرجاع هيبته، وتعديل ميزان الردع لمصلحته، بعد أن فقده منذ انسحابه الذليل من جنوبيّ لبنان، ومن غزة، أمام ضربات ألزمته على الدخول قوقعة حدودية تحكمها الجدران العازلة، والأسلاك الشائكة، وبات يحسب ألف حساب لكل تحرك يريد أن يقوم به خارجها، قبالة تحفّز الفصائل على الرد، ضمن قواعد الاشتباك المستحدثة ضمن تاريخية هذا الصراع، بل على العكس بات يجهز ما يُسميه جبهته الداخلية بشكل دفاعي، ويجري مناورات عدة لقواته العسكرية للتصدي لاحتمال، بات يؤرقه، وهو عبور هذه الحدود، وخوض المعركة داخل أراضي فلسطين التاريخية للمرة الأولى منذ عقود.
نعم انتقل العدو من سياسة الهجوم والتوسّع، إلى عقلية الدفاع والتقوقع، لأول مرة منذ تأسيس كيانه على أنقاض فلسطين وشعبها، في أكبر جريمة إرهابية شهدها، ولا يزال يشهدها، العالم المعاصر.
الكيان الصهيوني مخلوق هجين غريب عن نسيج المنطقة تبعاً للمقاييس الأنتروبوسوسيولوجية، رغم كل عمليات التمويه الاستيطيقية والبوليتيكية، تحت عناوين الأمر الواقع والتطبيع والمصالح، لمواءمته مع محيطه، ومحاولة تأبيد وجوده في بلادنا، خلافاً للقوانين والسنن الطبيعية والإلهية، وتجاوزاً عن العوامل الآنفة الذكر التي تؤكد حتمية زواله، وتبشّرنا بيوم تُرسم فيه خريطة المنطقة في كل بقاع العالم وكتبه وقواميسه وهي تحمل وسم: «فلسطين»... فقط فلسطين.

(*) باحث لبناني