يعتبر انتقال البشرية من ثقافة الأمومة إلى ثقافة الأبوة من أهم الانقلابات التاريخية الكبرى. في كتابه مغامرة العقل الأولى، يتنبّه فراس السواح باكراً للحالة السكونية للآلهة البدئية. برأيه، كانت الآلهة تعبيراً رمزياً لسكونية المجتمع الأمومي ووئامه مع الطبيعة. كذا كان يعدّ ابتعاد المجتمعات عن التغيرات الحثيثة ضرباً من الإحجام عن الانتقال لمرحلة الإرادة والسيطرة، وهي السمة التي ميّزت المجتمعات الأبوية في ما بعد.
في أساطير مشرقنا القديمة صور تكثيفية لمعنى هذا الانتقال. الطوفان البابلي، الفردوس السومري المفقود، الآلهة الميتة في كنعان، أساطير تلازم إدراكنا وتاريخنا كل حين، وكأنما لم نزل نراوح عند مغامرة العقل الأولى.
عشية النصف من حزيران عام 2004، كان كتاب الحرية أو الطوفان للباحث الإسلامي الدكتور حاكم المطيري يبصر أيامه الأولى. لم يكتنز الكتاب جديداً في المقاربة الإسلامية المستأنفة منذ ما يزيد على القرنين. وقد تشعر لوهلة وأنت بين ثناياه أنك عند محمد حميد الله مطلع الأربعينيات، في استقرائه للخطاب الشرعي. لكن الكتاب وللمفارقة، كان بعثاً لإبدال دعوة الطاعة بدعوى الحرية، وهي الدعوى التي أرساها خطاب الصحوة الإسلامية منذ ما يزيد على عقدين. لقد أنذر المطيري بطوفان تختمر ثناياه عميق وجدان المجتمع الإسلامي، وهو الطوفان الذي أبصر غيثه مساء الجمعة، في السابع عشر من كانون الأول عام 2010.

دخلت الحركة الإسلامية الربيع العربي بتصورات تقليدية عن دولة تدخلية
مع اندلاع الطوفان العربي، بدت الحركة الإسلامية متعجلة ختام النهايات. لقد أغفلت هذه الحركة – من ضمن ما أغفلت – نقاطاً رئيسية ثلاثاً. هي لم تستنبه معنى الاستبداد ومؤداه. إن سردية الاستبداد عصية الفهم عسيرة السيرة. وقد يتراءى لوهلة أن حكاية الاستبداد أقوى من الاستبداد نفسه. بعد سقوط أنظمة القمع في كل من تونس ومصر، بدا المقول الثقافي للحركة الإسلامية مأسوراً لمجال السلطة التي مارست القهر. المقول الذي أعلن كفره بسلطة الاستبداد يوماً، يتهدده ارتحال نحو آصرة السلطة المستبدة. كمثال، شكل مفهوما الدولة القاعدة والطائفة الظاهرة، (المستمدان من أدبيات نديم البيطار وجماعة الطليعة البعثية منتصف الستينيات)، دلالة لإبدال منهج الدعوة، بدعوة العُصبة. سؤال القيم هو الآخر بدا مرجأً لمصلحة فقهيات العُصبة المتحذّرة القهر. لا يزال سؤال الأولوية مستنزلاً رحاله عند كل مرة تتضاد القيم من جهة ووجود الجماعة من جهة أخرى. من الأَولى في الدعوة والهداية: قيم الجماعة؟ أم الجماعة نفسها؟ سؤال قرين لجواب مرجأ. وهو جواب كان ولم يزل طريد سُنة القهر. لم يزل القهر في عالمنا العربي سيد الحكايات وسلطانها. لكن أخطر ما في القهر، أنه موعد منسي مع سؤال مرجأ: ماذا نفعل، وإلى أين سنمضي؟
مسألة أخرى كان على الحركة الإسلامية التنبه لها، إنها مسألة وعي المرحلة الثورية سياسياً وحضارياً. إن ميلاد الثورة مأسورةً لمفاهيم الجيل الثاني من الإسلاميين، ممن توهّموا بدء النهضة الإسلامية من الغرب، اكتنز، في ما اكتنز، افتقاراً ضمنياً لفهم واقع التحول الدولي والحداثة الآخذة في الاطراد. لقد كشف انهيار السلطة المترهلة في واقعنا العربي، انهياراً آخر في صلاحية المقول الإسلامي عن الغرب. ثمة عجز عن إدراك طبيعة المعنى الضمني لمفهومي الغرب والحداثة. هل الحداثة مفردة من مفردات الغرب؟ هل الغرب مفردة من مفردات الحداثة؟
طوال عقدين منصرمين، كان المقول الإسلامي متحذراً مآلات الحداثة من جهة، مسترسلاً في عقد قرانه والغرب من جهة أخرى. أسهمت كتابات كل من ليوناردو فيدينو، والأنثروبولوجية دنيا بوزار حول الظاهرة الإسلامية الغربية، بإيضاح تقلبات الحركة الإسلامية هناك. تجربة الجمعية الإسلامية لأميركا الشمالية ومؤسسة الحرمين في الولايات المتحدة، تجربة مسجدي باريس الكبير وريجينت بارك في إنجلترا، كلها لم تؤل إلى مسارات من الشراكة المتوازنة. مرة جديدة أغفل الإسلاميون فهم العلاقة بين الغرب والحداثة. ومرة جديدة أغفل الإسلاميون فهم واقعة الحداثة نفسها.
تكشف أدبيات الحداثة في العقدين المنصرمين، هي الأخرى، تفتّق مصطلح المخاطرة كمفردة ملازمة لمسارات التقدم نفسها، للمسألة دورها في إماطة لثام الحاجة لتدوير فهمنا «للما-بعد» في ظاهرة النظام الدولي الجديد. قدمت أعمال كل من أورليش بيك وأنتوني غيدنز إسهامات مهمة في تنبّه مخاطر الحداثة الما-بعد صناعية، وأثرها في الحقل السياسي. ثمة انزياح في مؤسسة العقلانية التقليدية «البرلمان - الحكومة - النظام» عن كونها فضاءات مؤسسة لإرادة معقلنة وحرة. كذلك ثمة هجرة للشأن السياسي من منابر الدولة التدخلية. لقد دخلت الحركة الإسلامية الربيع العربي بتصورات تقليدية عن دولة تدخلية، فانتهت مرتهنة في فضاءات نظام السيطرة الجديد (الإعلام - التقانة - وشبكة المصالح الاقتصادية). هل يعي الإسلاميون وظيفة التوتر والحروب - عند حافة المتوسط - في إعادة تدوير نظام المخاطر في عالم المخاطرة الجديد؟
ثالثة المسائل التي كان على الحركة الإسلامية التنبه لها تكمن في تحولات الهوية الثقافية. لقد أفضى الصعود المتوتر لثقافويات العولمة لتأزم مقول الهوية والمثقف الإسلامي. كنموذج، قبيل بضع سنوات قدّم الدكتور رضوان السيد في إحدى محاوراته التلفزيونية، مقاربة دلالية لبناءَي التسنن والتشيع. التسنن مبتنى الإحسان قال السيد، فيما التشيع قوام العدل. الإحسان قدرة على الصفح والتجاوز، العدل مراوحة عند الحد والفصل. قد يشعر السامع لوهلة أنه أمام نص من نصوص إرنست رينان منتصف القرن التاسع عشر، في معرض قرانه الشرق بالغرب. مقاربة متماهية حد المطابقة، لمقولين يفصل بينهما قرابة القرنين، ركن أولهما لحتميات الإثنية اللغوية، فيما استُلب الآخر مبضع الرؤية والدواة، فنمذج الذات والآخر في عرى التاريخ الواحد. محقاً كان طرابيشي في مأخذه يوماً على الجابري. لقد أمثل idealized المثقف الإسلامي مقولات الغرب ورؤاه، في الوقت الذي استدعته العولمة لهويات شعورية لاواقعية، صنّمت الإدراك ومعه العقل، في ثنائياتٍ هجائية قاتلة.

في سؤال الأمر والسلطة

لقد شرّع الربيع العربي أبواب السؤال المؤصدة، عن معنى السلطة وأصل الأمر، وعن قيم الهوية الإسلامية وواقع الفكر. متى تكون السلطة عقلية؟ إنه سؤال يبحث عن تخليص السلطة من كل أنواع التسلط. وهو سؤال قد لا يستسيغ مساءلة السلطة دون الكشف عن الجدلية التي تقوم بينها وبين المجال الذي تنتمي إليه – الحق والأمر –. كيف تناسب السلطة بين الأمر والحق؟ وكيف تجانب جاذبية السلطان وغواية والسيطرة؟ إنها مسألة رؤيا قبل كل شيء، لمعنى المسؤولية وحقيقة الكرامة الإنسانية، ثم لطبيعة الأمر ومنطق الطاعة الإنسانية. إن سؤال السلطة هو سؤال الطبيعة الإنسانية بشكل أو بآخر، ذاك كان مَدعى كل من أشغل عقله في البحث عن مدنية مستقرة. وذاك ما ينبغي أن يكون مدعى لميلاد نظرية فلسفية في المسألة السياسية، أرى أن الحركة الإسلامية اليوم، في أمسّ الحاجة إليها.

موعد مع الأساطير المرجأة

شكل فوز – الشيخ – الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بولاية رئاسية رابعة، إعلاناً شبه رسمي لنهاية عبث الطوفان وحلم الإنسان العربي بالحرية والمشاركة السياسية. لقد خبا الشارع العربي من جديد، وعاد الإنسان للانشغال بقمين راهنه اليومي. لم يستطع الحراك الإسلامي صدع سيطرة الأنظمة، كذلك لم يقتدر سلطان الأنظمة على إرغام الشعوب بصلاحية السلطة المترهلة. هل عاش الإسلاميون حلماً اسمه الثورة؟ هل عاش الإسلاميون وطأة أسطورة اسمها السلطة؟ في علم النفس العيادي، ثمة ما يُقال عن الأحلام. إن الأحلام قطب ثانٍ لوجودنا. لإيريك فروم رأي في الحلم. برأيه؛ في الحلم - والحلم وحده -، ننفلت من التحكم بعالم المادة ونتفرغ للذات، فنصير أكثر شفافية وحساسية في آن، في الحلم - والحلم وحده -، تصير معرفتنا بأنفسنا أكثر وضوحاً، وأكثر صدقاً، وأكثر حكمة. للأسطورة في الميثولوجيا - هي الأخرى - معنى ومرتجى، إنها خزين ذاكرة الجماعة، ومستودع سر الزمن المقدس. هل جاوزت بنا السنون الثلاث المنصرمة عتبة الحلم، أو حد الأسطورة؟ قد لا أكون معنياً بالإجابة، لكني أجد عنوان كتاب لفراس السواح عن التاريخ والأسطورة، أميناً بتوصيف واقع اغتمر الحركة الإسلامية واعتمر بها. هكذا خاض الإسلاميون في ربيع بلادنا؛ مغامرة العقل الأولى.
* باحث لبناني