وصلت الأزمة في سوريا إلى مآلات لم يشتهها عرّابوها. كان الرهان أن تسقط الدولة في وقت قصير قياساً للتحضير الكبير والمحكم حسب اعتقاد من يقف خلفه، واعتماداً على الضخ الهائل لكل ما اعتقدوا أن من شأنه أن يسرِّع في السقوط، من دعم سياسي ومالي والزج بالمقاتلين والسلاح، والدعم المفتوح من وسائل إعلام، إضافة إلى هيئات ومؤسسات عربية ودولية مسلوبة القرار لصالح الدول الكبرى. إلا أن الدولة لم تسقط، بل تمكنت من التصدي لاستهدافهم، والوقوف في وجه مخططاتهم، وبدأت في الأشهر الأخيرة باستعادة زمام الأمور لتثبيت أركان الدولة من جديد.
ثلاث سنوات كانت كافية لتعرية تفاصيل الأزمة في سوريا وفضح من يقف خلفها، ولتكشف حجم التحضير وتاريخه «الحديث»، الذي يسبق بداية الأزمة بكثير، بنك من الأهداف لعدد من المشاريع التي تتلاقى مصالحها في إسقاط سوريا كدولة ودور وشعب. هذه المشاريع اصطدمت بقوة مع سوريا الدولة التي استطاعت مدعومة من حلفائها الذين كانوا على دراية كاملة بالمخطط الموضوع لتنفيذه في المنطقة والعالم، والذي يبدأ من سوريا، فكانت نتيجة هذا الاصطدام موجعة على الأرض، دفعت سوريا ثمنها غالياً على جميع الصعد.
مخاض عسير، تحت وقع حراكات أخذت جميع الأشكال واتبعت أساليب ووسائل مختلفة في التعبير والمطالبة، مطالب محقة تلك التي رفعها المحتجون واستخدمت كذرائع للحراك وللتدخل الخارجي، دفعت بالحكومة السورية إلى العمل على تلبية تلك المطالب باعتبارها استحقاقات أساسية يجب عدم التأخر أكثر في إنجازها، ولسحب الذرائع التي تستند إليها أطراف خارجية لتبرير تدخلها في سوريا. فسارعت الحكومة إلى اتخاذ عدد كبير من القرارات والإجراءات، وسن عدد من القوانين والتشريعات، وغير ذلك من إجراءات تعتبر في حقيقة الأمر استجابة وتلبية للمطالب التي رُفعت، وإن لم تكن ناجعة لتنهي الحراك وتسحب ذرائعه، أو مرضية لمن خرج في البداية إلى الشارع يرفع تلك المطالب كأهداف وغايات يمكن تحقيقها، ثم رفع سقف مطالبه لتتخطى حدود إمكانية التحقيق، وتُدخل الحراك والرد عليه في دوامة الفوضى والعنف. لو أن الغاية هي إجبار النظام على البدء بإحداث تغييرات مهمة تصب في سياق تلبية المطالب المحقة التي رفعت، لكان من الواضح جداً أن ما قدمه النظام يعتبر بداية حقيقية لتغيير في ذهنية وآليات تعامله مع قضايا الداخل الكثيرة التي تدلل على المستويات الصحيحة والمطلوبة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. غير أن انكشاف لاعفوية الحراك وعدم صدقية غاياته وأهدافه، وامتطائه من قبل أصحاب المشاريع التي تريد تنفيذ أجنداتها الخاصة، جعلت من الأرض السورية ساحة فعل ورد فعل، وفتحتها لجميع أنواع الفوضى، بحيث أصبحت مقصداً للجهاد العالمي، وتجمعاً لمجموعات إرهابية مسلحة تتعدد وتختلف مرجعياتها وغاياتها على حساب سوريا وشعبها، ما أدخل الأزمة في أتون صراع دموي أوصل البلاد إلى حال يرثى لها.

ثلاث سنوات كانت
كافية لتعرية تفاصيل الأزمة في سوريا وفضح من يقف خلفها

هي حال لا تسر إلا أعداءها، حال سوريا على أبواب الانتخابات الرئاسية التي تُعَدُّ الاستحقاق السوري الأكبر والأهم الذي تنتظره سوريا، وينسحب سوء الحال العام على حال الانتخابات الرئاسية، فالانقسام سيد الموقف، والمعارضة السورية بغالبية أطيافها تقاطع هذه الانتخابات، رغم أنها تدعي تمثيلها لغالبية الشعب السوري وتتحدث باسمه، وتؤكد أن جميع السوريين يرفضون انتخاب بشار الأسد رئيساً لسوريا. ويترافق مع تلك المقاطعة قرار أميركا وعدد من الدول الغربية والعربية المتزعمة لحملة الاستهداف رفض السماح بإجراء الانتخابات الرئاسية للمغتربين السوريين على أراضيها، ما يفسر على أنه زيادة في الضغط السياسي، وبدوره يكمِّل الضغط الإعلامي تشويه صورة هذا الاستحقاق، ويصر على التشكيك بعدم شرعية إجراء الانتخابات، وإدانتها مسبقاً بالتزوير، والطعن بنتائجها قبل صدورها. كما من شأن جميع هذه الضغوط أن تسهم في تهيئة مناخ قادم رافض لنتائج الانتخابات، ويمهد لخطوات لاحقة تطعن في شرعيتها، وبالتالي شرعية النظام كله. كل ذلك يفرض تساؤلاً مشروعاً عن السبب الحقيقي الذي يقف خلف رفض إجراء هذه الانتخابات، طالما أن المعارضة واثقة من امتلاكها للأغلبية التي من المفترض أن تكون قادرة على صياغة النتيجة النهائية التي يفرزها صندوق الاقتراع، وطالما أن زعماء الدول المتحضرة يتشدقون بأن صناديق الاقتراع هي المعيار الحقيقي الذي يدل على إرادة الشعوب، فلماذا إذاً إصرارهم على رفض إجرائها والطعن بنتائجها قبل أن تحدث.
مقاربة محقة بين ما يجري الآن في سوريا وما جرى في أميركا خلال عهد ابراهام لينكولن عام 1864 عندما اتخذ قراره بإجراء انتخابات رئاسية في ظل حرب أهلية طاحنة جعلت من نصف البلاد تحت سلطة المتمردين الذين رفضوا قرار تحرير العبيد وأشعلوا حرباً راح ضحيتها 750 ألف جندي أميركي، إضافة إلى مئات الآلاف من المدنيين، كان قرار لينكولن التمسك بإجراء الانتخابات الرئاسية نابعاً من إيمانه بصوابية القضية التي يناضل من أجلها، وسمو أهدافها. لذلك أجرى الانتخابات وفاز بها وحقق الانتصار الذي يريد، وأسس لأميركا القوية، مقاربة لا يمكن لأحد أن ينكرها، إضافة إلى تجربة القرون الوسطى المظلمة التي مرت بها أوروبا وأنتجت في نهايتها دولاً وشعوباً متحضرة ومتقدمة. لذلك من واجب السوريين أن يُتمّوا هذا الاستحقاق ، وعلى أميركا والغرب والخارج بشكل عام أن يتقبلوا نتائجه، لتثبيت شرعية ديموقراطياتهم المستندة إلى تاريخهم الذي أسس لبناء دولهم التي يتباهون بها، وترجمة الثقة بهذه الديموقراطيه عبر الاعتراف بما ينتج من أهم رموز ممارسة العمل الديموقراطي وهو صندوق الاقتراع، ولتكن ولادة سوريا الجديدة من هذا الصندوق.
* إعلامي سوري