المدينة في أساسها ومنذ بداية التاريخ تعتمد على تركّز إدارة الموارد والسلطة وامتلاك نفوذ توزيع هذه الموارد، أيّاً تكن من الماء والمحاصيل قديماً إلى خدمات اليوم. ولتقوم بذلك فهي تحتاج إلى شبكات، فكفاءة المدينة من كفاءة شبكاتها وأحد أهم ميّزاتها التنافسيّة، ولا نجاة من دون شبكة مواصلات عامّة فعّالة. المسألة هنا ليست لتجنّب الازدحام أو توفير استهلاك الوقود لاعتبارات اقتصادية أو بيئيّة، على أهميّتها للسّكان وصانعي القرار، إلّا أنّ لبّ الموضوع ليس هنا، بل بالأثر الاجتماعي الاقتصادي لشبكة النقل العام وهو ما سنحاول تناوله في هذا المقال.يُنظر لشبكة النقل العام عادةً من منظور المرفق أو الخدمة العامة، لكن من الممكن أن تخدم الأثرياء أيضاً، فهي وسيلة وضرورة لأي مدينة. أما توظيفها فيخدم الجهة المموّلة، فمن يموّل شبكة النقل العام يصمّمها لخدمة مآربه. في الوضع المثالي تُصمّم شبكة النقل العام لخدمة المواطنين وخلق مساواة وعدالة في الوصول إلى مراكز الأعمال والأسواق والخدمات بين الأحياء وتأمين رحلات بكلفة معقولة وسرعة وراحة لجميع السكان، أو مثلاً يمكن للشبكة أن تكون مدفوعة بالربح وبالتالي الأحياء التي يتم خدمتها هي الأكثر كثافة وأكثر مركزيّة أو أن تكون قد صمّمت لجذب الاستثمارات وتنمية القطاع العقاري كما في حالة إسطنبول. أما شبكة النقل العام في سنغافورة، فصُمّمت لخدمة مشاريع الإسكان والتخطيط المركزي للحكومة/ المدينة. وفي حالة شبكة مترو دبي، فهي مصمّمة لنقل العمّال الوافدين الملوّنين إلى مساكنهم بعيداً عن مرأى الوافدين البيض! فالنقل العام ليس خياراً اشتراكيا بالضرورة، وهو وسيلة تخضع لسياسات عامة بإمكانها زيادة حدة الاستقطاب الاجتماعي والطبقي ويمكنها أن تكون العامل الأساس في توظيف المدينة كبؤرة صهر اجتماعي ووطني.
مهنّد الشريدة (نيوزيلاندا)

جدولٌ لا ماء فيه
الموجة الجديدة في التخطيط الأميركي، تنتقد سياسات النقل العام فيها. الحقيقة أنه كان في أغلب المدن الأميركية قبل الحرب العالمية الثانية نوع من النقل العام والمشترك من خطوط الترام بشكل خاص. إلّا أنّ صناعة النفط والسيارات ومطوّري العقارات هم الذين غيّروا مسار المدن الأميركية وفرضوا ثنائية السيارة الخصوصية/ البيت الخاص، المبنيّة على شقّ الطرق السريعة، لتصل هذه الضواحي بسرعة بمراكز المدن التجارية من جهة، وتشقّ صدر الأحياء الفقيرة والملوّنة من جهة أخرى فتقضمها وتفرّغها وتعزلها. عرّاب هذا النموذج هو روبرت موزيس، ومدينة نيويورك كانت الضحية النموذج لسياساته. هذا كلّه تم تغليفه بورق لامع باسم الحلم الأميركي في عمل وبيت وسيارة خاصّين في يوتوبيا بيضاء عزلت الملوّنين ليس فقط من باب عنصريّة عفوية، بل كاستراتيجية للتسويق وبتواطؤ مصرفي قانوني كما يسرد كتاب The color of the law. كتب الكثير عن فشل هذا النموذج، وكيف أنّه قتل المدن الأميركية من ناشطين كجين جايكوب (The life and death of great American cities)ومتخصّصين كنيل سميث (The new urban frontier)... لكن ما يهم هنا أن نعلم أن هذا النموذج لم يكن مجرّد تجربة أو تقاطع مصالح اقتصادية في اقتصاد ليبيرالي، بل أداة للعزل الطبقي والفصل العنصري، وهو الطريق الذي يؤدي في النهاية إلى فقراء ومشردين أكثر وأحياء مسوّرة للأغنياء (غيتوهات ثرية)، وهذا الاستقطاب يشلّ المدينة ويعزّز العنف والاقتصاد غير الرسمي وظهور العصابات والعنف، لا يمكن أن يؤدي هذا إلى نموذج صناعي منتج قابل للمنافسة، حتى لو أمّنت يد عاملة رخيصة تعيش في عشوائيات حول المصانع، هذا يحرمك من تكوين سوق داخلي قوي يكون الحاضنة لأي صناعات محلية صاعدة تستطيع البدء محلياً والتمكّن من التصنيع عالي الكثافة لأجل هذا السوق وبالتالي يمكنها لاحقاً المنافسة مع الخارج، هذا النهج ألقى ظلاً ثقيلاً على الدول التابعة خصوصاً دولنا العربية في غالبها، فوأد شبكة النقل العام، لا يؤذي الفقراء فقط بل يعطّل عجلات المدينة ويشلّها.

التخطيط المركزي كضرورة
في الوقت الذي قادت الولايات المتحدة الأميركية الطرق السريعة والسيارات الخاصة وما أفرزته من ضواحي، وصوّرت هذا التوجه على أنه هو الحداثة والوظيفية الفائقة والتمثيل المديني الأكثر تماهياً مع السوق الحر والرأسمالية. كان هناك نموذج أوروبي وشرقي اشتراكي يرى العكس لأسباب مختلفة. أما اليوم فالتحولات المدينية الكبرى على مستوى العالم غيّرت هذه النظرة حتى في أميركا نفسها. ولم يعد بوسع المدينة الليبرالية النموذجية (المدينة السيالة) أن تعمل، من دون شبكات نقل عام فائقة السرعة والفعالية. والسبب يكمن في التنافسية بين المدن لجذب الاستثمارات. فالمدن اليوم تسوّق لنفسها عن طريق قوانين تحفيزية مثل خفض الضرائب، وقوانين العمل المنحازة لأصحاب الاستثمارات. وفي قلب حملة التسويق هذه يقع مفهومان مترابطان هما الحد الأدنى للأجور والمستوى المعيشي. المدن التي تتمكن من خفض كلفة المستوى المعيشي اللائق تكون قادرة على جذب استثمارات أكثر، لأن الشركات تريد أن تدفع أقل ما يمكن لموظّفيها. ومع ذلك تريد أن تضع مقرّاتها ومصانعها في مدن تجذب الخبراء والأخصائيّين الذين تحتاج أن تجذبهم للعمل معها بشكل تنافسي، وتريد أيضاً أسواقاً محلية قوية وهي مهمة بشكل حيوي للشركات المتوسطة والصغيرة بالذات، وبالتالي يجب أن تكون القدرة الشرائية للسكان قوية. وهذه الشركات بالمناسبة قطاع لا يُستهان به، فهي الجزء الأهم من الاقتصاد الألماني مثلاً.
شبكة النقل العام هنا تلعب الدور الأهم، وهو ليس مجرد تأمين رحلة عمل سهلة واقتصادية ومريحة، بل الفكرة تكمن بتغيّر مصفوفة الزمن والمسافة للمدينة (Time/distance matrix). فزيادة المسافة التي يمكنك قطعها في مدينة ما يغيّرها بطرق عدّة، مثلاً يصبح هناك سكن في بيت أرخص وأكبر، ربما في منطقة أبعد، من دون إطالة مدّة رحلتك اليومية. هذا بدوره قد يخفّف الطلب على العقارات في قلب المدينة ويغيّر أسعارها، والمناطق السكنية الجديدة بدورها ستخلق أسواقاً محلية لها وفي ظروف معينة تخلق مركزيات جديدة وتتحول لبؤر نامية وفي بعض الحالات تطغى بالأهمية على المراكز القديمة.
«الحلم الأميركي» يوتوبيا بيضاء تجلّت في نموذج تنظيم مدني ليس مجرّد تجربة وظيفيّة أو حتّى تسويقيّة، وتقاطع مصالح في اقتصاد ليبرالي فحسب، بل أداة للعزل الطبقي والفصل العنصري


والدينامية الناشئة من تفاعل خطط النقل واستخدام الأراضي، تسمى بدورة النقل واستخدام الأراضي. هذه الدورة بطبيعة الحال لا تنطبق على الأحياء داخل مدينة ما فحسب، بل أيضاً على الربط بين المدن. فربط مدينة متوسطة أ (2-3 مليون) بمدينة كبرى ب (أكبر من 10 مليون) برحلة لا تتعدى الساعتين قد يؤدي إلى نزوح الأعمال للمدينة الأكبر لكون أسواقها أكبر وفيها عمالة أكثر. وهذا بدوره سيضطر أعداداً كبيرة من سكان المدينة أ إلى العمل في المدينة ب. هكذا تتحوّل المدينة أ إلى مدينة للمنامة Dorm City، في الجهة المقابلة أن تكوّن بؤرة صناعية أو تجارية ما على أطراف المدينة سيستدعي في نهاية الأمر جلب خطوط مواصلات لها. وقد تتكوّن بؤرة جديدة على خطوط النقل هذه تخلق أسواقاً ومشاريع سكنية ومن ثم تتطلب خطوط نقل جديدة.
إن ترك هذه الدينامية متفلّتة وعشوائية أو أن يمسك بناصيتها التطوير العقاري الليبرالي أثبت فشله. لذلك فإن الأخصائيّين الأميركيّين ينصحون اليوم بـ TOD: Transit oriented development فنموذج السيارة والبيت الخاصّين والعيش في الضواحي النخبوية، ليس أنانياً ومضراً بالبيئة والمجتمع فحسب، بل هو غير مجد اقتصادياً، لذا فالحل يكمن بالتطوير تبعاً لنقل عام ــ جماعي ــ مشترك يركّز ويكثّف السكان، وأيضاً يعمل على بؤر ومراكز حضرية مرتبطة بمحطات النقل العام، وتمتاز بالضرورة باستعمالات أراضٍ مختلطة لأن المنامات الضخمة المسماة بالضواحي غير قابلة للعيش في المستقبل ومكلفة على كافة الصعد وستتلاشى مع الزمن. كما أن النمو والتطوير العقاري «الحر» كما العشوائي يجعلان من خطط النقل الفعّالة مهمة شبه مستحيلة.
لعقود انتقد التيار السائد في الأكاديمية الأميركية التخطيط المركزي والشمولي للدول الاشتراكية. لكن اليوم يجدون أنه لا مفرّ من ذلك، فمدينة اليوم يجب أن تكون فائقة السيولة، ولذلك فهي بحاجة إلى شبكة نقل عام فعّالة يستحيل تحقيقها دون تخطيط مركزي، والإشكالية هنا تكمن في ما يسمى بالميل الأول/ الأخير، وهو مسألة ظهرت بداية القرن الماضي في مدّ شبكات الكهرباء، واليوم هي معضلة في شركات كأمازون. فمدّ خطوط الكهرباء العامة سهل، لكن لتصل لكل منزل في تشعّبات لانهائية وعشوائية الانتشار وبعضها في أقصى الانعزال، فإن التكلفة المالية واللوجستية تتضخم بشكل هائل. اليوم يجد إستراتيجيّو المدن الأميركيون أنفسهم أمام ذات المأزق، فقد يكون السهل نسبياً مدّ الخطوط العامة. لكن كيف نؤمّن محطات في دائرة قطرها ميل لكل المناطق المأهولة في مدينة ما، المهمة شبه مستحيلة للتشعّب غير المدروس، بل إنّ حالات معينة تجد أن الخطوط الرئيسة نفسها متشعبة جداً وغير ذات جدوى نظراً للكثافة السكانية المتدنية والتشظي المديني.

الصحاري الغذائية
تُشير الدراسات إلى أنّ التمكّن من الوصول إلى شبكة نقل فعّالة (الحركية المكانية) تعزّز الحركية الاجتماعية في المدن الأميركية. فهذا الحراك الاجتماعي الذي هو لبّ الحلم الأميركي: («يمكنك تسلّق سلّم الثروة، أيّا كنت، من أي خلفية أتيت»، ينجلي وهمه إن كنت تعيش بعزلة عن مراكز الثروة والأعمال، ولا تملك وسائل نقل معقولة للاقتراب منها. والظاهرة اليوم في تفاقم، مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وضمور مراكز التسوق لحساب التجارة الإلكترونية المنحازة طبقياً، يجد أكثر من 23 مليون أميركي أنفسهم في ما يعرف بالصحاري الغذائية (يوجد 6500 صحراء بحسب أرقام USDA للعام 2006). هؤلاء لا يمكنهم الانتقال إلى المدينة لارتفاع الأسعار، ولا يملكون سيارة بينما يعيشون في مناطق لا يوجد فيها محلات بقالة لمسافات تزيد عن العشرة أميال. وهكذا يُصبح المصدر الوحيد للغذاء هو رحلة شهرية إلى كوسكو تتموّن فيها العائلة بكل أنواع المعلبات. وبالنسبة إليهم، الطعام الطازج البسيط مثل الخضار والفواكه هو ترفٌ قاسٍ لبساطته وتعذّر الوصول إليه.
وأحياناً، تقليل الزمن المطلوب للانتقال من نقطة إلى أخرى في المدينة قد يعمل بشكل عكسي فيتم نفي الفقراء إلى أحياء أبعد وأبعد والمشكلة بهذا هي الوقت هنا وهو أسوأ ما سوف يخسره الفقراء، فاللاعدالة في الوقت هي شيء لا يعوّض، ما معنى أن تعمل لعشر ساعات في اليوم، وتقضي أكثر من 4 ساعات يومياً في الطريق، لتعيش في مكان مهمّش بدخل لا يسدّ الرمق. هذا ليس مجرّد شقاء، هذه حياة مسلوبة وسجن بدون جدران والذي يتم نهبه منك في النهاية هو عمرك وكل الذكريات التي لم يفسح لك الوقت أن تعيشها مع من تحب: سيشيخ أهلك وتفقدهم وأبناؤك لن يذكروا منك سوى شبحك المتعب، وهو أمر لن يعوّضك عنه المال ولا الوقت نفسه بعد أن تتقاعد، إن تقاعدت أصلاً. سرقة الوقت هي سرقة العمر بحد ذاته، ومرة أخرى هنا، فالمواصلات العامة تحلّ وتخلق هذه المشكلات، الجواب يكمن في من يدفع للزمار.

هيمنة السرعة على التخطيط
بعد الأثر الاجتماعي لتغيّر المسافات المقطوعة يومياً، ثم التركيز على وطأة الوقت وهي الأثقل على التجربة الإنسانية والاجتماعية، سنتناول أثر تغيّر السرعة علينا. وصحيح أنها التغيّر البديهي للعاملين السابقين، إلا أنه لتغيّر السرعة وقع خاص يحتاج لتفصيل على حدة. فهناك نقدٌ قد يبدو اليوم رجعياً ومجرد ترفٍ فكري، لكنه لا يخلو من الوجاهة في الحقيقة، وهو أن التخطيط لخدمة النقل والآلة وسرعتها تغرّب الناس عن المكان، وتحيل تجربتهم من الوجود في المكان إلى مجرد الانتقال عبره. يعتبر الفرق بين الحيّز والمكان في علم الاجتماع هو أن اللاحق هو حيز مادي ولكن ذو معنى إنساني واجتماعي، مرتبط بذكريات وتجارب وثقافة وعادات وعلاقات، وبالتالي فالتخطيط لصالح الآلة والنقل والسرعة يُحيل المكان إلى حيّز أصمّ.
للتوضيح هذا النقد بدأ منذ مشروع هوسمان لباريس، فالجادات التي شُقّت لم تكن لتجميل المدينة فقط، لكن للسيطرة على الأحياء الفقيرة ومنع التمرد. الشوارع العريضة لا يمكن لعصابات المدن المتمردة أن تسيطر عليها ومن جهة أخرى يصبح وصول الجندرمة إلى الأحياء الفقيرة وتطويقها في مثل هذه الطرق أسهل وأسرع، نفس النمط طال مدينة فيينا التي أسقطت سورها في نفس الفترة، وبعد ثورات 1848 التي طاولت العديد من المدن الأوروبية وآلت إلى انتصار الطبقة البرجوازية، وبسببها تمّ تخطيط الشوارع والمؤسّسات والأحياء حول الرينغشتراسه بالشكل الذي نراه اليوم (فيينا قصة تستحق السرد ومثال جيد على انعكاس التركيب الاجتماعي والصراع الهويّاتي في الشكل المديني ولكن هذا حديث في مقالة مستقلة). ما يهمنا هنا هو النقد الذي وجّهه كاميلو سيته للشوارع العريضة المشجّرة والموزّعة كشبكة من الخطوط الشعاعية المستقيمة. بالنسبة إليه، هذا التوجه المستقيم من النقطة أ إلى النقطة ب، مهما حاولت تجميله وزخرفته فهو يخلو من التجربة الإنسانية وعقيم. هذا توجّه آلي وميكانيكي بشكل ينافي الطبيعة، قدم سيته دراسته المصوّرة لأهمية تحول المنظور في الشوارع المنحنية والاكتشاف التدريجي للمكان مع انحناءات الشوارع والأزقة للتجربة البشرية وعلاقة الانسان بالأماكن وحميميتها.
هذا النقد استمر مع استحواذ السيارات على المدينة وهيمنة السرعة على التخطيط المديني، وإن السرعة أدت إلى الانفلاش، والانفلاش أدى لرحلات طويلة بوسائل نقل فائقة السرعة. مع الزمن طغت الحركة على المكان وأصبح هامشياً وفقد معناه لمصلحة الآلة. هذه الظاهرة هي شاملة ولا تتضمن الطرقات وحدها، بل هي السرعة في كل شيء، انعدام المعنى للمكان، استنساخ البضائع نفسها من العلامات التجارية نفسها، في مراكز تسوق يشبه بعضها البعض الآخر... هذه كلها معالم لظاهرة يسميها مارك أوجيه «اللامكان»، وهي أن يفقد المكان معناه الاجتماعي والإنساني، ويُحال لمجرّد فراغ أو حيّز نمرّ به ولا يمرّ بنا، أي أننا لا نتأثر به، ونستخدمه من دون أي ارتباطات إنسانية، أو شخصية، أو اجتماعية، أو ثقافية تذكر.

مشروع هوسمان لباريس، لم يكن لتجميل المدينة فقط، بل للسيطرة على الأحياء الفقيرة ومنع التمرد


في هذا اللامكان والمدينة فائقة السرعة، يتحوّل الإنسان إلى تجربة اغتراب مدينيّة في ما يسمّيه غي دوبور عزلة الرجل المديني أو الحشود الوحيدة. فهو وحيد بين الجموع الحاشدة، في حالة سيولة وحركة مستمرة، ومعه تتحرك المدينة والأماكن تصبح سيالة أيضاً، فتتغير مع كل موجة رائجة جديدة. تنتقل المركزية من نقطة إلى أخرى لسبب أو لآخر في المدينة كل عدة سنوات، لكن مع استنساخ التجربة المعلّبة المستهلكة (مثلاً: مراكز السهر من الحمرا، إلى الجميزة إلى بدارو، أو مراكز التسوق من مول إلى آخر أحدث، كلّها بالمحلات نفسها، والعلامات التجارية نفسها). والمحلية تبهت، تتكرّر العلامات التجارية في كل منطقة أو مركزية جديدة (حتى المدن تبدأ بالتماهي والذوبان في التجربة الاستهلاكية المعولمة المعلّبة ذاتها). والحركية العالية تؤمّن الوصول للموجة الرائجة التالية... بالنسبة إلى دوبور، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يقوم على العزلة والتي بدورها تدعم الحاجة للتقنية والتي بدورها تؤدّي إلى عزلة الإنسان المديني في دائرة مفرغة لا نعلم نهايتها. هذا الكلام كتبه الفيلسوف الفونسي في السبعينات، لم يشهد دوبور زمن «التواصل» الاجتماعي والتسوق الإلكتروني القائمَين على الخوارزميات التي تُملي علينا من نحن وماذا نريد. للمفارقة هي حرّرتنا من الحاجة للحركة، للاستهلاك والإنتاج إلى حد ما داخل المدينة، إلّا أنها وبالتأكيد فهي تقيّد حريّتنا وحركتنا أكثر فأكثر، وتهمّش علاقتنا بالمكان بشكل أكثر طغياناً يوماً بعد آخر. يمكن أن نتساءل: لو رأى دوبور مآلات التقنية علينا اليوم، ماذا كان سيقول عن هذا «المجتمع الاستعراضي» الفائق العولمة؟

جدلية الانقسام والتوحد
المدن، عندما تنمو أو تنكمش، تنزع بين قوّتين. الأولى هي الانقسام والشرذمة والانعزال، أما الثانية فهي التوحّد والضمّ والصهر. وهي قوى تعبّر عن نفسها مادياً وجغرافياً في المدينة، وكذلك اجتماعياً وطبقياً وإثنياً. والنقل هنا يلعب دوراً لصالح أي من القوتين، كشبكة أو كخطوط. لفهم الانقسام والشرذمة نعود إلى الأمثلة الواردة في مقالة لكريستوف سبيلر على مركز رايس كندر للأبحاث الحضرية حول الدور الذي لعبته العنصرية في تشكيل النقل العام في أميركا. في حالة مدينة دنفر، تم إنشاء خطوط قطار خفيف، طويلة ومكلفة، لتمكين سكّان الضواحي البيضاء الأكثر ثراء، من الوصول إلى مركز المدينة المكتظ والملوّن والأكثر فقراً... بينما ترك خط المواصلات الأكثر ازدحاماً والأكثر حاجة لمواصلات فعّالة تحت رحمة خدمات الحافلات الأقل كفاءة. نحن هنا أمام دينامية لتوحيد الضواحي مع المركز، وفي الوقت ذاته تقويض قدرة المركز الفقير على البقاء والحركة بفعالية وبالتالي عزله وتهميشه. وفي أوكلاند، يمر خط القطار في الضواحي البيضاء قليلة الكثافة، ويتوقّف كل ربع ميل، لكن عند مروره في الأحياء الأكثر اكتظاظاً وتنوّعاً على المستوى العرقي فالقطار يتوقّف كل 3 أميال! الشبكة هنا تلعب كنسيج، يخلق مراكز جديدة، أو يتوسّع، ويُغلق ويخنق أخرى. يمكن أن تنفتح الشبكة على حي فقير وتفسح له المجال للنمو الاقتصادي والاجتماع. ويمكن للانفتاح نفسه، أن يرفع قيمة الأرض ويجذب رؤوس أموال تقوم بـ«ترقية» هذه الأحياء، ونفي أهلها لصالح سكّان أكثر غنى. وفي حالات مثالية أخرى يمكن للشبكة أن تفرض الانفتاح والتعايش على غيتوهات الأثرياء وتفرض عليهم التفاعل مع المدينة الحقيقية.
أما خطوط النقل نفسها، خصوصاً بالقرب من المحطات الكبرى والمركزية، فهي تشكّل حدود فصل في المدينة. فعبارة The other side of the tracks هي تجسيد حرفي في الأصل للفصل العنصري في أغلب المدن الأميركية بين السود والبيض. هذا الفصل يستمر راهناً في مدن كثيرة مثل كانساس، لكن اليوم اختلط السود مع بقية الأقليات. الفصل مقصود في الأساس، لكنّه فرز إلى حد ما «عفوي»، فخطوط النقل تجلب الثروة والبضائع من جهة للأسواق، وتجذب الاستهلاك وهي نفسها تجلب الفقراء والعمال والنازحين واللاجئين الباحثين عن عمل. وتصطفّ دائماً الفئتان على جانبي المرفأ/ المحطة/ خط القطار/ خط المترو/ محطة الباصات. وبهذا تكون خطوط النقل تفرز المدينة طبقياً في الوقت الذي قد تشكل فيه هذه المدينة بؤراً وأسواقاً، وتجمع سكانها وتصهرهم من مختلف المناطق.
طبعاً في السابق كان هناك التمييز العنصري الفاضح والأكثر جلاءً في وسائل النقل الأميركيّة، في الباصات والتحكم في قدرة السود على ركوبها. أما اليوم فهناك في فلسطين المحتلة استخدام للطرق السريعة والقطار السريع، كأداة للتقسيم والاستيطان والقضم والإحلال... والأهم السيطرة على أراضي الضفة الغربية. هذا النموذج يمكن إرجاعه لنموذج روبرت موزيس، سيء الذكر. فالطرق السريعة، كانت تخدم أهدافاً عدة؛ أولها بناء ضواحي محمية ومعزولة ومترفة للبيض تشبه المستوطنات في فلسطين، وربطها بطرق سريعة خاصة بهم عملياً... وفي الوقت نفسه، تعمل هذه الطرق على قضم الأحياء الفقيرة السوداء من جهة، وقسمها من جهة وعزلها من جهة ثالثة. هذه الفكرة عملياً تعود جذورها إلى العصر الفكتوري، وهي أن النقل (والقطارات حينها) أداة استعمارية، لفرض شبكة هيمنة للمستعمر لاستنزاف الثروات وللتحكم ولتقطيع أوصال الشعوب المستعمرة. في الهند وأفريقيا الوسطى، كانت خطوط القطار في العصر الإمبراطوري، شرايين مفتوحة لاستنزاف الثروات، المدافعون عن الاستعمار لا ينكرون جرائمه فحسب، لا بل يبخلون على الهنود بالقطار «حصان طروادة» الذي استنزفهم، كما يفعل صندوق النقد ومشاريعه القاتلة في كل الدول المستغفلة.

مبادرة الحزام والطريق
على المستوى الدولي، تقوم مبادرة الحزام والطريق، على خلق أقطاب نقل تخلق بدورها سلاسل قيمة. بمعنى أن وجود الحزام في إقليم ما يحتاج إلى خدمات، والخدمات تحتاج إلى موظفين، والموظفون يحتاجون إلى أسواق وسكن... وكل هؤلاء بدورهم قد يجذبون استثمارات. وهذا هو جزء بسيط من المسألة. فمشروع كهذا يفتح المجال أمام أسواق ومصادر بعيدة، وأسعار منافسة، وسرعة فائقة، ويؤدي بالضرورة إلى استثمارات في موارد وصناعات لم تكن مجدية في السابق. إن فيبير وكريستالر ، في نظريتهما حول الاقتصاد الجغرافي، يعتبران كلفة النقل من المصادر إلى الأسواق، عاملاً حاسماً لاختيار مكان (مصنع) ليحقق أكبر قدر من الأرباح. يصبح النقل تحصيلاً حاصلاً، بأقل كلفة وسرعة ممكنين لمصادر وأسواق أبعد، لم يكن من الممكن تخيل الوصول إليها من قبل. فمجرد امتلاكك محطة على هذا المشروع العالمي، تكون قد فتحت لهذه المحطة احتمالات لا متناهية من الفرص للتنمية والإنتاج والتبادل وإمكانيات خلق اقتصادات تكتل جديدة تغذي شبكة المحطات الأخرى. ومن خلال هذه التكتلات تولد سلاسل القيمة، بهذا المنطق عندما تقول الصين أنها تقيم سياستها الخارجية، وهذا المشروع على منطق رابح - رابح، أغلب الظن أنه، ومن بين أسباب كثيرة أخرى، علينا أن نصدقها.
بشكل عام، إن لم تكن تحب حياة الريف والعزلة، فإن المدينة التي تحلم بها، أياً كانت وأينما كانت، ستحتاج إلى شبكة نقل فعالة تعمل كالدورة الدموية لإنسان صحيح بدنياً. أما الاعتماد على السيارة الخصوصية والطرق السريعة والبناء العشوائي، فيشبه أن تكون كرة دم حمراء تعيش في شرايين رجل ستيني شَرِه مصاب بالكوليسترول: ستمضي حياتك عالقاً في الزحام والتوتر والأمراض والنكسات والاحتقان. وإن لم يغير هذا الرجل نظامه الغذائي (شبكة النقل)، فهو لن ينجو بالرغم من كل الجراحات والحلول الترقيعية. ومن ثم في ليلة يتوقعها الجميع، ستصاب مدينتك بالموت، أو ربما بموت سريري.
هذا على المستوى المديني، أما إذا وسعنا الإطار، فمنذ العصر البرونزي الذي افتتح فيه الفينيقيون التجارة البحرية الدولية، فإن المدن تكتسب أهميتها الاقتصادية بعلاقاتها الشبكية والعزلة هي سبب آخر لموت المدن. إن الفرصة التي يفتحها مشروع مبادرة الحزام والطريق لدول آسيا بالذات، هي فرصة لا يمكن أن يضيعها إلا مغفل أو قاتل! والكلام هنا عن بيروت وبقية المرافئ اللبنانية التي تقدم على الانتحار بنأيها عن خيارات الانفتاح على الشرق، أقله كما الغرب... فلا يوجد هناك ما يمكن تقديمه للغرب من دون الشرق. كما أن القرن المقبل بلا شك هو قرن آسيوي. المسألة ليست مجرد انحياز ضد الغرب وإمبرياليته الرأسمالية، بل حتى الحسابات البراغماتية تحتّم على أي شخص بمنطق سليم أن يفتح الأبواب للشرق ويرحم أمته من الاختناق.
* باحثة عربية