يتميّز الوطن العربي بتعدد النظم السياسية فيه، بين جمهورية وملكية بأنواع ايضاً، وكل منها يتميّز عن غيره بمختلف الصعد والمجالات. ولكن ما يجمع أو يشبه بعضها بعضاً هو ما يتعلق بالمعارضات السياسية لهذه الانظمة. فتكاد تكون المعارضات السياسية من طينة واحدة اثناء وجودها خارج السلطة ومختلفة بعد ورطة السلطة. هذا حين يتم لها استلامها، سواء بانقلابات عسكرية ايامها، أو بعد الحراك الشعبي وإسقاط الرؤساء أو بانتخابات تشريعية ورضا اصحاب القرار السياسي في البلدان المعنية.
المعارضات السياسية العربية حين تكون خارج السلطة، سواء داخل بلدانها أو خارجها، تتماهى مع نوع السلطات الحاكمة، داخل بلدانها أو خارجها، فإذا كانت في الداخل تعطي التجارب نموذجين، سلمي وموزع بين متحالف مع السلطة ويحمل اسم معارضة، أو معارض خارج السلطة ويمارس دوره المراقب والنقدي (!)، وآخر عنفي ويتواجه مع السلطة بالسلاح والتفجيرات والمفخخات ويرفع شعارات اسقاط النظام والعمل على الوصول الى السلطة بالقوة والدعم الخارجي بكل اشكاله، أو لا يتمنع عنه. اما في الخارج فهناك نماذج متعددة، أبرزها المتماشي مع سلطات البلدان التي يعيش فيها. فإذا كانت سلطاتها غير متوافقة بشكل ما مع السلطات التي تعلن أو تزعم المعارضات معارضتها فإن غالبها يصبح لسان حالها اكثر من ماهيتها أو تكوينها. وهذه سمة ليست بشكل عام لصالح المعارضة السياسية، خصوصاً إذا اختلفت طبيعة تلك السلطات، ملكية أو جمهورية! فالمعارضة السياسية للسلطات الجمهورية والتي وجدت في البلدان المحكومة بأنظمة ملكية، وغالبها دول الخليج الثرية مالاً والمهيمنة بواسطته على آلات اعلام ناطق باللغة العربية، لا تستفيد منها المعارضات إلا عبر تلك الامكانيتين، واقصد المال والإعلام، وهو ما توفر لكثير من تلك المعارضات. ولكن هذه القضية انحصرت في طبيعة تلك المعارضات أولاً وانعكاسات تلك الامكانيتين على قدرات المعارضة وإدراكها لأهدافها من المعارضة واختلاطها ببرامج وخطط السلطات الداعمة ومَن وراءها بحكم الضرورة والترابط السببي لسير العملية ثانياً. فلا تقدم هذه الحكومات الملكية الثرية المال والإعلام لوجه الله فقط، وهي تعلم انها ليست دائماً جمعيات خيرية، وكيساً مفتوحاً من المال ومن دون توجهات وضغوط اضافية عليها. وهنا تفقد المعارضات السياسية خصوصيتها الوطنية وتوجهاتها السياسية والفكرية وتستنسخ صورتها من قوة الداعم ونوعه الحاصل لها. فضلاً عن تفشي الفساد والصراعات البينية وتفاقمها كلما طالت فترة مكوثها وتآكلت مصداقيتها ووزنها السياسي وغير ذلك مما تقتضيه ظروف قاهرة أو اكراهات المصالح المتناقضة.
صحيح أن بعض قوى المعارضة السياسية يتوجه الى سلطات البلد التي يحسب نفسه قريباً منها، اذ توجهت المعارضات السياسية العربية التي تتبنى الفكر القومي بمختلف مشاربه، إلى القاهرة مثلاً أو دمشق أو بغداد، خصوصاً من فصائل حركة القوميين العرب الى جماعات البعثيين والى الذين اعلنوا تحولهم وتبنيهم الفكر القومي التحرري.

بعض قوى
المعارضة يتوجه إلى سلطات البلد التي يحسب نفسه قريباً منها


ومثله توجهت جماعات الإخوان المسلمين إلى الجزيرة العربية بدولها المختلفة، التي احتضنتها بدرجات أيضاً ووفرت لها ما تحتاجه من خدمات كثيرة في شؤون المعارضة السياسية. وفي المقابل حصل هذا مع اطراف وجهات خارج العالم العربي. واقصد ما حصل مع بعض الاحزاب الشمولية، الدينية والإيديولوجية، مثل بعض جماعات الاخوان المسلمين وعموم تيار الاسلام السياسي أو الاحزاب الشيوعية والحركات التي رفعت شعارات يسارية.
حصلت الدول الغربية الاستعمارية منها، هي الاخرى، على حصتها من المعارضات السياسية واستقبلت عواصمها معارضين سياسيين من شتى المشارب والانتماءات، وتعاملت معهم بما يتناسب وأهدافها هي اساساً. وكادت تختص كل منها ببلدان معينة. فمعارضات المغرب العربي ولبنان التجأت الى فرنسا وجنوب أوروبا، بينما معارضات المشرق العربي، توجهت إلى بريطانيا وأميركا في الأعمّ الاغلب. وكأنها تبرر ضمنياً حوامل نفسية تتقبل ما كانت عليه فترات الاحتلال والاستعمار لتلك الدول لبلدانها، أو بحكم اللغة والتعارف المسبق بفرص ومجالات العون والمساعدة الممكنة من كل منها.
تحاول المعارضات السياسية لا سيما في العقد الاخير من الزمن أن تكون متمايزة عما سبقها. وتكاد تكون كذلك لولا انها تسقط بذات احابيل السلطات التي تلجأ اليها وتتعامل معها. اذ ان اغلبها يربط تلك المعارضات بأجهزة المخابرات وهيئاتها التي تتعامل معها وان حملت أسماء معاهد ابحاث أو اعلام أو ما شابه ذلك. وقد كشفت الادارة الأميركية ومؤسساتها والخارجية الأميركية والبريطانية ايضاً قوائم مختلفة بالأسماء وكميات الاموال التي قدمتها لحركات المعارضة أو افرادها. وكانت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة هيلاري كلنتون سباقة في فضح بعض تلك القوائم في ردها على معارضين محتجين على الدعم الأميركي وأشكاله لهم. وسبق أن صرح سياسي عراقي معارض عن علاقاته بأكثر من عشرة أجهزة مخابرات دولية اثناء وجوده في المعارضة خارج بلده. كذلك أغلب مسميات «المؤتمر أو المجلس أو ما بمعناهما» وإلحاق كلمة «الوطني» بعده تعلن ارتباطها الواضح بأحد تلك الاجهزة وابتعاده عن مسماه الفعلي. والشواهد قائمة ولا تحتاج الى توضيح اكثر مما هو صريح ناطق. وهذا يشمل كل السلطات التي تحتضن المعارضات السياسية العربية، في البلدان العربية أو الاقليمية أو الغربية. وثمة اختراقات واسعة بين صفوف المعارضات السياسية العربية من جهات متضاربة ومتوافقة بينها، وتحاول كل منها كسب أو تشغيل حركات أو افراد، وتظل تتعامل معهم رغم ازدواج الارتباط أو الارتهان، بعلم أو بجهل، وكل وقدراته أو فعاليته في خدمة المخططات والأهداف المطلوبة.
بعد هذا كله أو بعضه، ما كشف منه أو التبس فيه أو اختلطت صورته، تتوضح المواقف والبرامج والأهداف من المعارضات السياسية العربية حين تصل تلك المعارضات الى السلطة في بلدانها. فتدخل ورطة السلطة وتُفتح الملفات عليها، بين ما كانت تدعيه في المعارضة وتدعو اليه وتقاتل من اجله والمحك لها. هذا بغض النظر طبعاً عن سبل وصولها أو طرق تسلمها السلطة. ونظرة سريعة لمن اصبح في السلطة الآن من المعارضات، لا سيما بعد الحراك الشعبي والانتفاضات، وكيف ادارت الحكم تكشف ما هي تلك المعارضات وبرامجها وادعاءاتها ودعاواها وأساليبها.
تبقى المشكلة الحقيقية في هذا الموضوع هي فهم كل الاطراف لمفهوم المعارضة، فلسفة المعارضة وثقافتها وأهميتها، سواء السلطات الحاكمة فعليا أو الاطراف التي ترفع اسم معارضة لها. وفي هذا الفهم يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود في كل ما سبق قوله. بين المعارضة الفعلية الساعية إلى تصحيح المسار وبناء الأوطان وبين تلك التي تتورط قبل السلطة التي تريدها في تهديم وتخريب البلدان.
* كاتب عراقي