التقيت المطران غريغوار حدّاد في مؤتمر عن لبنان ومشاكله في برلمان كندا أشرف عليه االبروفسور عبدالله عبيد من جامعة أوتاوا. كان المطران حدّاد في إحدى حلقات النقاش في المؤتمر وتأثّرت كثيراً بأقوال هذا الانسان الجليل وبأفكاره المتنوّرة. وأعجبني أن يتحدّث رجل كنسي بملابس الكهنوت بهذه الأفكار غير الاعتيادية. فظهور مصلحين اجتماعيين في أوساط الروم الكاثوليك والموارنة والأرثوذكس ليس غريباً، كالمطران جورج خضر والأب يواكيم مبارك. ففي الحديث اعتبر حدّاد «العلمانية على حياد تجاه الاديان، لأنها تعتبر كل إنسان قيمة مطلقة... وهذا لا يعني أنّها ضد مرجعية الله بل لأنّ الانسان كما يقول القرآن هو خليقة الله في الارض وفي الانجيل هو خُلق على صورة الله ومثاله... والانسان كانسان له قيمة في ذاته، وهذا لا يعني أن الانسان المؤمن له قيمة اكثر من الانسان». وأثناء زيارة إلى لبنان عام 2010 التقيت المطران حداد في «بيت السيّدة» المحاط بالبساتين حيث يخضع للعلاج والراحة من مرض ترقّق العظام. فكان متوقّد الذهن صافي العبارات وكان لي معه هذا الحديث:

■ بعد الأزمات والحروب التي مرّت بلبنان بسبب الطائفية إلى حدّ ما، هل لا تزال تؤمن بامكانية قيام نظام علماني في لبنان، وأين هي الفئة القويّة على الساحة التي ستسعى إلى ذلك؟
غريغوار حدّاد: لا أزال أؤمن بالنظام العلماني ولكني أعلم أيضاً أنّ من الصعب جدّاً تحقيقه حالياً في لبنان. كثيرون يتكلمون عن النظام المدني. والحقيقة أنّ عدداً كبيراً من الأقطاب السياسيين يتكلمون عن الدولة المدنية ولكنّهم في غالبيتهم يعرفون أنّ تحقيق هذه الدولة غير ممكن حالياً وحتى على المدى المتوسط. ولكن هذا لا يمنع أن تستمر المحاولات المتنوعة سعيها نحو الدولة المدنية، ومنها المحاولات التي تقوم بها «الحركة الاجتماعية» التي لا تزال تؤمن وتبشّر باللاطائفية واللاعنف وبالتنمية الشاملة المتكاملة للانسان والمجتمع وباللامركزية ليصبح الانماء شاملاً كل البلاد. وهناك أيضاً بعض الجمعيات الصغيرة التي تنشأ وفي برامجها السعي لتحقيق العلمانية والنظام المدني كتيّار المجتمع المدني مثلاً الذي أصبح يملك عناصر وتنظيم لجنة مركزية. ويسعى للتنسيق بين الجمعيات التي تعمل من أجل المشاريع وهذا ما يجعله قريباً من مفاهيم الحركة الاجتماعية. وقد يثمر هذا التنسيق ليشكّل قوّة ضغط على مصادر القرار في لبنان بالطرق اللاعنفية طبعاً.
«الدولة الإسلامية»
لا تصب في الإيمان الإسلامي

■ بعدما رأينا انحسار المسيحية في العراق وسورية وفلسطين، هل هناك خطر على الوجود المسيحي في لبنان؟
غريغوار حدّاد: شخصيّاً أنا لا أخاف على المسيحية في لبنان بل أخاف على المسيحية من المسيحيين أنفسهم لأنّهم لا يعيشون كما يريد المسيح. لذلك أحد أبرز المواضيع التي يجب أن يعمل لأجلها المسيحيون هو اقتداؤهم بالمسيح من جديد ومحاولة العيش في سورية ولبنان والعراق وفلسطين بالرغم من كل الصعوبات التي تتكاثر وتتنامى.

■ هل ترى مشكلة إذا ترشّح مسلم لرئاسة الجمهورية؟
غريغوار حدّاد: لا، لا يمكن التفكير برئيس غير مسيحي ماروني إذا بقي النظام اللبناني على ما هو عليه، لا سيما بعد اتفاق الطائف وتثبيت النظام الطائفي والمذهبي في لبنان. أمّا إذا نمت أحزاب وجمعيات غير طائفية وأصبح لدينا قانون انتخاب يسمح بترشّح ممثلين عن هذه الأحزاب، يمكن التفكير عندئذ بأن يأتي لبناني إلى الرئاسة بصرف النظر عن طائفته على شرط أن يتمتّع باحترام الأحزاب العلمانية ويحمل الكفاءة ويكون بعيداً عن التمييز المذهبي. ساعتئذ لا يكون الرئيس مسلماً أو مسيحياً بل لبنانياً جرى انتخابه ضمن نظام ديمقراطي سليم.

■ ماذا كان دور الروم الكاثوليك في لبنان منذ 1975 وحتى اليوم وهل سيكون لهم أي دور في المستقبل؟ وهل هم لاعبون ثانويون في الأحداث؟
غريغوار حدّاد: في ظل المشاحنات التي نسمعها هذه الأيام لا أعتقد أنّ ثمّة دوراً للروم الكاثوليك ولا حتى للموارنة في تنمية الوطن اللبناني لكي يعيش فيه كل أبنائه بسلام. ولا أحبّذ أن يكون لهم أو لأي طائفة لبنانية أخرى دور مستقل ومنفصل عن الآخرين. على أي فئة لبنانية جادة في أداء دور إيجابي في الوطن أن تنسجم مع باقي المواطنين من دون أن تعمل واعية لتمايزها عن الآخرين. وإلا سنعود إلى مآسي سابقة ويدخلون في جدالات ونقاشات بيزنطية. فهم بذلك يتلهّون بالأمور الثانوية وينسون الأساس والجوهر في بناء الأوطان. وكما قال السيّد المسيح لمرتا «مرتا مرتا أنت تقلقين وتهتمّين بأمور كثيرة مع أن الحاجة إلى شيء واحد» (لوقا 10: 38).

■ هل لديك ثقة بأن تؤدي اليد العليا للمسلمين في الحكم في لبنان إلى دولة لا طائفية أم إلى دولة يحكمها مسلمون وليس فيها نفوذ للمسيحيين؟
غريغوار حدّاد: لا أرى أي انفتاح من المسلمين على الآخرين وخاصة في المسائل السياسية بل أراهم يتصارعون فيما بينهم سنّة وشيعة وكأنّهم عادوا في الزمن 1400 سنة إلى الوراء. هناك محاولات للقاء بين السنة والشيعة ولكن الصعاب كثيرة للتوصّل إلى القبول ببرنامج مشترك من دون أن يفكّر كل منهم في وضع اليد الطائفية على مقادير البلاد. المسلمون بحاجة إلى إعادة النظر بالكثير من تفسيرات العقائد الدينية وطرق التعبير عن هذه التفسيرات التي تأثّرت كثيراً من خلال التاريخ الطويل، سواءً أكان ذلك في لبنان أم في الدول العربية أو الاسلامية. من الأمور التي على المسلمين معالجتها هي إعادة النظر في مفاهيم الاسلام وهل هو فعلاً دين ودولة. برأيي أنّ هذا الموضوع هو من أهم التحديات التي يجب النظر فيها. فالدولة الاسلامية لا أساس لها في القرآن الكريم بل استناداً إلى عدد من العلماء الاسلاميين والمفكّرين المسلمين فإننا نجد في تاريخ الاسلام مجتمعاً منظمّاً يعيش فيه اليهود والمسيحيون وتقبلهم الدولة بشكل اعتيادي. «الدولة الاسلامية» لا تصب في الايمان الاسلامي ومفهوم الخلافة الاسلامية أيضاً يناقض الدين. والدعوة إلى إقامة خليفة اسلامية لله في الأرض هي شرك ضد الله، لأنّ المسلمين يؤمنون أن لا إله إلا الله.

■ كيف تختصر رؤيتك ببضعة سطور؟
غريغوار حداد: بات تلخيص رؤيتي سهلاً اليوم. فرؤيتي ترفض الانتماء إلى مجتمعات طائفية منكمشة على نفسها وعلى امتيازاتها وأريد الانتماء إلى كنيسة المسيح وحدها. وأرفض الثراء المادي -المال والملكية والأرض والمشاريع - والنفوذ السياسي للكنيسة، وأريد كنيسة عاملة خادمة وفقاً لمشيئة المسيح. وأرفض كنيسة تدافع عن نظام الاستثمار الاقطاعي والرأسمالي القائم في لبنان أو تساهم فيه. وأريد كنيسة ملتزمة ومعنية بالمسائل التي تهم كل فئات الشعب وتسير إلى جانبه في سبيل تحرّره الاقتصادي ونحو تحقيق أمانيه في حياة إنسانية كاملة. وأرفض كنيسة غريبة عما حولها مرتبطة بالحضارة الغربية. وأريد كنيسة ومسيحيين يعتبرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، يشاركون في قضاياه ونضاله وأمانيه نحو التحرّر وبناء مجتمع متطوّر لأعضائه كافة. وهذا يفرض التعاون تعاوناً كلياً مع الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل استعادة حقه في وطنه. وأريد كنيسة ومسيحيين يكونون بالفعل جزءاً لا يتجزأ من العالم الثالث الذي ينتمي إليه لبنان، وهذا الأمر يقتضي المساهمة فعلاً في الكفاح الدائم الذي يقوم به هذا العالم الثالث للتحرّر من كل أنواع الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي.
* أستاذ جامعي ــ كندا