لطالما روّج الإعلام المطبّع لنظريته البائسة التي تربط بين مقاومة إسرائيل، وبين فقر الشعوب والمعضلات الاقتصادية والمعيشيّة. ويستأجر هذا الإعلام أقلاماً وأبواقاً تردّد ترّهات الأمير والشيخ. ويصوّر هؤلاء، بلدان الطبل والزمر والتي كانت ولا تزال، داعماً محورياً لقوى الإرهاب على مستوى العالم، على أنها الجنة بأبهى صورها وتشكّلاتها. وظاهرتَي «طال عمرك بو ناصر»، و «أشكر دولة الإمارات على منحي الإقامة الذهبية» خير دليلٍ على عمق وتعقيد مسألة المقاومة والرفاه من جهة، والأنظمة الرجعية التي تشتري الولاء والطاعة من جهة أخرى.يطرح هؤلاء فرضيتهم التي تقول «أينما حلّت المقاومة حلّ الخراب والدمار وكان الناس في ضيقةٍ من أمرهم». ولتعزيز هذا الربط العجيب يأتي لنا هؤلاء بمجموعة من الأمثلة منها إيران، والعراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. وتتغيّر هذه الأمثلة بحسب العلاقة مع إسرائيل. فإذا كانت الدولة تطلق شعارات اللاءات الثلاث في مواجهة إسرائيل كالسودان سابقاً، فهي تندرج في محور الفقر والجوع، وإن تخلّت عن هذه الشعارات في ليلة وضحاها، تحوّلت إلى دولة الرفاه (في ليلة وضحاها كذلك). هنا لابد من اللجوء إلى علم المنطق لفهم هذا الربط العجيب بين المقاومة والفقر. يوضح «عادل مصطفى» المغالطات المنطقيّة ويبرع في توضيح مغالطة السبب الزائف، وهي إذا ما حاولنا تبسيطها تتلخص بمقولة «أَخذُ ما ليسَ بعلةٍ علةً».
ما يميّز الإنسان (غير النطق والتفكير) هو قدرته على الربط بين السبب والمسبّب. وهو مولعٌ منذ الأزل، بأن يُحدث ترابطاً بين الأحداث والوقائع والأشياء لتأخذ في ذهنه نمطاً مُتراتباً وأشكالاً ذات معنى. وكما يقول مصطفى أيضاً: فإن إثبات وجود علاقة سببية بين حدثَين يستلزم أكثر من مجرّد الارتباط. يستلزم الاطِّراد الدائم، والارتباط الدائم بين نمطَي الحدثَين، إيجاباً وسلباً، وعدم وجود أي أمثلة مضادة، ذلك أن مجرّد «المعيّة» قد يكون مَرَدُّه إلى: «إغفال السبب المشترك» أو «إغفال المعلول المزدوج».
يبدو أن هؤلاء وقعوا (بشكل عمدي) في هذه المغالطة. فالربط بين مقاومة إسرائيل والمشكلات الاقتصادية، يغفل السبب المشترك وهو هنا «التدخل الصهيوأميركي والخليجي» في هذه البلدان.
فسوريا التي نعمت بالأمن والأمان على مدى سنوات وسنوات منذ حرب 1973، ظلت داعمة للمقاومة على طول تاريخها الحديث، وهي تمتّعت بالرفاه النسبي والاستقرار الاقتصادي، إلى أن جاءت لحظة التدخل الخارجي عام 2011، عندما دخلت سوريا في دوامة عنف وإرهاب طويلة الأمد، لإخراجها من معادلة مقاومة إسرائيل وتحصيل حقوق الشعب الفلسطيني. لبنان كذلك يقف في نفس الخانة، فالتدخلات العسكرية الإسرائيلية لم تتوقف إلا عندما تحوّل أكبر أحزاب لبنان وأكثره شعبية «حزب الله» (حصل الحزب على أغلبية برلمانية في الانتخابات الأخيرة) إلى قوة ردع مهمة على الصعيد العسكري، ولم تجد الولايات المتحدة أو دول الخليج وإسرائيل إلا فرصة تجويع الشعب اللبناني ومحاصرته اقتصادياً لإركاعه وإجباره على الدخول في قائمة النعاج الوديعة. وليس غائباً عن أحد معاناة الشعب اليمني، فليس مقاومته من ساهم في تعميق جراحه ومعاناته من الفقر والجوع بل التدخل العسكري الإماراتي السعودي الأميركي الإسرائيلي. إغفال السبب المشترك هو ما يمارسه الإعلام الغربي والإعلام العربي. وللدخول في صلب الموضوع والإجابة على سؤال ما إذا كان النظام الثوري المقاوم ينتج بيئة اقتصادية مزدهرة في ظل تجييش ومؤامرات دولية؟
علينا القول بأن الإجابة بكل بساطة هي نعم، ولدينا المثال الحي على ذلك. فقد ظهر مفهوم الـ100 يوم على الرئاسة عام 1933 على يد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، عندما واجهت حكومته مشكلات اقتصادية صعبة للغاية مما دفعه إلى إقرار برامج اقتصادية سريعة وفاعلة. وتحول هذا المفهوم إلى سُنَةٍ يتّبعها الرؤساء في الولايات المتحدة إلى يومنا هذا.
الحكومة الإيرانية الجديدة والتي يقودها إبراهيم رئيسي، هي الأخرى عملت بنفس السُنة. فعلى الصعيد الدولي، بدأ «رئيسي» عهده من خلال اتخاذ مقاربات واضحة وصريحة في دعم محور المقاومة ككل. فجلس قادة من محور المقاومة (إسماعيل هنية، نعيم قاسم، محمد عبد السلام وغيرهم) في الصف الأول في البرلمان الإيراني أثناء تأدية رئيسي للقسم الدستوري، بينما تم تأخير ضيوف الاتحاد الأوروبي كـ«إنريكي مورا» وإجلاسهم في الصفوف الخلفية، في رسالة رمزية إلى موقف إيران الثابت من دعم محور المقاومة. لقد اتخذت إيران ومحور المقاومة من خلفها، قراراً بالوقوف أمام عملية التجويع الممنهج التي مارستها الولايات المتحدة ودول الخليج ضد لبنان. فجاء القرار بإرسال ناقلات النفط إلى لبنان ليفتح معه آفاقاً سياسية واقتصادية جديدة أمام المجتمع اللبناني. نحن هنا لا ندّعي ولا سبيل لنا لذلك، أن ناقلات النفط ستحلّ أزمة الطاقة في لبنان من جذورها، وإنّما ندّعي بأنها فتحت أعين الصديق والعدو، على أنّ هناك حلولاً خارج الدائرة الأميركية-الخليجية يمكن الاعتماد عليها دون المساس بالسيادة الوطنية أو الانقياد إلى المشروع التدجيني. على الجانب الآخر، وتجنّباً لسياسة الثماني سنوات للرئيس روحاني، نقلت إيران بيضها من سلة الغرب إلى سلتها الخاصة. فهي اليوم تريد بناء علاقات مشتركة وجامعة، مع محيطها الإقليمي وحلفائها الشرقيّين، كما أنها لا تسعى في الوقت ذاته إلى استعداء الغرب. تغيّرت نظرتها إلى علاقاتها الإستراتيجية، فهي تتّجه إلى تخفيض التوتّر غير المبرّر مع دول الجوار (هذه الدول التي أوهمتها الولايات المتحدة وإسرائيل بأن العدو هو إيران وليس إسرائيل، فانخرطت بمحض إرادتها في هذا الوهم العميق والمكلف). كما اتجهت نحو الشرق (الذي تمّ حظر الاقتراب منه على اللبنانيين في سبيل تأصيل التبعية للغرب).
خلال أقل من 100 يوم حصلت طهران على العضوية الدائمة في منظمة شانغهاي للتعاون (حيث تتمتع السعودية وتركيا ومصر فيها بصفة العضو المشارك). العضوية في منظمة شانغهاي التي ستوفّر لإيران إحداث توازن في علاقاتها مع الغرب، كما ستوفّر لها فرص الدخول إلى أسواق آسيا والالتفاف على العقوبات الأميركية والتوسّع في المجال الأمني والاقتصادي وتنمية سوق الطاقة والتعاون مع البنوك الآسيوية، كما ستمنحها العضوية الدائمة، ثقلاً وازناً في المعادلات الإقليمية والدولية القادمة.
على صعيد الاتفاق النووي، لم تعد إيران تعطّل حالتها الاقتصادية على وعود واهية من الغرب (اينستكس وأخواتها). لقد أعلنت طهران موعد استئناف المفاوضات واشترطت أن تكون جديّة ومنتجة، لا أن تدور في فلك المفاوضات من أجل المفاوضات.
لم يعد للعقوبات الأميركية دورها الفاعل في إجبار الدول على الطّاعة، فهي وإن كان لها تأثيرٌ من الناحية الاقتصادية، إلّا أنها تدفع الدول والحكومات إلى تنويع الاقتصاد وفتح أسواق جديدة للتخلص من هذه الهيمنة، كما أنها تعزز الاستقلال الذاتي والاعتماد على النفس والتخلص من التبعية. فالولايات المتحدة وإن كانت تفرض العقوبات الاقتصادية على من تصفهم بالأعداء فهي تطعن الحلفاء في الظهر كذلك. وحكومة «أشرف غني» وأزمة الغواصات وطعنها لفرنسا في الظهر أدلة دامغة على ذلك.
على صعيد ردع إسرائيل، وتحت شعار أن المسلم لا يلدغ من جحر مرتين، تمّ التخلي عن سياسة الصبر الاستراتيجي (التي اتبعها الرئيس السابق روحاني) لصالح سياسة الردع الإستراتيجي. وهي سياسة تقوم على إيجاد مقوّمات الردع المناسبة في مياه الخليج وبحر عمان وفي سوريا. فقوات المارينز الأميركية تعرّضوا إلى إذلال غير مسبوق في بحر عمان على يد عناصر الكوماندوس للحرس الثوري، والكيان الصهيوني ابتلع (وبمرارة) ضربة السفينة «ميرسر ستريت» وتلاشت الوعود الأوروبية والأميركية بضرورة الرد الجماعي أدراج الرياح، وذلك بسبب تغيّر معادلات الردع، وتسخين مياه الخليج في وجه الزائر غير المرغوب فيه (إسرائيل).
داخلياً، تتجول اليوم في طهران سيارات تحمل لقاحات كورونا تبحث في الأزقة والشوارع عمّن لم يتلقّ اللقاح بعد، بعد أن عانت الجمهورية الإسلامية من تأمين اللقاحات حتى للطاقم الطبي على مدى الأشهر الماضية. تتدفق واردات اللقاح إلى طهران كل أسبوع بأعداد هائلة ولقد بلغ عدد اللقاحات التي تم تطعيمها حوالى 100 ملیون جرعة، وأكثر من 50 مليوناً على جدول الانتظار في الأسابيع القادمة، ناهيك عن تصنيع لقاحات محليّة وتوفيرها في مراكز التلقيح العام.
ختاماً، لم تعد هناك آذانٌ صاغية لسجالات الربط بين العقوبات الأميركية واستيراد لقاحات كورونا، ولم يعد هناك زبائن لنظرية الضعف الاقتصادي بسبب لوائح FATF. لذلك يبدو أن تجربة حكومة رئيسي في أشهرها الأولى فنّدت ما كان يُقال عن أنّ الأنظمة الثورية (أو المقاومة) لا تستطيع تحقيق شيء.
إن ما تحتاجه دولنا المقاومة وبحق، هو الابتعاد عن الفلك الأميركي-الإسرائيلي-الخليجي، هذا الفلك الذي يمارس أقسى درجات الانحطاط والمحاصرة لتحويل حكوماتنا ودولنا إلى رعيّة تخدم مصالح إسرائيل وأمنها.
* كاتب عراقي مقيم في إيران