توشك إثيوبيا أن تدخل حقبة جديدة في تاريخها الحديث يتقرّر فيها مصيرها كدولة فيدرالية موحّدة.احتمالات التفكيك ماثلة في الأفق السياسي المسدود بكتل النيران التي تقترب من العاصمة أديس أبابا، واحتمالات الانجراف إلى حرب أهلية جديدة و«سنوات مظلمة أخرى» ماثلة بذات القدر.
اعتادت النُّظم السياسية التي توالت بقوة السلاح على مقاعد الحكم أن تصف ما قبلها بـ«سنوات الظلام».
كان ذلك مفهوماً عند إطاحة النظام الإمبراطوري، الذي قبع على رأسه هيلا سيلاسي الأول «الأسد القاهر المختار من الله» لأربعة وأربعين عاماً بانقلاب عسكري قادته مجموعة من الضباط الشيوعيين بقيادة مانجستو هيلا ماريام.
وكان ذلك مفهوماً بقدر ما أشاعته تجربة الحكم الجديدة من أجواء ترهيب وتنكيل، وما أفضت إليه من تشقّقات عميقة في مكوّنات بلد متعدد الأعراق واللغات.
استهلكت إثيوبيا طاقتها ومقدّراتها في حرب أهلية طويلة ومهلكة امتدت لسبع وعشرين سنة طوال حكم مانجستو توصف على نطاق واسع بـ «سنوات الظلام».
هذا السيناريو حاضر اليوم في ظروف مختلفة وأحوال جديدة.
في المقاربات الدولية من الحدث الإثيوبي تحذيرات متواترة من الانجراف إلى حرب أهلية ودعوات إلى عدم التصعيد العسكري ووقف إطلاق النار والامتناع عن خطاب الكراهية والتحريض على العنف لا تصادف أي قدر من النجاح حتى الآن.
الحرب الأهلية جارية بالفعل لا في مخيال الذين يحذّرون منها.
المقصود بالضبط من التحذيرات المتواترة إبداء الخشية من تكرار تجربة الماضي، أو أن تمتد مواجهات السلاح بين العرقيات المتناحرة لسنوات طويلة قد تُفضي تداعياتها -هذه المرة- إلى تفكيك إثيوبيا نفسها وإشاعة أجواء الفوضى والاضطراب في أنحاء القرن الأفريقي وشرق أفريقيا.
كان لافتاً في الحربين الأهليتين الأولى والمستجدة تصدّر «جبهة تحرير شعب التيجراي» لمشاهد القتال.
في المرتين، نجحت في بناء تحالفات سياسية وعرقية ضد الحكومة المركزية في أديس أبابا وأبدت قدرة لافتة على الحشد والتعبئة والقتال رغم أن وزنها السكاني نحو 6% من عدد سكان إثيوبيا.
في المرة الأولى، أسقطت نظام مانجستو عام (1991) وأسّست لحكم فيدرالي ترأسه زعيمها ميلس زيناوي، الذي أحكم قبضته على السلطة بلا منازع تقريباً حتى رحيله عام 2012.
تكاد قواتها الآن أن تقتحم العاصمة أديس أبابا بتحالف مع ثماني منظمات عسكرية أخرى أهمها القوات التي تنتسب إلى عرقية الأورومو، أكبر العرقيات الإثيوبية، التي ينتسب إليها رئيس الوزراء آبي أحمد!
في ما هو منسوب إلى قادة التيجراي، فإنهم لا يهدفون إلى حكم إثيوبيا، بل إطاحة آبي أحمد، كان ذلك ترتيباً للأولويات لا عزوفاً عن السلطة.
أحد الاحتمالات الواردة انفصال الإقليم خاصة أن المادة 39 من الدستور الإثيوبي تجيز في بعض الحالات حق تقرير المصير.
هكذا تترتب الأولويات: إطاحة آبي أحمد أولاً، وحيازة السلطة في أديس أبابا ثانياً، الانفصال ثالثاً إذا غابت القدرة بضغوط دولية عن الحسم العسكري الأخير.
مصير آبي أحمد عقدة الموقف في الحرب الأهلية الإثيوبية الجديدة.
أفضت سياساته إلى إشعال نيرانها باقتحام إقليم التيجراي بقوة السلاح والاستعانة بقوات أجنبية ضد مواطني شعبه توظيفاً للكراهية المتبادلة بين مواطني الإقليم وأريتريا على خلفية الحرب مع إثيوبيا، التي انتهت بانفصال إريتريا.
كانت تلك خطيئة كبرى استدعت كراهيات لا يمكن التحكّم في المدى الذي تذهب إليه.
وفق التقارير الدولية، تجاوزت الانتهاكات التي ارتُكبت بحق مواطني التيجراي كل قيد أو حدّ تقتيلاً وتشريداً وانتهاكاً للأعراض.
هكذا يصعب التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة بتدخل دولي ما تمنع اقتحام أديس أبابا وإطاحة آبي أحمد بقوة السلاح.
القصة ما زالت في فصولها الأولى، لم تستغرق حتى الآن سوى عام واحد تدحرجت خلاله كتل النيران بأسرع من أي توقّع.
انقلبت موازين القوى العسكرية بفداحة وأخفق رهان آبي أحمد على إنهاء تمرد التيجراي على تعطيل الانتخابات النيابية في الإقليم.
بدا الجيش الإثيوبي منكشفاً أمام مسلحي التيجراي رغم أنه نظرياً رابع قوة مسلحة في القارة بعد مصر ونيجيريا وجنوب أفريقيا.
في مثل هذه المواجهات العرقية، يصعب أي حديث عن عقيدة قتالية، أو تماسك ممكن لأي قوة عسكرية، الهزيمة شبه محتمة.
يكاد مصير آبي أحمد أن يكون قد تقرّر، لا أحد تقريباً من القوى الدولية والإقليمية التي يعوّل عليها لإنقاذ حكمه مستعد أن يحارب بالنيابة في معركة خاسرة.
إذا تقوّضت قواته في الميدان بأكثر مما هو حادث، فإن الأميركيين سوف يسارعون لترتيب الأوضاع الجديدة بما يحفظ مصالحهم في القرن الأفريقي. الأوروبيون سوف يحذون الموقف نفسه، الصينيون والروس سوف ينظرون إلى مصالحهم أولاً وكيفية الحفاظ عليها من دون أضرار استراتيجية واقتصادية تلحق بهم، والإسرائيليون الذين راهنوا على آبي أحمد سوف يكونون أول من يتخلون عنه. اللاعبون الإقليميون الآخرون لن يتورطوا في أي موقف وسياسة تضر بمصالحهم الكبيرة والصغيرة معاً.
هذه هي قواعد اللعبة، فالكلمة الآن للسلاح والمصالح.
أين مصر من ذلك كلّه؟
آبي أحمد يلمح إلى دور مصري ما في دعم وتسليح التيجراي عبر السودان، لكنه يتحاشى التصريح بما لا دليل عليه خشية أن يسوء موقفه بأكثر مما هو حادث.
بنظرة موضوعية، فإن من مصلحة مصر استقرار إثيوبيا وعدم شيوع الفوضى المسلحة عند منابع النيل شريان الحياة فيها، والحيلولة دون تدهور الأمن والسلم الإقليميين في القرن الأفريقي.
هذه بديهيات في مقتضيات الأمن القومي المصري، بذات قدر عدم الإضرار الفادح بحصتها في مياه النيل من بناء «سد النهضة» الإثيوبي والامتناع بالمراوغة عن توقيع اتفاق قانوني ملزم.
يلفت النظر –هنا- إلى أن ميلس زيناوي الزعيم التاريخي للتيجراي ينسب إليه مشروع السد الإثيوبي، وضع حجر أساسه في عصره، وشرع في بنائه تحت إشرافه. كان هو من فكّر قبل آبي أحمد أن يكون السد رافعة الدور الإثيوبي الجديد في قيادة القارة بالهيمنة على مياه نهر النيل.
باسم الاستثمار في الموارد المائية لإنتاج الكهرباء وتحسين مستويات معيشة أكثر من مئة مليون إثيوبي يعيش أغلبهم تحت خط الفقر، جرى العمل على جلب الاستثمارات في مشروع السد وبناء شبكة مصالح واسعة عملت لأسباب مختلفة على تهميش الدور المصري.
تختلف الوجوه والسياسات، لكن يبقى مشروع السد بأبعاده وأهدافه شبه نقطة إجماع وحيدة في بلد تمزّقه صراعاته العرقية.
ليس هناك ما يُنبئ بأنّ الحكام الجدد المحتملين سوف ينتهجون سياسة أخرى إذا لم تكن هناك في المكان عين حمراء مصرية تردع أي تجاوزات تنال من حق البلد في الحياة.
عند تقاطعات النيران، لا تجدي كثيراً التظاهرات التي ينظمها أنصار آبي أحمد في أنحاء مختلفة من البلاد ضد من يطلقون عليهم «العملاء»، أو إعلان الطوارئ في كلّ الأنحاء ودعوة المواطنين إلى حمل السلاح، أو التحذير من أن تتحول إثيوبيا إلى ليبيا أخرى كما قال رئيس الوزراء المأزوم نصاً.
«إثيوبيا وُجدت لتبقى وستهزم أعداءَها وتكون قدوة لأفريقيا». كانت تلك عبارة أخرى للرجل نفسه محمّلة برسائل متضاربة، بعضها ممكنة، مثل أن تبقى إثيوبيا، فهي ليست بلداً صغيراً، وقد تنهض من جديد إذا ما قُدّر لها أن تتخلّص من إرث الماضي، وبعضها الآخر، كأن تكون قدوة لقارتها، تكاد تستحيل تماماً في ظل سياساته التي تجلب نُذراً مظلمة فوق أديس أبابا.

* كاتب وصحافي مصري