القضية ليست أن يستقيل أو لا يستقيل وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي.بأيّ نظر في حقيقة الأزمة وتداعياتها المحتملة فهو ليس موضوعها، ولا تصريحاته عن «عبثية الحرب في اليمن» صلبها.
الأزمة أكبر وأخطر من أن تتلخّص في تصريحات قرداحي قبل تقلّده حقيبة الإعلام، فما قاله عن الحرب اليمنية نسخة اعتيادية مما تنشره وتؤكد عليه المنظمات الدولية ومراكز الأبحاث والتفكير والمنصات الإعلامية والحقوقية في العالم بأسره دون أن تثير غضباً مفرطاً، كالذي تمدّد في حالته بإجراءات دبلوماسية واقتصادية خشنة كسحب السفراء والتلويح بعقوبات تنال من بلد مُنهك يقف على حافة الانهيار.
أسوأ ما قد يترتّب على «أزمة قرداحي» الشعور العام الذي يصاحبها بأن ثمة استضعافاً للبنان، وأن ما يحدث معه يصعب تصوّر حدوثه مع أي بلد آخر.
فكرة الاستضعاف تضر بدول الخليج أكثر من غيرها وتولّد مشاعر مضادة يصعب التحكّم في تداعياتها السلبية على أيّ مدى منظور.
فيما يفلت من بعض الإشارات في التصريحات والملاسنات يتأكد أن اسم جورج قرداحي عنوان مؤقت وليس الأزمة نفسها، فإذا ما استقال بضغط أو آخر، لا تتغير حقائقها وحساباتها على أيّ نحو جوهري.
بتصريح رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي: «إننا أمام منزلق ومسار الأزمة بتخطّي استقالة قرداحي»، هذا استنتاج صحيح، لكنه يناقض نفسه في السطر التالي بمناشدة الوزير «تغليب حسّه الوطني لنزع فتيل التوتر مع السعودية».
الأزمة ليست شخصية، وقد لمس وزيرا الخارجية السعودي واللبناني عمقها بإشارات تخرج عن نطاق ما هو منسوب إلى «قرداحي» من تصريحات وما هو مطلوب بشأنها من ترضيات حتى لو كانت استقالته، إلى بنية الحكومة كلها وأدوار «حزب الله» في المعادلة السياسية اللبنانية.
مشكلة هذا الطرح أنه يفضي عملياً إلى تفجير الوضع العام في لبنان وجرّ البلد إلى الاحتراب الأهلي.
تلك الإشارات المعلنة والمبطنة تعكس بعض جوانب الأزمة، لكنها لا تتوقف عندها، بل تمتد إلى حسابات المنازعات السعودية الإيرانية في ملفات عديدة بالإقليم، خاصة في اليمن.
عقدة الموقف كله هنا، وأي كلام آخر مكانه الهوامش لا المتون.
يثير الالتفات أن تصعيد الأزمة في لبنان يرافق مفاوضات سعودية إيرانية معلنة وغير معلنة لتهدئة المنازعات بين البلدين بحلول وتسويات.
حسب ما هو معلن رسمياً على الجانبين فإن المفاوضات تسير بإيجابية. إذا كان الأمر كذلك فما الذي استدعى التصعيد مع لبنان على خلفية تصريحات كان يمكن تجاوزها بصورة أو أخرى، بإيضاح أو آخر، خاصة أن قرداحي كان قد أطلقها قبل إسناد حقيبة الإعلام إليه؟
إننا أمام أوضاع عصبية يصنعها التقاطع الحرج بين مسارَي التهدئة والتصعيد، لا التهدئة وصلت إلى مرسى يطمئن إليه ولا التصعيد قرار انفرادي متاح.
مسار التهدئة تفرضه حسابات القوة، التي قد تستجدّ في الإقليم عند الانسحاب المتوقّع للقوات الأميركية من العراق بخشية الفراغ الاستراتيجي المحتمل على أمن الخليج.
إسرائيل تعرض نفسها لاعباً رئيسياً باسم ملء الفراغ الاستراتيجي عند منابع النفط أمام احتمالات تغوّل «العدو الإيراني المشترك»، ودول الخليج تعيد حساباتها وتحاول أن تحمي مصالحها من أية تهديدات مباشرة أو مفترضة، حقيقية أو وهمية، والدول الإقليمية الأخرى كمصر وتركيا تبحث بدورها عما يمكن أن تلعبه من أدوار وتحوزه من مصالح.
على الجانب الآخر فإن مسار التصعيد تصنعه غيوم السياسة وقلة الثقة في المستقبل.
اللعبة محكومة بما قد يحدث في مباحثات فيينا بشأن الاتفاق النووي الإيراني.
إذا ما نجحت المباحثات في التوصل إلى اتفاق نهائي، فإن قواعد اللعبة سوف تختلف ويصبح التوافق السعودي الإيراني ممكناً في الأزمة اليمنية وغيرها من الأزمات.
بمعنى آخر، فإن المفاوضات السعودية الإيرانية معلّقة على النتائج الأخيرة لمباحثات فيينا.
في تلك الأجواء السائدة مالت قوى إقليمية عديدة، شاملة مصر وتركيا، إلى تهدئات أخرى في ملفات ساخنة كالأزمة الليبية والصراع على الغاز في شرق المتوسط.
كما بدأت تتحرك دعوات لإعادة دمج سوريا في الجامعة العربية وإنهاء القطيعة معها، وعاد الحديث مجدداً عن تسوية ما للقضية الفلسطينية دون أن تكون إسرائيل مستعدّة لأي تنازل في الأراضي، كأننا أمام صورة جديدة مرتقبة من سلام القوة، أو التطبيع المجاني.
لم تكن فكرة الحوار السعودي الإيراني المباشر بحثاً عن حل للأزمات المتفاقمة بين البلدين جديدة أو مستحدثة، ولا كانت استضافة سلطنة عمان في البداية لجولات الحوار قبل نقلها إلى العراق مفاجأة كاملة.
كان هناك شروع للدخول في مثل ذلك الحوار عام 2016، وبدأت الآلة الدبلوماسية تتحرك بحثاً عن حلول ممكنة للصراع في اليمن بعدما تبدّى أن حسمه عسكرياً شبه مستحيل بعد سنة واحدة من دخول الحرب عام 2015 باسم «عاصفة الحزم».
أُجهضت الفكرة تماماً عند إعدام الشيخ الشيعي السعودي «نمر النمر» وما جرى بعده من ردات فعل، حسب تأكيد مسؤول سعودي رفيع مطلّ على الملف في حوار لم يكن للنشر.
في ذلك الوقت طُرح في التداول العام أن اليمن أولوية سعودية في أي حوار مفترض حيث خاصرتها الجنوبية فيما سوريا أولوية إيرانية حيث يتحدد مصيرها.
تبدّدت تلك المقايضة الاستراتيجية بانحسار الدور السعودي في الأزمة السورية لمصلحة تركيا وارتفاع منسوب الدور الإيراني في سوريا بعد التدخل الروسي.
الاعتبارات الآن تختلف وتحتاج إلى مقاربات جديدة أوسع مدى من الحوار المباشر بين البلدين.
انسداد قنوات الحوار العربي العربي بالعصبية المفرطة تعبير عن عجز مقيم وعدم إدراك كافٍ للعواقب والتداعيات.
يستلفت الانتباه ــ هنا ــ أن الولايات المتحدة وفرنسا ودولاً غربية أخرى تحاول أن توفر للحكومة اللبنانية ما تحتاج إليه من ضمانات دولية للبقاء على قيد الحياة خشية الانهيار النهائي للوضع العام في لبنان.
في الحسابات الغربية فإن الاستقرار الحكومي يسمح بالتقدم إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإجراء انتخابات نيابية جديدة، ربما تغيّر من التركيبة السياسية الحالية دون خشونة تنطوي عليها المقاطعات الدبلوماسية والاقتصادية. كانت تلك مفارقة كبرى في المشهد اللبناني المأزوم.
باليقين فإن الأطراف الدولية التي تعهّدت بتوفير غطاء حماية لحكومة ميقاتي من الضغوطات الداخلية والإقليمية، تدرك حجم الدور الذي يلعبه «حزب الله» في المعادلة اللبنانية الحالية، وتدرك بالقدر نفسه أن إسقاط الحكومة مشروع فوضى يضرّ بمصالحها.
إنها الحسابات لا الانفعالات في لحظة حرجة من تحولات الإقليم بين مسارَي التهدئة والتصعيد.
* كاتب وصحافي مصري