منذ سنتين يشهد لبنان، البلد الصغير الواقع على السّاحل الشّرقي للمتوسط، واحدةً من أسوأ الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في العالم.خلال العقود القليلة التي سبقت هذه الأزمة، صنّف الكثير من الباحثين لبنان على أنه «دولة ضعيفة» ومساحة من الهشاشة وعدم الاستقرار. فباستثناء فترات وجيزة من الراحة النسبية، كانت العقود الثلاثة الماضية من تاريخ لبنان مليئة بالاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والضيق: من سلسلة اغتيالات إلى حروب عسكرية ومن تضخّم متراكم إلى فساد متفشٍّ. قبل ذلك، كان لبنان قد عرف حرباً أهلية طويلة ودموية، لم تنته إلا في أوائل التسعينيات باتفاق جعل العديد من أمراء الحرب النخبةَ السياسية والطبقة الحاكمة في البلاد. وسبق هذه الحرب طوال فترة الخمسينيات والستينيات عدد كبير من انفجارات أقصرَ للعنف المدني والصراع السياسي وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في ظل الكثير من اللامساواة الاجتماعية وأشكال الاستغلال والاضطهاد. وبالنظر إلى أن الدولة أبصرت النور عام 1945، يظهر تاريخ لبنان متّسماً بالخلل الوظيفي والصراعات والضيق الاجتماعي والاقتصادي.
وبالرغم من هذا، فغالباً ما يتم تصوير لبنان وتقديمه - بين الغالبية العظمى من اللبنانيين وغيرهم - كواحة داخل منطقة مضطربة وفضاء رائد للحريات التقدمية و»الحياة». في هذه السردية، تُصور مآسي لبنان على أنها «انحراف›› عن المسار الطبيعي لهذا الوطن – غالباً ما يُفسر على أنه فشل اللبنانيين التاركين إمكانات لبنان الحقيقية كـ «مهمة» و»رسالة» ومنارة لـ «الحضارة» في «الشر». وفي هذه السردية حضور كبير لفترة ما بين الاستقلال والستينيات التي تُقدم على أنها فترة استقرار وازدهار كدليل على ما كان يمكن أن يكون عليه لبنان وما يمكن أن يكون مرة أخرى. وبذلك، تسود شعارات لبنان «سويسرا الشرق» وعاصمته بيروت «باريس الشرق»، بحيث تحدد المراجع الأورو-مركزية هُوية لبنان وأفقه بينما يتحول غالب تاريخ لبنان الفعلي إلى سلسلة من «الأحداث المؤسفة» و»الأخطاء العرضية».
بيد أنّ تحليلاً اجتماعياً وتاريخياً أعمق لبنية لبنان يطعن في هذه السردية ويدفعنا لوضع تاريخ الكيان المضطرب – بما في ذلك الأزمة الحالية – في سياق تأسيس لبنان الاستعماري وتشابكه العميق ضمن مشروع الإمبريالية العالمية المستمر. من المؤكد أن تحليلاً مثل هذا يتطلب نقاشاً أبعد من هذا المقال، لكن يمكن الإشارة السريعة إلى مثل هذه القراءة البديلة هنا.
لبنان كأمّة لم يكن موجوداً من قبل في التاريخ، بل هو نتاج التقسيم الاستعماري الفرنسي-البريطاني لـ»الشرق الأوسط» بما يتماشى مع مصالح الإمبريالية الأوسع. فقد تم استحداث هذا البلد الصغير كموطن «مسيحي» ومنارة للإرسالية الإمبراطورية لفرنسا وكمساحة «مختلفة» عن محيطها – و هنا يكمن جذر الاستعارات السائدة عن استثنائية لبنان. وقد أُنشئ هذا البلد على أساس ارتباط عميق تأسّس من داخل هندسته، هو فعلياً تبعية عميقة للاستكبار العالمي بدلاً من أن يكون دلالة على «التقدم» و»التنمية» كما تفترض الروايات السائدة ذات المركزية الأوروبية لتاريخ العالم.
إن أيّ حل لا يسعى إلى إبطال لبنان ما بعد الاستعمار وينحصر بنقده، يبقى قاصراً عن صنع مستقبل أفضل لكل الذين يعيشون في هذه البلاد المضطربة


وقد أقامت هذه الأبوية الفرنسية المهيمنة من خلال الكثير من وحشية القوة والعنصرية الأجهزة المختلفة للدولة الناشئة على مأسسة اجتماعية-قانونية مبتنية على عدم المساواة والطائفية. ومع دستور مفكّك، تم إشباع لبنان بالفساد المنهجي كوسيلة لضمان إعادة إنتاج التبعية وتماشيها في إطار البنية السياسية والاجتماعية الأوروبية – وخصوصاً الفرنسية منها، من قوننة «الامتيازات» إلى استعدال الزبائنية، ومن إنشاء نخبة حاكمة طائفية طبقية مهيمنة إلى مركزية قوامها الفوارق والحرمان، أُوجد لبنان على نزاعات وتمييز ولاتساوٍ بنيويٍّ ومؤّسساتي. وبذلك تم وبشكلٍ منهجي إخضاع نسبة كبيرة من اللبنانيين – وبالتحديد المكوّن المسلم – عبر نظام «مواطنة متفاوتة».
وقد استمر عمل هذه المنظومة مع تفكيك كبير ومؤسّسي للصناعات الإنتاجية في البلاد (بما في ذلك الزراعة والصناعة) حيث شهد لبنان حركة نيوليبرالية سبقت الصعود العالمي للإيديولوجيا النيوليبرالية. وبذلك أصبح لبنان ذا اقتصاد خدماتي حين صار قطاعه المصرفي – المتشابك بعمق مع النخبة الحاكمة – العمود الفقري لاقتصاده السياسي. وجاءت بعد ذلك الحرب الأهلية و»إعادة الإعمار» التي تبعتها لتفاقم هذه الديناميكيات جاعلةً لبنان واحدة من أكثر الدول مديونيةً وشللاً في العالم.
ويجب التأكيد هنا على أن المنظومة الاستعمارية التي أسّست لبنان استمرت وتنامت هيمنتها العالمية خلال الجزء الثاني من القرن العشرين مع انتقال تنفيذها إلى الإمبريالية الأميركية ومؤسساتها المالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وبذلك تُفهم أزمات ومآسي لبنان كناتج مستمر لهذه الهندسة الاستعمارية للبلد لتظهر أن الازدهار المدّعى (إن كان في الستينيات أو في بداية القرن الواحد والعشرين) ليس إلا وجهاً من عملة وجهها الآخر القمع والاستغلال ضمن إعادة إنتاج لبنان ما بعد الاستعمار ومنظومة الاستعمار الرأسمالية العالمية التي هو جزء منها.
قراءة كهذه لتاريخ لبنان إذاً تتطلب وضع سياسات التسعينيات وفترة ما بعد الحرب الأهلية ضمن سياقها التاريخي لتُقرأ كاستمرار – ذو خصوصيات طبعاً – للبنان ما بعد الاستعمار.
وبعيداً عن تبرئة النخبة الحاكمة في لبنان، مثل هذه القراءة تثبتهم كعملاء للرأسمالية الإمبريالية بينما تضع حالة لبنان في كل من الهياكل التاريخية الكبرى التي هو جزء منها.
وبناءً على ذلك، تُفهم أزمة لبنان الحالية ضمن هذا التاريخ الأكبر كنتيجة ضرورية وطبيعية لهندسة البلاد بما يتماشى مع المصالح الرأسمالية النيوليبرالية والاستعمارية الإمبريالية وأزماتهما الحضارية والعالمية اليوم. وبناءً عليه أيضاً، فإن أي حل لا يسعى إلى إبطال لبنان ما بعد الاستعمار وينحصر بنقده، مثلاً، على فترة سياسات ما بعد الحرب الأهلية – كغالب التحليلات والنقاشات اليوم – يظل غير قادر على تخيّل مستقبل بديل لجميع أولئك الذين يعيشون داخل حدود البلد المضطربة.
* باحث في دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة إدنبرة، بريطانيا