قبل ثمانية وأربعين عاماً، في العشرين من كانون الثاني/يناير 1973، أقدمت مجموعة من الخونة على إطلاق النار على الشهيد العظيم أميلكار كابرال (غيفارا أفريقيا) حينما كان يغادر برفقة زوجته آنا ماريا، حفل استقبال أقامه السفير البولندي في كوناكري، غينيا وقتلوه. وبرغم أنه لم يتم تحديد دور الاستعمار البرتغالي، ولا سيما دور «الشرطة السرية»، في هذه الجريمة البشعة بشكل موثّق، رغم تورّطها في مؤامرات لا حصر لها من الاغتيالات ضد كل من حارب الاستعمار البرتغالي، إلا أن «دائرة المعلومات والتحقيقات» في وزارة الخارجية الأميركية أشارت أخيراً إلى أن «تواطؤ لشبونة» في اغتيال كابرال «لا يمكن استبعاده». أما رفاق الشهيد كابرال، الذين عرفوا جيداً الطبيعة الإجرامية للمشروع الاستعماري البرتغالي (كأي مشروع استعماري) واختبروا تكتيكاته العنيفة والهمجية وطبيعته الدموية عن قرب، فلم يساورهم أيّ شك في دور السلطات الاستعمارية البرتغالية في اغتيال كابرال منذ البداية، حتى لو كان من قام بالتنفيذ مجموعة من الخونة من بني جلدته (1). أما اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي حينها، فلم تتردد في نعيها لكابرال من الإشارة إلى دور الاستعمار البرتغالي، فلقد أعلنت وبثقة أن الشهيد كابرال «قُتل على يد عملاء الاستعمار». لم يعش كابرال، الذي رحل عن 48 عاماً، ليشهد انتصار شعبه على الاستعمار البرتغالي وعملائه، لكنّه توقّع الانتصار وكان مؤمناً بحتميته. فغينيا بيساو والرأس الأخضر تحرّرت بعد استشهاد قائد ومؤسّس مقاومتها بثمانية أشهر فقط في 24 أيلول/ سبتمبر 1973.أردت أن أبدأ حديثي بهذه القصة القصيرة عن أحد أعظم أبطالنا في الجنوب، الذي وبرغم استشهاده على يد فرقة من الخونة من بني جلدته، كان اغتياله في النهاية لمصلحة الاستعمار البرتغالي وبالنيابة عنه، لأنها، مثل قصص أخرى كثيرة من قصص شهداء شعوبنا في الجنوب، تذكّرني بقصة شهيدنا البطل نزار بنات. فالاستعمار لم يكن يوماً مجرد مجموعة من المستوطنين المسلّحين على هيئة جيش من القتلة فقط. في الحقيقة لم يكن لأي حالة استعمارية منذ البداية أن تستمر من دون المُجنَّدين المحليين الذي باعوا روحهم وأهلهم للعدو. فحين كان البطل «تكومسة» يقود ببسالة مقاومة شعبَي شكتاو وشيكاساو الأصليين في أميركا الشمالية ضد الاستيطان الأوروبي الأبيض، كان الخونة من أبناء جلدته بقيادة الخائن «بوشماتاها» ينعتونه بـ «المشاغب» ويتهمونه بالعمل على توريط شعبه في حروب مدمّرة مع «جيرانهم البيض المسالمين»، كما وصفوا المستوطنين (2). لذلك قاتلوه إلى درجة أنهم انخرطوا فعلياً في جيش المستعمرين البيض لقتال أبناء جلدتهم من أتباعه (3).
هل عرفتم، إذن، لماذا لا ولن يفاجئنا، والأهم لا ولن يُحبطنا، ما يجري في فلسطين من اصطفاف البعض فعلياً في الخندق المضاد؟ هذه هي طبيعة الاستعمار وطبيعة حركات التحرر، وهناك من سيقف دائماً مع المستعمر ضد أبناء شعبه لتشاركهم في علاقات بنيوية طبقية، وهذه العلاقات، أيها الرفاق، مؤسّسة على أمن مصلحي/طبقي مشترك - لم يكن هناك حالة استعمارية واحدة لم يقم فيها البعض بالاصطفاف والتموضع، وحتى حَمْل السلاح، مع العدو ضد أهلهم وناسهم، وفي فلسطين نعرف ذلك جيداً منذ الثورة الكبرى (1936-1939) وتشكّل ما سمي بـ «كتائب السلام» في عام 1938 لمحاربة الثورة والثوار بإشراف الضابط البريطاني تشارلز تيغارت. تغيّرت الأسماء، تغيّرت اللغة، تغيّرت التوصيفات، وتغيّر الضباط، لكن الفكرة ذاتها، فأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية ليست أكثر من نسخة رديئة، وإن كانت أكثر عنفاً وتمويلاً وتسليحاً وتدريباً، من «كتائب السلام»، لكن بإشراف ضابط إسرائيلي هذه المرة.
كل الرفيقات والرفاق الذين تحدثوا قبلي أشادوا بشهيدنا البطل نزار وأثنوا عليه. فنزار كان حالة فريدة فعلاً من المقاومين، وحالة فريدة أيضاً من فئة المثقّفين المشتبكين – سأسميهم المثقفين الاستشهاديين، وليس ذلك فقط لاستعدادهم وجاهزيتهم لدفع الثمن الأقصى للموقف الشجاع والمبدئي. وليس ذلك أيضاً لأنهم دفعوا فعلاً الضريبة الأقصى لحبهم للوطن والناس والحرية. ولكن كذلك لأنهم أدركوا أننا في فلسطين وفي الوطن العربي مستهدفون في وجودنا السياسي والثقافي كشعب وأمة، وهو ما لا يفترض فينا جميعاً فقط الاستعداد للموت للدفاع عن وجودنا، بل وأيضاً حاجتنا الماسة جداً إلى هذا الطراز من المقاومين وهذا النوع من المثقّفين الذين لا يهادنون ولا يساومون لأنهم يدركون أكثر من غيرهم أن ثمن المساومة والمهادنة أكبر من أن نحتمل وأكبر من أن نستطيع دفعه – حين يبيع المثقف تحديداً روحه، فهذا أخطر بما لا يقاس من أي شخص آخر. وليس ذلك فقط لأن مفعول الكلمات قد يكون أحياناً أقوى من الرصاص، بل لأن وجودنا الثقافي كجماعة عربية وكفلسطينيين أيضاً يعتمد على قدرة المثقفين تحديداً على القيام بالدور المنوط بهم لتعزيز هذا الوجود والدفاع عنه حتى لو كان الثمن هو الاستشهاد... لهذا فإن لدى المثقف الاستشهادي من الشجاعة ما لا يعرفه ولن يعرفه بعض مدّعي الثقافة والفكر التقليديين الذين فاتهم أننا لا نخوض مجرد جدال معرفي وسياسي مع مثقفي العدو، أو حلفائه من مثقفي الهزيمة والتسوية، بل معركة وجود حقيقية سيتقرر بناءً على نتائجها مستقبل أوطاننا ومستقبل أولادنا وأحفادنا. لهذا بالضبط دفع نزار، مثل كل الشهداء، الضريبة الكبرى التي يمكن لأي إنسان أو أي مقاوم أن يدفعها في سبيل الهدف الأنبل على الإطلاق – هدف تحرير فلسطين.
والمثقف الاستشهادي كنزار، مثقف من طراز خاص لأنه، كمثقف، يعرف المعنى الحقيقي للسعادة، والمعنى الحقيقي للعيش. وهو استشهادي أيضاً لأنه يعرف أن المعنى الحقيقي للمعرفة، والمعنى الحقيقي للسعادة، والمعنى الحقيقي للعيش هو في خيار المقاومة حتى الشهادة، وهو ما لا يعرفه ولن يعرفه أبداً من باع روحه ومن باع شعبه ظناً أن المعنى الحقيقة للحياة والمعنى الحقيقي للسعادة يكمنان في ثمن مادي بخس يحصله مقابل روحه. هكذا كان الشهداء غسان كنفاني، ناجي العلي، باسل الأعرج، والكثيرون مثلهم. لم يكونوا مثقفين فقط، بل تحلوا بالشجاعة إلى حدّ الشهادة.
رغم أن كلمات الرثاء والتأبين أصبحت جزءاً من عاداتنا الجنائزية، وتقليداً من طقوس تأبين أبطالنا كحق لهم علينا نحن الأحياء (لأنهم يستحقون التكريم والثناء فعلاً)، إلا أن التكريم الحقيقي لكل من يسقط في ميدان المعركة دفاعاً عنا وعن وجودنا وعن مستقبل أطفالنا، والتكريم الحقيقي لمن كان بمثل هذه الشجاعة يكون حقاً بتكريمه في الميدان وبالفعل أيضاً. وليس ذلك فقط لأن الفعل البطولي لهذا الشهيد المظلوم هو سبب لقائنا هنا أصلاً. بل وأيضاً لأنه فقط حينما وحيثما تكون مكافأة الفضيلة أعظم، وفقط حينما وحيثما تكون مكافأة البطولة والشهادة أعظم، يمكن أن نرى المزيد من أنبل الناس يتجنّدون في خدمة الوطن ومقاومة الاستعمار. نعم، ربما يكون الكفاح من أجل الاقتداء بهؤلاء الأبطال شاقاً جداً، لكن لن يعرف أحد منا المعنى الحقيقي للحياة الحقيقية والسعادة الحقيقية إلا في لحظات الاشتباك والمقاومة والكفاح. عدا ذلك هو الوهم.
كان الشهيد باسل الأعرج يردّد أن «المقاومة جدوى مستمرة»، وكنت أظن أنني أعرف فعلاً المعنى المقصود بهذه العبارة. لكن حين سمعت قائد المقاومة العربية وسيدها يصف الشهيد نزار بـ «الشجاع» ويقدم التعازي به لأهله وشعبه عرفت أن جدوى المقاومة أكبر بكثير مما كنت أظن. فأن يصفك قائد المقاومة العربية، الأمين حسن نصرالله، بالشجاع، فهذا يعني أن جدوى المقاومة أكبر مما يمكن لنا حتى أن نتخيل. لهذا، قيل الكثير عن الشهيد نزار اليوم. ومن يعرف نزار جيداً ربما يعتقد أننا أعطيناه حقه أو بعض حقه فقط. ومن لا يعرف نزار ربما يظن أن بعض أو كل ما نقول هو من متطلبات الرثاء وطقوس التأبين. لكن، لمن يعرف الشهيد نزار جيداً، ولمن لا يعرفه مطلقاً: هل تعرفون حقاً كم يجب عليك أن تكون شجاعاً حتى يصفك السيد حسن نصرالله بالشجاع؟ نزار بنات كان شجاعاً إلى هذا الحدّ.
* كاتب عربي
(كلمة في تأبين الشهيد نزار بنات في رام الله، 16 تشرين الأول 2021)

المراجع
(1) http://www.afrol.com/articles/19767
(2) انظر منير العكش، «دولة فلسطينية للهنود الحمر».
(3) دُفِنَ الخائن بوشماتاها في مقبرة الكونغرس بعد أن أعطي رتبة عقيد في الجيش الأميركي تقديراً لخدماته في محاربة أهله وخيانتهم.