حَدَثَ يوم الخميس 14 الجاري، ما كان متوقّعاً. نظّمت «القوات اللبنانية» كمين قنص وقتل، أدَّى إلى مصرع 7 وجرح العشرات، مستهدفاً تظاهرة سلمية تحمل شعارات الاحتجاج على تسييس وانحياز مجريات التحقيق، الذي يقوده المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار بشأن كارثة انفجار المرفأ في 4 آب 2020.قلنا «ما كان متوقّعاً»، لأنّ الكمين لم يكن أمراً طارئاً. هو ذو سياق ينتظمه، تحديداً، في نطاق الصراع الدائر في لبنان لجهة تعظيم واستغلال الأزمة الاقتصادية الهائلة، وإلقاء مسؤولية حصولها، ومن ثم تماديها، على عاتق فريق، حصراً، هو «حزب الله». هذا الحزب هو الأضعف حضوراً، في الزمن وفي الفعالية، في النظام والمنظومة المسؤولة، بالدرجة الأُولى، منذ عقود من هذه الأزمة التي أصابت بالخراب الشامل أكثر من 80% من اللبنانيّين (ومن المقيمين بنسبة كبيرة أيضاً). بهذا المعنى، مجزرة «الطيونة» هي حلقة في مخطّط، وليست أمراً قائماً بذاته. لذلك، أتت في المناسبة والتوقيت والتحضير والتنفيذ، بوصفها كذلك، استكمالاً لما قبلها وتمهيداً لما بعدها. هي، بهذا المعنى، ليست كميناً تقع مسؤوليّته على «القوات» وحدها (وحتى ليس، أساساً، عليها)، بل على الجهة «الأم» التي خطَّطت وحرَّضت وموّلت، والتي هي غرفة عمليات السفارة الأميركية في «عوكر» بالتحديد! ولأنّ مجزرة «الطيونة» تقع في سياق صراع شامل تشارك فيه، بالقيادة والتشجيع والتحريض والتمويل والإعلام، كما ذكرنا، قوى دولية وإقليمية ومحلية، فقد تميّز الكمين بالإتقان لجهة تحديد الزمان والمكان والموضوع والشركاء والأدوات...
- أولاً، كانت كارثة انفجار المرفأ، هي العنوان الأساس الذي تنعقد عليه خطّة قوى «عوكر»، لجهة الاستثمار والتحريض والإدانة. هذا الاستثمار دخل مرحلة جديدة، بعد فشل مرحلة تحويل مناسبة الذكرى الأولى للكارثة حدثاً انعطافياً، بل انقلابياً، في مجرى الأزمة المتواصلة والمتعاظمة والمدمّرة للبلاد والعباد. كان الحشد دون الآمال، وكان فاشلاً في تحقيق هدف كبير حُدّد له من نوع السيطرة على مقرّ مجلس النواب... كانت نهايات ذلك اليوم شديدة التواضع، وأقرب إلى الخيبة لجهة المحصّلات في مجال رفع المعنويات والتحريض وتسجيل النقاط... بسبب ذلك انتقل الجهد للتركيز، ودائماً في موضوع المرفأ، على التحقيق العدلي وقاضي التحقيق الذي استجاب (لأسباب وعوامل سياسية ومعنوية ومادية شائعة، على أوسع نطاق، منذ مدّة في مجال التأثير على توجّهات ومواقف المؤسّسات والأفراد) لتوحيد أصابع الاتهام نحو خصوم فريق «عوكر» المحليّين والإقليميّين. في مبرّرات اختيار هذا العنوان، إذن، أن تُستخدم كلمة حق يُراد بها باطل: بزعم الدفاع عن العدالة واستقلالية القضاء والقاضي، وبذريعة تحديد المسؤوليات عبر الوصول إلى الحقيقة.... كان قد تمّ قبل ذلك، تحقيق مستوى عالٍ من التأثير على «لجنة أهالي الشهداء»، ومن ثمّ توظيف ذلك، بما يتعدّى المألوف بأشواط، للقيام بدور سياسي في هذا الصدد: دور ظاهره معرفة المجرم والمسؤول، وجوهره، دائماً، توجيه الاتهام، تكراراً، إلى جهة دون سواها.
- ثانياً، تمّ استحضار المسألة الطائفية لجهة مكان وخط سير التظاهرة، بالاستفادة من أرشيف ورواسب الحرب الأهلية السابقة، ومن أهمية خط «الشياح عين الرمانة»، من بداية الحرب حتى نهايتها! ولم يُهمَل دور بعض الأجهزة الأمنية في هذا السياق لجهة إخفاء الاستعدادات وتغطية المجريات وصولاً إلى تجهيل الفاعل عبر تمييع أو تضييع التحقيقات... وهنا يجب التوقّف للقول، من دون تردّد، أنّ واشنطن تُعير أهمية استراتيجية لعلاقتها بالجيوش. ولها في ذلك تجارب ناجحة ومؤثِّرة: قديمة (التشيلي)، وجديدة (مصر، السودان...)... وهي تُجاهِر بـ«تحالفها» و«صداقتها» مع الجيش اللبناني، ما يتعارض مع الدور المنشود له في الأزمة الراهنة كعامل توحيد ودفاع عن سيادة لبنان وسلمه الأهلي...
- ثالثاً، وقبل وبعد، كان ثمّة دور فاقع ومستفزّ للإعلام المأجور في التمويه والتضليل والتحريض. وهو دور يتوسّع ويُكافأ باستمرار، بمقدار ما يزداد، أيضاً، فجوره وتأثير اليومي الفتنوي من دون ضوابط .
- رابعاً، استغلّ المخطّطون والمنفّذون، أيضاً وأيضاً، الانقسامات المتوارثة، والمغذّاة بالإعلام، وشراء الضمائر وبالعصبيّات التي تضخّ فحيحها مؤسّساتٌ تشكّل عاملاً مهماً من العوامل المجنّدة في خدمة مخطط أصحاب غرفة عوكر. استغلّوا أيضاً تباينات ومحاولة تحسين مواقع وتصفية حسابات بين أطراف السلطة والحلفاء، وخصوصاً «الأعدقاء» منهم...
الحلقة «الأمنية» في المخطّط التي اختُبرت بداياتها، بنجاح نسبي، في شويّا وخلدة، ستستمرّ بعد اختبار الطيّونة، الذي يعبّر أطرافه، علناً، عن انتصارهم ونشوتهم! وهذه الحلقة التي لها ما بعدها بالتداخل أو بالتتابع مع دور أجهزة أمنية أساسية كما أشرنا، هي التي ستواصل مهمّاتها في محاولة توجيه المزاج الشعبي تحضيراً للانتخابات النيابية التي كما أخبرَنا قائد حزب «القوات» سمير جعجع، في خطابه في أوائل أيلول الماضي، بأنّها ستكون محطّة مهمّة نحو تحقيق النصر في صناديق الاقتراع، أو النزول في اليوم الثاني إلى الشارع لفرض ما لم تتمكّن الانتخابات من فرضه، وطبعاً، بوسائل الإرهاب والفتنة!
كلّ الدلائل تشير إلى أنّ مخطّط فريق «عوكر» مستمر، بكل الوسائل السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، حتى تحقيق هدف يخدم، بالدرجة الأولى، العدو الصهيوني في مخطّطه، المدعوم أميركياً وغربياً وخليجياً، للسيطرة على «الشرق الأوسط الواسع أو الجديد»، ومن ضمن ذلك، لتحويل لبنان محميّة إسرائيلية على غرار ما حصل بعد غزوه عام 1982!
المواجهة ينبغي أن تكون بمستوى التحدّي. وهو خطير ومصيري كما تجسّده، خصوصاً، حركة الموفدين الأميركيين النشطة: مرة لتنظيم «الثورة» (فكتوريا نولاند)، ومرة لاختبار الاستعداد للتنازل لمصلحة العدو ( عاموس الإسرائيلي ـــ الأميركي بانتظار ربّما، بعد دايفيد ودايفيد ودايفيد وعاموس... وصول نتنياهو نفسه ممثّلاً «نزيهاً» لواشنطن)!!!

* كاتب وسياسي لبناني