لا يبدو أن ثمة حدّاً لأزمة الإمدادت الخاصة بالاقتصاد العالمي. في البداية تعطّلت، جزئياً، سلاسل إنتاج السلع والخدمات، كنتيجة مباشرة لتقييد حركة التنقل والسفر والشحن عقب انتشار الفيروس. ثمّ ما أن تراجعت هذه الأزمة مع تعافي الطلب وبداية فتح الاقتصادات، حتى تبيّن أنّ إمدادات الطاقة نفسها، والتي تعتبر محرّك النموّ العالمي تعاني من مشكلة كبيرة. الأزمة هنا ليست قطاعية، بمعنى أنها لا تقتصر على ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا، لأنّ الطلب المتزايد على الغاز والفحم خلق مشكلة بالنسبة إلى الاقتصادات الكبرى التي تعتمد في إنتاجها على هذين المصدرين من الوقود الأحفوري، لا بل بدأت تشهد بعض الدول الرأسمالية أزمة في إنتاج الكهرباء نفسها، نتيجة الاتكال المطلق على الفحم في توليدها، وخصوصاً في الصين. ووصل الأمر إلى حدّ ارتفاع أسعار المُنتجات التي يدخل هذان العنصران في بنية تسعيرها، كالألومنيوم مثلاً. على أنّ ذلك لا يجعل منها أزمة إنتاج، لأنّ الاقتصادات التي تعاني جرّاءها تنتج ما يكفي من القيمة المضافة سلعياً، بحيث تستطيع بسهولة تعويض ما تخسره من إنتاج مرتبط بطاقة الغاز أو الفحم.
سياق التعافي عالمياً
اللافت في الأمر أنّ الأزمة تتزامن مع معاودة فتح الاقتصادات، على ضوء تحسّن معدّلات التطعيم ضدّ الفيروس. المؤشّرات الاقتصادية بهذا المعنى كانت قد بدأت بالصعود، لجهة نموّ الطلب على السلع والخدمات التي انقطعت بفعل إجراءات التقييد والإغلاق. إطلاق رزم التحفيز الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة دعم هذا الاتجاه، عبر تحفيز الإنفاق، لتعويض الخسائر الناجمة عن خروج أجزاء كبيرة من الناتج الإجمالي العالمي، وخصوصاً في قطاعات النقل والسياحة والخدمات. إنتاج اللقاحات وحده لا يكفي لفعل ذلك، على الرغم من حلوله جزئياً مكان الإنتاج السلعي، ريثما تستعيد عملية الإنتاج عافيتها. التحسّن في المؤشرات، على ضوء نجاح استراتيجيات التطعيم، لجهة صعود أسهم شركات الإنتاج الصناعي، وحتى شركات التكنولوجيا العالية، أطلق عملية الإنتاج من جديد، ولكن ليس من دون عثرات، أهمّها التضخّم الكبير في أسعار الطاقة، من نفط وغاز وفحم.

القديم والجديد
والحال أنّ الأزمة في قطاع الطاقة كانت قد سبقت كلّ ذلك، بدليل استمرار مجموعة أوبك بلاس في تقييد زيادة الإنتاج النفطي، عملاً باتّفاق خفض الإنتاج الأوّل. لنقُل إنّ التحكّم بأسعار النفط قد ازداد مع أزمة كورونا، بسبب ضعف الطلب على الطاقة، فاستمرّت الوتيرة السابقة لخفض الإنتاج، ومعها ترقُّب انعكاس استراتيجية مكافحة الوباء (إنتاج اللقاحات، الشروع بالتطعيم، إصدار الشهادات الصحية... إلخ) على حركة العرض والطلب في العالم. وبالفعل بدأ قطاع إنتاج النفط بإعطاء إشارات جيّدة مع بداية التعافي العالمي، حيث عادت الأسعار إلى حدود ما قبل الأزمة، قبل أن تكسر حاجز الـ80 دولاراً للبرميل، وبالتالي تعود لكبح الطلب من جديد. الزيادة الجديدة بدت مدفوعة بأزمة أسعار الغاز، أكثر منها بديناميات إنتاج النفط وتسعيره نفسها، إذ مع استمرار أسعار الغاز بالارتفاع، بدأ الطلب لدى الشركات والصناعات، وحتى الدول، ينزاح باتّجاه النفط، لأنّ الوتيرة التي يرتفع بها لا تصل إلى الحدّ الذي وصلت إليه الزيادة في أسعار الغاز. فضلاً عن وجود إطار في صناعة النفط قادر على كبح الزيادة في الأسعار، متى ما بدأت في التأثير على الإنتاج الصناعي، وبالتالي على النموّ الاقتصادي العالمي. النفط بهذا المعنى هو مورد رخيص للطاقة، إذا ما قورن بالغاز، أو حتى بالفحم، والقدرة الفائقة على التحكّم بأسعاره وضبطها، هي ما يجعله المنتَج الطاقوي المفضل بالنسبة إلى الصناعة، وخصوصاً خلال الأزمات الاقتصادية، حين يكون التعافي مهدّداً بتقلَّبات أسعار الطاقة، سواءً الاعتيادية منها كما هي الحال معه، أو غير الاعتيادية مثلما يحدث حالياً مع الغاز والفحم.
بالنسبة إلى الدول الرأسمالية لا يقلّ إنتاج الطاقة أهمية عن الإنتاج السلعي


الطاقة البديلة في الأزمات
هذه المرونة التي يوفّرها استهلاك النفط بالنسبة إلى الصناعات، حتى تلك التي تعتمد عادةً على الغاز في إنتاجها، تضع علامات استفهام على الطروحات الخاصّة بالتخلّص نهائياً من الوقود الأحفوري، في غضون عقدين أو أقلّ حتى. الأزمة الحالية في أسعار الغاز، وخصوصاً في أوروبا، حيث البنية الصناعية المتقدّمة الخاصّة بالطاقة المتجدّدة (طاقة الرياح والطاقة الشمسية و... إلخ)، أظهرت أقلّه في المدى المنظور محدودية القدرة الصناعية لها، على الحلول محلّ الطاقة المتولّدة عن الغاز، والتي لم يمنع ارتفاع أسعارها من استمرار التعويل عليها أوروبياً كمصدر استراتيجي، ليس فقط للتقدّم الصناعي، بل أيضاً للاستهلاك المنزلي، قبيل حلول موسم الشتاء. حتى إن النقاش انتقل مع تصاعد الأزمة إلى التشكيك في ديمومة الرياح مثلاً، كمصدر لتوليد الطاقة المتجدّدة، وخصوصاً في شمال أوروبا، حيث البنية التحتية الأكبر والأكثر تقدُّماً لعنفات الرياح المولّدة للطاقة. حصل ذلك خلال السجال مع روسيا أميركياً، حول المتسبّب بأزمة ارتفاع أسعار الغاز، إذ ردّ الكرملين على اتهام الولايات المتحدة لروسيا بالتلاعب بالأسعار قائلاً إن مسبّبات الأزمة موضوعية، منها: تراجع المخزونات الأوروبية تحت الأرض، وزيادة الطلب مع تعافي الاقتصاد العالمي، وتراجع إنتاج طاقة الرياح بسبب قلّة هبوبها هذا الموسم. وانطلاقاً من هذا السجال تصاعدت الدعوات إلى مراجعة فكرة الاتّكال المطلق على الطاقة المتجدّدة كبديل عن الوقود الأحفوري، ليس لأنها أقلّ ربحية للصناعات، بل لأنّ استدامتها في ظلّ الأزمات الاقتصادية، تبدو حتى الآن، في موضع شكّ. حتى إنّ الأزمة انتقلت إلى الصين، الأقلّ اعتماداً من أوروبا على الطاقة الخضراء، مع وضع استراتيجية وطنية هناك للتخلّي، تدريجياً، عن الانبعاثات الناجمة عن احتراق الكربون. فوُضِعَ حدّ للاعتماد على الفحم في توليد الطاقة الكهربائية، ما تسبّب بعجز في إنتاج الكهرباء، ليس فقط للمنشآت الصناعية، بل أيضاً للاستهلاك المنزلي. فضلاً عن تضرُّر الصناعات المعتمدة على الفحم، مثل الألومنيوم، وهو ما تسبّب في ارتفاع أسعاره عالمياً، كون الصين هي المنتج الأكبر له.

رهان الطاقة الأحفورية
بالنسبة إلى الدول الرأسمالية، لا يقلّ إنتاج الطاقة أهميّة عن الإنتاج السلعي، وخصوصاً خلال المفاصل التي ينتقل فيها العالم من نمط تراكم رأسمالي إلى آخر. مرحلة الانتقال هذه تحتاج إلى إمدادات آمنة ومستقرّة من الطاقة، وهو ما لا توفّره المصادر المتجدّدة بقدرٍ كافٍ، أقلّه صناعياً، على اعتبار أنها لا تزال في مراحل التجريب في أماكن مختلفة من العالم. الاعتماد عليها كمصدر وحيد لإنتاج الطاقة هو رهان المستقبل، حتى بالنسبة إلى الدول التي لم تنجز الكثير على مستوى التقدّم الصناعي. ولكن خلال الانتقال من أزمة اقتصادية إلى أخرى، سيبقى الرهان معقوداً على الطاقة الأحفورية، مهما ارتفعت أسعارها، لأنّ الاستقرار الذي تتّسم به بنيتها الإنتاجية، وحتى التنظيمية (أوبك وغيرها)، يسمح للدول الرأسمالية بالتعويض، فوراً، عن خسائرها في القطّاع السلعي، حيث لا يحتاج الأمر إلى أكثر من كبح الأسعار في إطار أوبك، إذا ارتفع النفط، أو التحوّل إليه بدلاً من الغاز لتجنّب حصول ركود جديد.
* كاتب سوري