أدَّت الزيادة الكبيرة في عدد الجامعات الخاصة في لبنان التي وصلت إلى حدود 45 جامعة ومعهداً إضافة إلى فروع جغرافية وصلت إلى حدود القرى والمنازل، إلى ارتفاع كبير في عدد طلاب التعليم العالي، ومعه توسّعت دائرة البطالة بين الشباب الجامعي والتي فاقت حدود 35 في المئة من المقيمين من الشباب الجامعي، كما توسّعت دائرة الهجرة بين الخرّيجين لتلامس حدود 45 في المئة من حملة الشهادات الجامعية عام 2014، وهي تُقدّر حالياً 65 في المئة، وفي ضوء معدّلات نمو الاقتصاد اللّبناني دون الواحد في المئة وعدم قدرته على توليد وظائف جديدة، فمن المرجّح أن تزداد الأزمة تعقيداً في ظل هذا الحشد الواسع من الخرّيجين الذين لا يملك معظمهم مهارات تنافسيّة تُساعد على الحصول على فرصة عمل في الداخل والخارج إيجابية الطفرة في عدد الجامعات لم تُرافقها إيجابية في المحافظة على النوعية والجودة في مُخْرَجات التعليم العالي على مُستوى لبنان و الوطن العربي، بالإضافة إلى طبيعة الجامعات الحديثة وتكرار نماذج مُوحَّدة في الاختصاصات والبرامج في لبنان، وهذا ما أدَّى من جهة إلى غيابٍ واضح للجامعات اللبنانية عن المراكز الأولى في التّصنيفات الدوليّة الموثوقة، عدا دخول مُتواضع لبعض الجامعات العريقة إلى مراكز متأخّرة في التصنيفات، ومن جهة أخرى إلى تخريج حشد مُتعاظم من حَمَلَة الشهادات الجامعية وفي اختصاصات شبه مُتجانسة، يجعل من الشهادة عبئاً على حاملها خلال البحث عن فرصة عمل. ومع تكاثر الجامعات، تقلّصت الشروط ومعايير الانتساب إليها ما جعلنا ندخل في إشكالية استسهال منح الشهادات لمن لا يستحقّها بجدارة أو لمن لم يحصل على المهارات والمعارف اللّازمة للدخول إلى سوق العمل، في مقابل إشكالية المحافظة على ديمقراطية التعليم وجعله مُتاحاً أمام الجميع، بما لذلك من إيجابية تكمن في الانتقال من حقبة النُخبوية، عندما كان التعليم العالي حكراً على أبناء النخبة في المجتمع.
من هنا، كان لا بدَّ من طرح السؤال حول العاطلين عن العمل من حَمَلَة الشهادات الجامعية، وهم باتوا يُشكِّلون أكثر من نصف الخرّيجين، ومع إغلاق العديد من أسواق العمل العربية أمام اللّبنانيين، وفرض أصحاب العمل شروطاً إضافية للتوظيف وحاجتهم إلى معارف ومهارات تنافسيّة متقدّمة زاد في صعوبة الحصول على فرصة عمل، وأدّى إلى طرح تساؤلات حول مدى قدرة مَعارٍف ومهارات الخرِّيجين على المُنافسة، ومدى تأهُّلهم لتبوُّء مناصب قياديّة أو وظائف ذات قيمة مُضافة في القطاع الخاص والعام المحلي والعالمي.
وفي مجال التعليم وأسواق العمل، لا بدَّ من الإشارة إلى الثورة الرقمية وتطبيقاتها وتأثيرها على الاقتصاد العالمي ، إن من خلال التجارة الإلكترونية وإعادة توزيع مراكز الإنتاج الصناعي حول العالم، أو من خلال تحويل الشركات الكبرى والجامعات إلى مراكز أبحاث وابتكار لزيادة فرص الاستثمار في الاقتصاد القائم على المعرفة، في مقابل توسّع ظاهرة التعليم المفتوح و شيوع التعليم عن بُعد وظهور مصطلحات جديدة كالجامعة الافتراضية و e-learning وغيرها، ما أوجد إشكاليات جديدة من بينها التأكّد من هوية الطلبة عند الامتحانات ومدى التواجد الفعلي في الأعمال التطبيقيّة والقدرة على توفير المهارات للخرّيجين، وعلاقة الأساتذة بالدروس والمحاضرات وبالطلاب أنفسهم، ناهيك عن الارتفاع الكبير في حَمَلَة الشهادات وقدرتهم على المنافسة في سوق العمل.
حَمَلَة الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل باتوا يُشكِّلون أكثر من نصف الخرّيجين، مع إغلاق العديد من أسواق العمل العربية أمام اللبنانيّين


من هنا ينبغي العمل على التوفيق قدر الإمكان بين وظيفة الجامعة كمُنتج للمعرفة ونَاقِلٍ لها، ومسؤوليّتها تجاه المجتمع من خلال توفير المهارات والمعارف اللّازمة التي تُؤهِّل الخرّيج للحصول على فرصة عمل وتقلِّص من خطر الوقوع في البطالة.
ولا بدّ هنا من طرح موضوع تمويل الجامعات وانعكاسه على الطلبة، خصوصاً مع تراجع الدعم الحكومي وارتفاع كلفة التعليم مما انعكس ارتفاعاً في الأقساط الجامعية. بحيث لم يعُد بمقدور الكثير من العائلات تسجيل أبنائهم في الجامعات «النخبوية»، وهذا ما أدَّى إلى تزايد انتشار الجامعات الربحيّة وتعاظم أعداد مرتاديها. ولكن تحرير الدولة من واجباتها المالية ينبغي أن لا يُحرِّرها من واجباتها الرقابية والتنظيمية ومن وضع الخطط والمبادرات الكفيلة بجعل التعليم والبحث قاطرة للنموِّ الاقتصادي، بما يؤدِّي إلى ضبط النوعية والجودة وتحسين مستوى الخرِّيجين في إطار المُنافسة للحصول على فرصة عمل.

حَمَلَة الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل باتوا يُشكِّلون أكثر من نصف الخرّيجين، مع إغلاق العديد من أسواق العمل العربية أمام اللبنانيّين


ويدور اليوم جدال في موضوع المُوازَنَة بين سياسات التعليم الخاص والحكومي حول قضايا تتعلق بالملكية والتمويل وإدارة المؤسسات التعليمية والإشراف على سياساتها الأكاديمية، ومعدل الحريات فيها واستقلاليتها، لما لهذه المواضيع من تأثير على جودة التعليم وتعزيز الفكر وتطوير المعرفة. ولا شك في أن الطابع «الخاص» للتعليم بالمعنى «غير الحكومي» هو مطلوب لجميع مؤسسات التعليم العالي، وفي هذا طمأنة لحماية الاستقلال الأكاديمي وحرية الفكر والرأي، والمطلوب أيضاً هو أن يصبح «التعليم غير ربحي»، من دون أن يُعفي ذلك الحكومات من مُساهَمَاتِها في التمويل والتخطيط العام ورسم السياسات الوطنية له والإرشاد لضمان النوعية والجودة، وتفادي جنوح المؤسسات الخاصة نحو الربح واستغلال وسائل الدعاية والإعلان لجذب الطلبة عن طريق توفير التسهيلات الأكاديمية لهم.
وفي لبنان، نجد الميل الواضح لدى العديد من مؤسسات التعليم العالي الخاصة، إلى الارتباط بمصالح اجتماعية أو طائفية أو عائلية مُعيَّنة، وبعضها يسعى إلى الربح السريع، ممّا يجعل التعليم رهينة مصالح أصحاب المال بعيداً عن الاعتبارات العلمية أو الأخلاقية، وهذا هو أسوأ كابوس يواجه التعليم العالي الخاص المُستحدث في الكثير من الدول. ومن الملاحظ غياب التوجيه المهني والأكاديمي للطلبة وتعريفهم بالاختصاصات المطلوبة في سوق العمل، وتنمية مهاراتهم وقدراتهم الحسّية والجسدية والفكرية على أساس مواهبهم الموروثة أو المولودة معهم بحيث لا يعود اختيار الاختصاص والمهنة على عاتق الفرد والأهل والأصدقاء، وتُشير الدراسات إلى أن أكثر من 60 في المئة يختارون اختصاصهم بشكل عشوائي، مما يجعلهم عرضة للبطالة المقنّعة.
ويعلّق الخبراء أهمية خاصة لمسألة العلاقة ما بين التربية والتعليم وسوق العمل، وفي تقرير الأونيسكو (1) «التعليم للجميع»، تحت عنوان «الشباب والمهارات: تسخير التعليم لمقتضيات العمل»، دعت الأونيسكو جميع الدول إلى تأمين تكافؤ الفرص في التعليم وتعزيز جودته لضمان تمتُّع الشباب بمجموعة واسعة من المهارات التي يحتاجون إليها لتحسين آفاق حصولهم على فرصة عمل، وأن لا يكونوا عرضة للبطالة أو للعمل بأجور مُتدنِّية، ولتمكين الأكثر حاجة منهم للإفلات من براثن الفقر. وتعميم التعليم من أجل اكتساب المهارات الأساسية والمهارات القابلة للاستخدام في وضعيات مُختلفة، كمهارات التواصل والتفكير النقدي وحلّ المسائل واستخدام التقنيات الحديثة وغير ذلك.
ويُرْجِع خبراء البنك الدولي، انخفاض النموّ الاقتصادي بالنسبة إلى الفرد إلى تدني مُستوى التعليم والبحث إلى درجة لا تسمح بالإسهام في زيادة النموّ والإنتاجية، مما يستدعي:
‌أ - تحسين جودة التعليم العالي وجودة مُخْرَجاته.
‌ب - تفعيل النشاط البحثي وربطه بحاجات أرباب العمل والمُسْتثمرين والحكومة والاقتصاد.
‌ج - مشاركة القطاعات الاقتصادية في تمويل بعض نشاطات المؤسسات التعليمية وإدارتها وتجهيزها، وتقديم المشورة المُتبادلة بشأن المُتطلبات الإضافية على شهادات الخرِّيجين وفي بعض أعمالها.
‌د - مشاركة القطاعات الاقتصادية وأرباب العلم في تمويل البحوث العلمية وتوظيف نتائجها في الاقتصاد الوطني عن طريق تصنيع وإنتاج وتسويق المواد والسلع والخدمات والتجهيزات المُبتكرة الناتجة عنها، بما يُؤدِّي إلى توسيع أسواق العمل وزيادة فرص التوظيف المُتاحة.
وانطلاقاً من دور الجامعات كناقل للمعرفة ومنتج لها وبالنظر إلى تجارب الدول المتقدّمة والسريعة النمو، نرى وجوب تناول الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي، مايلي:
1- وضع رؤية وطنية للتعليم العالي وتحديد أهدافها ومراقبة تنفيذها.
2- إلزام الجامعات على تحقيق هذه الرؤية وتحقيق أهدافها عن طريق التكامل في التخصّصات وليس التنافس على جذب الطلبة. وبالتالي تحديد هوية لهذه الجامعات.
3- تطوير آليات المراقبة وتعزيز جودة مؤسسات التعليم العالي، والطلب من الجامعات إجراء تقييم ذاتي سنوي لمعرفة مدى التزامها لمعايير الجودة ومدى تحقيقها لأهداف الرؤية الوطنية.
4- وضع شروط ومعايير للانتساب إلى مؤسسات التعليم العالي حسب التخصّصات.
5- تعزيز التعليم المهني العالي والمتوسط وفصله تماماً عن التعليم الجامعي وإغلاق كافة المسارات بينهما.
6- تعزيز دور التعليم العالي في مواجهة تحديات التنمية وأسواق العمل، وتحديد الآليات اللّازمة لجعل التعليم العالي منتجاً للوظائف ومصدراً للدخل ومعزّزاً للنمو، وهنا يكمن التحدي.
* أستاذ جامعي
(1) منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم 2012: التقرير العالمي رصد التعليم للجميع 2012: الشباب والمهارات تسخير التعليم لمقتضيات العمل. باريس – الأونيسكو.