حينما يتكّلم رئيس الجمهوريّة، يبدو كمن يقرأ ما كُتب أمامه للمرّة الأولى. كأنّه يرتجل مواقفه في لحظتها، حتى أنّه لا ينجح في إخفاء استغرابه ممّا يقول أحياناً. وهذا لا يتعدى كونه انطباعاً، تساهم ملامح الرئيس، وحاجباه المرتفعان أبداً، بتعزيزه في ذهن المشاهد، وقد لا يكون واقعاً في أيّ حال. ميشال سليمان الآتي، كما غيره، من المؤسّسة العسكرية، أزال النجوم عن كتفيه وارتدى زيّه المدني، على عجل، حين قاتل الناس بعضهم بعضاً في شوارع بيروت.
اختبأ الجنرال القديم في بزّة رسميّة وياقة بيضاء، كأنّه لم يكن جنرالاً في يوم من الأيام. أو كأنّنا عرفناه هكذا، مدنياً مُعْتدّاً بربطة عنقه. كان حلّاً وسطاً بين المتحاربين عقب حوادث السابع من أيار الشهيرة. هكذا انتُخب. وهذا ما كان مطلوباً منه، أن يبتسم في وجه الجميع، ويكون مرآةً مخادعة، تنتشي أطراف النزاع برؤية صورتها التي تحبّونها من خلالها. كان نتيجةً للتسويات اللبنانيّة الهشّة، أو ضحيّةً لها. لم يكن «حياده» أقلّ هشاشةً من المشهد بأسره. كانت مهمة صعبةً نفذّها سليمان في الزمن الصعب الذي تعلو فيه المتاريس وتجفّ لغة الحوار. وفي ظلّ واقع يبدو فيه الحياد أقرب إلى نكتة سمجة أكثر منه إلى موقف.
يصر الرئيس الأوّل، أنّه ابن الجيش، على الرغم من كونه لم يحتفظ إلّا بلقب «العماد» من تلك الحقبة. حظوظ الجنرالات في الكرسيّ الأول وافرة على قدر ما يستطيعون أن يكونوا رماديّين، وهي رهن قدرة المرشح على السير بخفّة على حبال السياسة المتأرجحة. بهذه الخفّة تماماً، تنصّل «العماد» من صورته القديمة. صمت الرجل طويلاً، لأنّ الكلام لن يكون في صالحه. أيّ تصريح يخلو من تعابير الحياد، الغارقة في عاديّتها، سيورّطه في السجال السياسي الدائر، وتالياً سيُخسره فُرصته في أن يكون رئيساً لولاية ثانية.

سيكون مجحفًا
ألّا يذكر التاريخ أنّه كان
أكثر الرؤساء تجوالاً في
أنحاء العالم
هذا إن استثنينا السنتين الأخيرتين، حين بدأ الحياد يذوب عن لغة سليمان وخطاباته التي يلقيها بمخارج حروف غير موفّقة غالباً. من هنا، نفهم صمت بعبدا الطويل. ذلك الصمت الذي لا يعبّر عن رضا صاحبه، بالقدر الذي يستجلب فيه رضا الآخرين. وإن أردنا أن نترجمه كلاماً: أنا أحبّكم جميعاً!
وللجنرال - الرئيس «إنجازات العهد» أيضاً. ولا بدّ من الإضاءة عليها. سيكون مجحفًا ألّا يذكر التاريخ أنّه كان أكثر الرؤساء تجوالاً في أنحاء العالم. الرئيس يهوى السفر. ولا شيء يردع شغف الترحال الذي يسكنه. وهو الذي هتف بحياة دولة أجنبيّة على مرأى من العالم. نتكلّم هنا عن «نقاط مضيئة» في الحياة الرئاسيّة، كأن تُسجّل في عهده لائحةٌ، قد تكون الأطول على الإطلاق، من الاستدعاءات إلى «مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتيّة»، والجرم غالباً هو «إهانة مقام رئيس الجمهوريّة»، أمّا المجرمون فهم مغرّدون وناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، ضُبطوا متلبّسين بآرائهم ضد الرئيس. وقد تبدو العبارة الأخيرة مألوفة إذا كنّا نتحدّث عن أنظمة عربيّة تمجّد رأس الدولة والحزب الحاكم، لكنّها لا تزال، لبنانياً، نشازاً صافياً نجح ميشال سليمان، ولو جزئيّاً، بترويضه. ولا يمكن أن نتحدّث عن الرئيس الأوّل، ونتجاوز الدستور الأعلى للقصر: «إعلان بعبدا». سيبدو الحديث ناقصاً ومبتوراً. لا تستوجب دعوة الفرقاء إلى التزام بالإعلان مناسبة، فبحسب القصر، أصل البلاء يكمن في عدم التزام بنوده. هو الوصفة التي ستضع لبنان على سكّة الحلول الحاسمة. إعلان بعبدا «نصّ مقدّس»، وعلى الجميع أن يؤمنوا به.
بالحوار، حاول وضع البصمة الأخيرة لعهده. بالحوار، أمِل أن ينجو من «لعنة القصر» التي لم ينجُ منها أسلافه. لم يخرج أحد قبله سالماً منه. جرّوا خيباتهم جميعاً، ورحلوا بأقلّ أكلاف ممكنة.
هو مصير محتوم، ولم تُحدث جلسات الحوار فرقاً يذكر في محاولة تفاديه اللعنة. هكذا انطفأ حلم ميشال سليمان بمزيد من لقب الفخامة. لا فخامة بعد اليوم، وسيكون اليوم الأخير «يوم أسود»، ظلّ الجنرال يحاول ترحيله إلى المستقبل قدر المستطاع، إلى أن رآه يتقدّم، حثيثاً، إليه. عندها كان كلام الرئيس متوقّعاً أكثر من اللزوم. لقد نفّذ المثل الشعبيّ، عن ذلك الرجل الذي لم يستطع الوصول إلى العنب فادّعى أنّه لا يزال حصرماً. إذاً فسليمان «انتظر هذا اليوم بفارغ الصبر». ويحقّ لنا بعد ذلك، ألّا نؤمن في جملته الأخيرة. لأنّنا لم ننسَ السياسة التي انتهجها طيلة عهده، وكان يخاطب فيها الجميع على حدّ سواء: أنا راضٍ عنكم جميعاً، لأنال رضاكم. أنا ابن تبايناتكم وأتغذّى منها. وأنا هنا بفضلكم، بفضل هوسكم بالمسافات المتساوية. أنا صفوة حلولكم السحريّة والموقّتة، والساكت عن الحقّ والباطل في آونة واحدة، وابن هذا القصر الواسع، وجدرانه الباردة. أنا وليد صدفة التاريخ التي وضعتني على هذا الكرسيّ ذات معركة. أنا ممتنّ للتاريخ، ممتنّ لاختلافكم على كلّ شيء، واتفاقكم عليّ.
* صحافي لبناني