قبل ما يربو على السبعين عاماً، قال الأمين العام الأول لحلف «شمال الأطلسي» اللورد هاستينغ إيسمي: «إن الحلف يهدف إلى إبقاء ألمانيا داخل حدودها، وروسيا خارج أوروبا، وأميركا داخلها». اليوم وبعد كل هذا الشوط الزمني الذي مرّ على تأسيس الناتو، بالفعل ما زالت أميركا داخل أوروبا، وألمانيا داخل حدودها، في حين أن روسيا عادت إلى مسارها الزاحف نحو القارة العجوز، خصوصاً غرب البلقان، المنطقة الأكثر هشاشة في أوروبا. تسعى موسكو إلى استعادة مكانتها كقوة عالمية فاعلة في مقابل القطب الأميركي المهيمن على النظام الدولي. ولتحقيق ذلك تعتمد على مجموعة من الإستراتيجيات التي تتنوّع بين القوة الناعمة وسلاح الطاقة والتدخل العسكري من أجل خلق دوائر نفوذ وسيطرة في ساحات جيواستراتيجية متعددة.عندما أطلق إيسمي تصريحه لم يكن في حسبانه آنذاك أن الصين المهشّمة والضعيفة ستتحول إلى قوة كبرى واعدة تُقلق العقل الأميركي، وتُربك نظام الهيمنة التي تتفرّد به الولايات المتحدة اليوم. لقد باتت نبوءة نابليون بونابرت حيال الصين على وشك التحقّق. فنابليون اعتبر أن الصين عملاق نائم، متى ما استيقظ سيهزّ العالم.
أما الولايات المتحدة التي تقود حلف «شمال الأطلسي» فإنه ليس بجديد ما تواجهه من تحديات ترتبط بنجاعة قيادتها للناتو، ومدى تمكّنها من الحفاظ على تماسك أطرافه ووحدة الصف داخل هياكله على الرغم من اختلاف الرؤى والمصالح الذي بدا أخيراً أنه أعمق بكثير من دلالات الصورة النمطية الحديدية عن الحلف.
لم يكن التصريح الأخير للرئيس التركي إردوغان حول قضية طائرات إف-35 سوى إعادة لسيل التصريحات السابقة في الشأن عينه. هذه المرة قال إردوغان: «لقد دفعنا ملياراً و400 مليون دولار في صفقة طائرات إف-35، ولم نحصل عليها. نحتاج إلى معرفة مصيرها، إما أن يعطونا الطائرات، وإما أن يعيدوا لنا الأموال».
يساور أنقرة طموحها التاريخي لاستعادة أمجاد الماضي الذي يتّسم بالنفوذ المتمادي والكيانية اللانهائية. لم تعد تركيا مستعدّة لأن يكون دورها محصوراً في مساحات الإقليم وحسب، إنها تنشد شيئاً من العالمية. لذا فإنها تحاول تدريجياً أن تتخلص من الرهان على الولايات المتحدة وحدها، فها هي تتجه شرقاً نحو روسيا والصين، ومن ثم تتجه غرباً لبناء القنوات والجسور السياسية والاقتصادية مع دول الاتحاد الأوروبي بعيداً عن الرضا الأميركي أحياناً. علاوة على ذلك ترسم تركيا خارطة قوتها في الشرق الأوسط، وتسعى بشكل حثيث لتوسيع دائرة نفوذها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط سواء من خلال تدخلها في الحرب السورية، أو عبر انخراطها في الصراع الليبي.
صحيح أن ما تستورده تركيا من السلاح الأميركي يشكل 63% من مجمل وارداتها العسكرية، إلا أن قضية الطائرات وما رافقها من تهديدات وخطابات تصعيدية من الطرفين هي مؤشر إضافي إلى تدهور العلاقة بين واشنطن وأنقرة. من الواضح أن قناعة الطرفين بضرورة الحفاظ على الشراكة الإستراتيجية والمصالح الكبرى المشتركة باتت مشوبة بالريبة، فتركيا تبحث عن مكانتها خارج المظلة الأميركية، ولا ترغب في أن يقتصر وجودها على لعب دور وظيفي تحدده الإستراتيجيات الأميركية. ومن ناحيتها تحاول واشنطن تقزيم الدور التركي، وإبقاء أنقرة في حالة الحاجة الدائمة إلى مشاريع التسليح الأميركية.
سبق تصريح إردوغان قضية إلغاء صفقة الغواصات بين فرنسا وأستراليا بضغط أميركي، والإعلان عن تشكيل حلف «أوكوس» الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة، كلاً من بريطانيا وأستراليا التي فوّتت على فرنسا أكبر صفقة في تاريخها والتي تُقدر بـ 66 مليار دولار أميركي. يمكن وصف ما حصل بالأزمة التي تشبه الزلزال، وهو الأمر الذي وضع العلاقات الأطلسية في مخاض الاختبار مجدداً.
ثارت ثائرة فرنسا، وانعكس ذلك في أدبيات خطابها الرسمي الذي هيمنت عليه عبارات من قبيل: «طعنة في الظهر»، «خيانة»، و«كذب»، ودعا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الأوروبيين إلى التفكير ملياً بالتحالفات في المستقبل، مؤكداً أن الثقة بين الحلفاء باتت في طور الانهيار.
تدفع فرنسا ضريبة توجّهها الدائم لتحشيد القوّة الأوروبية وإعادة تنظيمها في إطار أوروبي الهُوية، وفي هذا السياق تندرج الدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي موحّد


أصاب ما حصل هيبة فرنسا في الصميم، وعمّق الخلافات بين ضفتَّي الأطلسي، وكرَّس النهج الأميركي الأحادي في التعامل مع الحلفاء، وأعاد إلى الواجهة من جديد شعار «أميركا أولاً»، فعلى الرغم من كونه شعاراً رفعه الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب، إلا أنه بالفعل يمثل سياسة الدولة الأميركية العميقة. أقصت الولايات المتحدة باريس من معادلاتها التي تسعى إلى ترسيخها في المحيطين الهادئ والهندي، بغية تطويق الصين واحتواء ما تثيره من مخاطر وتهديدات على المصالح الحيوية الأميركية. وفي سبيل ذلك أيضاً، أعلنت واشنطن عن بناء حلف «كواد» أو ما بات يُعرف بالناتو الآسيوي الذي يضم كلاً من أستراليا واليابان والهند إلى جانب الولايات المتحدة.
تدفع فرنسا ضريبة توجّهها الدائم لتحشيد القوة الأوروبية وإعادة تنظيمها في إطار أوروبي الهوية، وفي هذا السياق تندرج الدعوات الفرنسية التي كان آخرها على لسان الرئيس الفرنسي ماكرون لإنشاء جيش أوروبي موحّد، ما يعني بالفعل تقويض الدور الأميركي في قيادة الشراكة الأطلسية. وهذا بالتحديد ما لم ولن تسمح به أميركا، لأنه يسلبها إحدى أدوات الهيمنة العسكرية. فالناتو مصلحة أميركية استراتيجية كبرى، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الأميركي بايدن في قمة الناتو الأخيرة، إذ إنه شدّد على أن: «الناتو مهم جداً للمصالح الأميركية، ولو لم يكن موجوداً لكان علينا إيجاده».
لا يرجح أن يكون بوسع فرنسا - البلد الوحيد في العالم الذي لديه حضور بري في مختلف المحيطات والبحار- مواجهة ما يتمخّض عنه التفرد الأميركي من استئثار في صنع القرار داخل الناتو، أو الخروج من المظلة الأميركية التي تحكم سيطرتها على المجال الأوروبي، خصوصاً في ظل الانقسامات داخل الفضاءات السياسية في القارة العجوز، إذ إن واشنطن تُتقن اللعب في مساحات التناقض بين الإمبراطوريات الأوروبية القديمة المتناحرة والتي لا تزال تبحث عن إرثها لاستعادة دور الريادة على المسرح الأوروبي، وهذا ما يقود إلى الفرضية التي ترجّح بقاء الولايات المتحدة على رأس حلف الناتو في المدى المنظور.
على المقلب الآخر، ثمة تهديدات فعلية تواجه الناتو وقيادته الأميركية. منها ما يرتبط بالعناصر المكوّنة للحلف، فمن التآكل في الأسس الجذرية التي تقوم عليها العلاقات الأميركية – التركية، إلى محاولة باريس المستمرة لأَوربة الحلف، أو خلق إطار آخر يضم الجيوش الأوروبية، بالإضافة اإى التباين العميق أحياناً في الرؤى إزاء العديد من القضايا الدولية. كلّها عوامل تُسهم في إضعاف اللحمة الداخية للناتو، وتمنح فرصاً أقوى للخصوم من أجل الاستثمار في عوامل الاختلاف ومساحات التناقض. وثمة تهديدات خارجية باتت أشد تأثيراً من أي وقت مضى خلال العقود الثلاثة المنصرمة بعد انهيار حلف وارسو. فروسيا الباحثة عن استعادة المكانة، تستحوذ اليوم على العديد من ركائز القوة التي تدفعها إلى منع الناتو من التوسّع شرقاً، وتحجيم دوره الدولي. وهذا ما تشي به الخطوات التي تنتهجها موسكو، والتي أفضت إلى ضم شبه جزيرة القرم، وتكثيف التواجد العسكري على الحدود مع أوكرانيا، فضلاً عن التدخل المباشر في الحرب السورية، وبناء قواعد عسكرية في المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط. وكذلك تستخدم موسكو سلاح الطاقة للتوغّل في العمق الأوروبي، وتُشيّد مسارات مشتركة مع العديد من دول الناتو، أبرزها ألمانيا التي ستحصل على الغاز من روسيا بموجب مشروع «السيل الشمالي 2».
كذلك فإن الصين الصاعدة تمثل خطراً فعلياً يحدق بالمركز الأعظم الذي تحتله الولايات المتحدة في النظام الدولي، وفي سبيل احتوائها تستنفر واشنطن جميع أدواتها وأذرعها الفاعلة، ومنها حلف الناتو. تشكل مبادرة الحزام والطريق مدخلاً رئيسياً لبكين نفذت من خلاله إلى العديد من دول حلف الناتو، ويتبع ذلك تشابك ضخم في العلاقات الصينية – الأوروبية على المستوى الاقتصادي، ما دفع الأدميرال روبرت بيرك قائد القوات المشتركة للناتو للقول: «اليوم، يملك الصينيون السيطرة على 12 ميناء في أوروبا، إنه تحدّ مقلق لأمتنا ومستقبلنا». وتحقق الصين تقدماً ملحوظاً في سوق الدفاع الأوروبية، فبكين باتت تصدّر العديد من صناعاتها العسكرية إلى دول من أعضاء الناتو، وليس آخرها صربيا التي اشترت طائرات صينية من دون طيار.
نظّر العديد من الخبراء الإستراتيجيين في واشنطن لضرورة بسط الهيمنة الكاملة على أوراسيا بوصفها محور العالم الجيوسياسي، ومن هؤلاء زبيغينو بريجنسكي الذي اعتبر أن الرهان الجيوسياسي الأساسي لأميركا هو القارة الأوراسية. في أوراسيا 75% من سكان العالم، وفيها أوفر الثروات المادية وموارد الطاقة، وتضم أيضاً اكبر الاقتصادات في العالم. إلا أن فيها أيضاً أخطر وأكبر المنافسين للولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً. أخذت الإستراتيجية الرامية إلى توسيع الناتو هذه التنظيرات في الحسبان، واعتبر صانعو القرار في واشنطن أن إحدى الوسائل الضرورية للسيطرة الأميركية على العالم هي إحكام القبضة على رقعة الشطرنج –أوراسيا- التي تدور عليها المعركة للسيطرة على الساحة الدولية. ولكن أمام التحديات التي يواجهها حلف الناتو، وإزاء التحولات الدولية الكبرى الحاصلة اليوم، هل ما زال حلف «شمال الأطلسي» قادراً على الاضطلاع بهذه المهمة وتحقيقها بنجاح، أم أنه وكما يصفه البعض يواجه موتاً دماغياً؟
* باحث لبناني