من المهم جدّاً أن تعرف شعوب منطقتنا حقيقة الصراع الذي تخوضه، وأن تحدّد أين تقع المعوّقات التي تحول دون تقدّمها وتطورّها. لأن هذا التعريف هو الذي يجب أن تبني شعوبنا على أساسه قراءتها السياسية الواضحة التي ستنتج مباشرة تفريقها للعدو عن الصديق، وتنظيم أولويّاتها، وتحديد استراتيجية المواجهة، أي أن تبني فهمها الواقعي للتناقض الرئيسي القائم. فإذا أصابت شعوب منطقتنا بتعريف حقيقة الصراع الذي تخوضه، استطاعت أن تصيب باستراتيجية المواجهة، وإذا أخطأت صار العكس.
غلاف مجموعة شعرية لجسيكا هيلين لوبيز عن منشورات جامعة نيو مكسيكو

خلال عشرات السنين الماضية، سعت إدارة الولايات المتّحدة الأميركية جاهدة إلى طمس حقيقة الصراع في منطقتنا عبر أدواتها المختلفة. واشتدّت هذه المحاولات شراسة خلال السنتين الماضيتين في لبنان، أي منذ بدء حراك 17 تشرين، الذي ظهر أن اليد الطولى في تنظيمه وتحريكه هي لجماعات مستحدثة، شغلها الشاغل أن ترسي سردية أن مشكلات كل مجتمع هي مشكلات داخليّة، لا شأن لسياسات الهيمنة الأميركية بها. فبحسب هذه السردية، تكمن مشكلة لبنان فقط بسياسات طبقته السياسية الحاكمة التي تنتهجها بكل استقلالية. وكذلك مشكلة فلسطين هي مشكلة تخصّ الفلسطينيّين وحدهم، وأن الكيان الصهيوني يشكّل تهديداً للفلسطينيّين فقط، والمشكلة المحصورة بينه وبينهم هي أن «إسرائيل» كيان فصل عنصري، فإذا ما غيّرت سياستها العنصرية في أي يوم من الأيّام وعدّلت نظام حكمها واستبدلته بآخر يقوم على أسس مدنيّة، انتفى أثر الكيان السلبي وبالتالي انتهت المشكلة الإسرائيلية التي لا تؤثّر سلباً أساساً على لبنان أو سوريا أو مصر أو العراق أو الأردن أو كل شعوبنا العربية والإسلامية، أيضاً بحسب هذه السردية.
فلنطل على بعض تجارب تاريخنا المعاصر كي نفحص مدى صحّة هذه القراءة، لعلّنا أيضاً نعطي جواباً وافياً على السؤال عن طبيعة المعوّقات التي تحول دون التنمية الحقيقية في مجتمعاتنا.
فلنبدأ بتجربة ثورة يوليو في مصر عام 1952. من أولى الإجراءات التي اتخذتها قيادة الثورة حينها، هي قانون الإصلاح الزراعي الذي يقضي بإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين، ضاربة بذلك سطوة الإقطاع المصري على غالبية الأراضي المصرية في ذلك الزمن. هل حُلّت مشكلات الفلاح المصري بعد إقرار هذا القانون ووضعه حيّز التنفيذ؟ لم يحصل ذلك بشكل فوري. يعود ذلك إلى أن النهوض بالقطاع الزراعي والإنتاجي بشكل عام، يستوجب مقدّمات رئيسيّة أخرى إلى جانب توزيع الأراضي بشكل عادل على فلّاحيها. من بين هذه المقدّمات الإلزامية، يأتي في مقدّمتها استصلاح أراضٍ للزراعة عبر جرّ المياه إليها، بالإضافة إلى توفير البذور والآلات اللازمة، وكل المواد الأولية الضرورية. ذلك كلّه دفع قيادة يوليو إلى التفكير بالشروع ببناء السد العالي للاستفادة من مياه النيل في استصلاح أراضٍ زراعية جديدة، والنهوض بالقطاع الزراعي وبالتالي تحقيق تنمية حقيقية. لكن بناء السد العالي وتوفير المستلزمات الزراعية الأخرى، يحتاج إلى تمويل ضخم. لذلك لجأ الرئيس جمال عبد الناصر في بداية الأمر إلى البنك الدولي لتأمين هذا التمويل. فاصطدم مباشرة بأول عائق حاول إيقافه عن الاستمرار في مشروع التنمية الذي يقوده. حيث قوبل بشروط سياسية وضعتها الإدارة الأميركية ومعها إنكلترا على مصر، مقابل موافقة البنك الدولي على إعطاء قرض التمويل لمشروع السد العالي الذي إذا تم إنجازه سيحقق نموّاً كبيراً في القطاع الزراعي المصري، رافعاً بذلك المستوى المعيشي للفلاحين. لم يُذعن عبد الناصر لهذه الشروط، فانتقل الأميركيون والإنكليز إلى محاولة بث الخلاف والشقاق بين مصر والسودان ودول أخرى، مصوّرين أن عبد الناصر سيقوم بحرمان هذه الدول من حقّها في الاستفادة من نهر النيل إذا ما أتم المشروع. سقطت هذه المحاولة الفتنويّة، واستمرّ عبد الناصر بالبحث عن التمويل لمشروعه التنموي الكبير، بعد أن وجد نفسه على رأس دولة بلا موارد ماليّة بفعل النهب المستمر الذي كان قائماً لثروات بلده من قبل الغرب المستعمِر. هنا اتّخذ قراره باسترجاع قناة السويس عبر تأميمها، ويؤمّن من خلال عائدات القناة مورداً ماليّاً كبيراً. مباشرة قامت إنكلترا وفرنسا ومعهما الكيان الصهيوني بشن عدوانهم الثلاثي في محاولة أخرى للوقوف في وجه المشروع الناصري النهضوي، الذي انتهى بانتصار الشعب المصري وتحقيق إرادته بالنهوض بقطاعات بلده الإنتاجية، فارتفع المستوى المعيشي للفلاح وعموم الشعب المصري.
المعوّقات الحقيقية أمام نهضة شعوبنا وبنائها لمشروعها التنموي، هي معوّقات صادرة عن الهيمنة الأميركية في منطقتنا


فلنأخذ تجربة أخرى شبيهة بالتجربة الناصرية ألا وهي تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران. منذ انتصار الثورة عام 1979، دأب المحور الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية إلى عرقلة تقدّم إيران في مختلف المجالات، تارةً من خلال سياسة فرض العقوبات المالية والحصار الاقتصادي التي تهدف إلى تجفيف مصادر الدولار الأميركي عن الجمهورية الإسلامية الذي يُعد السبب الرئيسي في تدهور سعر صرف عملتها المحلية في مقابل الدولار، مع كل توابعه من ازدياد الصعوبة في شراء المواد الأولية اللازمة، المسعرّة بالدولار أصلاً، لمختلف الصناعات، مما يحتّم انخفاض المستوى المعيشي عند المواطنين. وطوراً عبر المحاولات المستمرة في ثني إيران عن التقدّم في برنامجها النووي الذي يُعد مدماكاً أساسيّاً في نهضة الجمهورية الإسلامية التنموية في كل قطاعاتها الإنتاجية، من خلال التهديدات الأميركية والإسرائيلية الدائمة بشن عدوان عسكري، والأعمال الأمنية التي تستهدف العلماء النوويّين منذ عشرات السنين، وأيضاً الأعمال الأمنية الأخرى التي تضرب مرافق حيوية في إيران.
وتجربة أخيرة نذكرها في هذا السياق هي الأحداث التي جرت في لبنان خلال السنتين الماضيتين والتي يتوضّح يوماً بعد يوم حجم الدور الأميركي الكبير في تجفيف تدفق الدولارات إلى لبنان، والإيعاز إلى أدواتهم سحب أموالهم إلى خارج البلاد، والعمل على إفقاد الثقة بأي جدوى للاستثمار في هذا البلد لمنع تدفّق عملة صعبة جديدة، وحتى التدخل السافر لمنع إرساء الحلول لأي أزمة من الأزمات المتلاحقة إلا مقابل شروط سياسية تضمن أمن كيان العدو.
كل هذه التجارب التي ذكرنا تبيّن لنا أن المعوّقات الحقيقية أمام نهضة شعوبنا وبنائها لمشروعها التنموي الذي سينعكس إيجاباً على مستوى معيشتها، هي معوّقات صادرة عن الهيمنة الأميركية في منطقتنا. حتى أن الطبقة السياسية الموجودة في لبنان وغيره من البلدان التي لا تنتمي إلى القوى الوطنيّة، هي كلّها تقف في صف الهيمنة. لا بل إن سبب وجودها هو الهيمنة عينها، ولا استمرارية لها من دونها. وما جرى في أفغانستان مؤخّراً بعد الانسحال الأميركي، من مشهد انهيار وهرب القوى التي حكمت أفغانستان خلال فترة الاحتلال، يؤكّد أن الهيمنة الأميركية ليست فقط داعمة لهذه القوى، وإنما هي شرط من شروط وجودها واستمراريّتها. وممّا تبيّنه هذه التجارب أيضاً، أن من الأدوات الأساسية لفرض السيطرة الأميركية على منطقتنا ونهبها لثروات شعوبها هي وجود الكيان الإسرائيلي وقيامه بدور القاعدة العسكرية المتقدّمة لمحور الهيمنة في قلب المنطقة.
إن كلّ ما تقدّم يوصلنا إلى حقيقة لا مفر منها. أن الصراع القائم في منطقتنا هو صراع بين شعوبها المسلوبة ثرواتها من جهة، وبين لصوصية الهيمنة التي نهبت هذه الثروات. والتناقض الرئيسي نجده بين هذه الشعوب وتلك الهيمنة، الذي أفرز بدوره كلّ التناقضات الأخرى التي تندرج في خانة النتيجة المنبثقة عن التناقض الأوّل.
من هذه النظرة لحقيقة الصراع، ينبع تنظيم الأولويّات الذي يعبّر عنه حزب الله. فالصراع القائم في لبنان ليس إلا جزءاً لا يتجزأ من الصراع القائم في المنطقة، بين محور المقاومة من جهة ومحور الهيمنة من جهة أخرى، مهما حاول البعض أن يحرفه ويفصله عن محيطه الطبيعي من خلال إلباسه لبوساً نضاليّاً مطلبيّاً جذّاباً. هي معركة تحرّر يخوضها الحزب مع حلفائه في المحور لاستعادة ثروات شعوبنا المنهوبة من قبل الإدارة الأميركية المدعومة بالبلطجة الإسرائيلية. لهذا السبب يرفع حزب الله مسألة المقاومة والمعركة الكبرى مع كيان العدو إلى رأس سلّم أولويّاته. ليس حبّاً بالحرب والموت كما تحاول الأدوات الأميركية أن تصوّر، وإنمّا لاتّباعه استراتيجيّة معالجة الأسباب، وليس استراتيجيّة معالجة الأعراض والنتائج التي لن تخلّصنا من تخلّفنا عن ركب النهوض والتنمية. ولاتّباعه استراتيجيّة استعادة الثروات ومن ثمّ توزيعها بشكل عادل، وليس استراتيجيّة التوزيع العادل للقليل من ثرواتنا الذي تركه لنا محور الهيمنة. في هذا السياق أيضاً وضمن هذا الفهم، يأتي التشديد الدائم من قبل حزب الله على التحاور والجلوس مع الأطراف السياسيّة في لبنان لتنظيم الخلاف كي لا تنجر المقاومة إلى اقتتال داخلي مع إفرازات التناقض الأساسي، فيرتاح المُهَيمِن المسبّب لكل أزماتنا، وتُبنَى عليها أحقاد داخل مجتمعاتنا لا تمحوها عقود من الزمن.
* باحث اقتصادي لبناني