التبادل والسياسةمع التغييرات السريعة التي تحصل في مجالات العولمة والتقنية وموازين القوى، لا يعود بالإمكان استخدام المقاربات القديمة (وإن كانت تبدو صحيحة وبديهية في وقتها) لفهم وضع العالم المتقلّب. سأستخدم هنا مثالاً من التجارة الدولية. دونالد ترامب كان يستخدم وجود عجزٍ تجاريٍّ كبير في التبادل بين الصّين وأميركا على أنه دليلٌ على «استغلالٍ» صينيّ لأميركا وسوقها المفتوح. وهو منطقٌ يراود أيضاً الكثير من العرب الذين يفكّرون في التجارة الدولية عبر المنظور التقليدي، حيث يعبّر عجزٌ تجاري بين دولةٍ وأخرى عن «نزيفٍ» للقيمة من طرفٍ إلى آخر.
في الحقيقة، أوّل ما سيخبرك به الاقتصاديون اليوم هو أنّك، في سوقٍ تعولمت فيه سلاسل الإنتاج والقيمة وأصبحت موزّعة عبر المحيطات، فإنّ عليك أن تنسى النموذج القديم عن التجارة البينية (bilateral trade) وشروطه. أوّلاً، نحن لم نعد في عالمٍ يملك كلّ بلدٍ فيه مخزوناً من الذهب أو الفضّة، ينقص ويزيد بحسب استيراده وتصديره. أميركا، مثلاً، تطبع أوراقاً هي عملتها وترسلها إلى الصّين وتحصل مقابلها على سلعٍ وخدماتٍ حقيقيّة، كانت ستستلزم مليارات ومليارات ساعات العمل الإضافية في كلّ سنة لو أراد الأميركيّون إنتاجها بأنفسهم، وهذه كانت ستنقص من استهلاكهم وثروتهم.
من ناحية أخرى، حين تراقب الصادرات بين بلد (أ) وبلد (ب)، فإنّ الكثير من قيمة هذه الصادرات لا تكون فعلياً من البلد (أ) كما كان الحال في الماضي حين كنا ننظر إلى التجارة بين بلدين كأنها نظامٌ معزول. سأشرح: يقول الاقتصادي يوكون هوانغ إنّك ستجد في العلاقة البينيّة للصين مع أميركا فائضاً تجارياً كبيراً لصالح الصين، وصل إلى ما يزيد على الـ300 مليار دولار. هذا صحيح. ولكنك إن نظرت إلى العلاقة بين الصين ودول شرق آسيا الثريّة، فإنّك ستجد مقداراً قريباً من ذاك الرقم، ولكنه يستحيل هنا إلى عجزٍ صيني لصالح اليابان وكوريا وتايوان. والسبب ببساطة هو أن الكثير من الصادرات «الصينية» إلى أميركا هي عبارة عن مكوّنات آسيوية (عالية القيمة) تصدّر إلى الصّين، ثمّ يُضاف إليها مكونات أخرى ويتم تجميعها وتصديرها إلى أميركا وغيرها (وبالإجمال، لا تجد في تجارة الصين مع العالم الخارجي فائضاً هائلاً كما يتخيّل الكثيرون، نسبةً إلى حجم تجارة الصين والصورة الرائجة عنها كـ«مصنع العالم»).
ما المعنى السياسي لذلك؟ يعني أنّ كلام ترامب عن عزل الصين أو خفض حجم الصادرات منها كان سيعني، مباشرة، انخفاضاً مماثلاً في صادرات كوريا واليابان وتايوان، وهي ستكون كارثة اقتصادية حقيقية على حلفاء أميركيين وعلى أميركا نفسها (ناهيك عن تأثيره على الاقتصاد العالمي). من هنا تبدأ كلفة «الحرب التجارية»، ومن هنا نفهم لماذا تستمرّ الصادرات الصينية إلى أميركا رغم العداوة، وأن الأمر ليس مؤامرةً أو «تمثيلية» بين الطرفين (التفسير المفضّل للسياسة الدولية عند الكثير من المحللين العرب). على الهامش: أنا عندي نظرية بأنّ بيجينغ، أصلاً، تراهن على أن النخب السياسية الغربية لن تتمكّن من عقد إجماعٍ على قرارٍ حقيقي بعزل الصّين، بسبب كلفته العالية عليهم وعلى الاقتصاد الدّولي، وأن لا رئيساً سيرغب بأن يحصل ذلك في عهده (وأنّ ترامب كان استثناءاً). والرهان في بيجينغ هو أن يستمرّ هذا التردّد، والالتهاء بالأحلاف العسكرية والمظاهرات الدبلوماسية (التي لا تعني شيئاً في هذا المضمار)، حتى تحقق الصين السيادة التكنولوجية الكاملة وتصبح السلع الوحيدة التي يمكن للغرب حرمانهم منها هي سيارات المرسيدس وفول الصويا.
الفكرة هنا هي أن الثابت الوحيد في عصرنا، والخطوة الأولى لفهم الواقع العالمي، تبدأ بالنظر إلى حالة الإمبريالية اليوم (أو الرأسمالية المعولمة، سمّها ما شئت إن كنت تعتبر تعبير «الإمبريالية» مثيراً للسخرية): نظام الدولار، الهيمنة العسكرية، التبادل غير المتكافىء، تراتبية السلطة في المحفل الدولي. ولكنه ليس من السهل أن تنقد منظومةً وأنت جزء منها، أو تعتاش عليها وترى الأمور من منظارها. قدّم كاتب يساري أميركي فكرة ذكيّة عن طريقة نقاش الإمبراطورية في الوسط الأميركي: حين يقوم مثقفون قريبون من المؤسسة بالكتابة عن الإمبراطورية الأميركية ومستقبلها، فهم غالباً ما يلجأون إلى مقارنات شكليّة عابرة للتاريخ، كأن يقارنوها بالإمبراطوريات البريطانية والرومانية ويستلهمون العبر و«القوانين التاريخية» من صعود وسقوط الأسلاف (ما قيمة مقاربات كهذه في السياسة الدولية المعاصرة؟ وما علاقة السياق العالمي الحالي بعالم المتوسط في القرن الأول للميلاد؟)؛ أو يلجأون لمقاربات ثقافوية وأخلاقوية (حيث يصبح الصراع الدولي هو عبارة عن تبشيرٍ بقيم وثقافات نحملها ضدّ أشرارٍ ينكرونها). وهم يفعلون ذلك لعجزهم عن دراسة الإمبريالية الأميركية الحالية وتحليلها كما هي، أي مصالحها الفعلية ونظرتها إلى العالم وأسلوبها في حكمه. هذه العمليّة تفسّر أيضاً سلوك الكثير من الناشطين السياسيين في لبنان والبلاد التي حوله تجاه هذا الصراع، وكيف يرون هذه الأمور أو لا يرونها. هنا، بالمناسبة، من الأصدق بكثير أن تقول أنّك مندمجٌ في حربٍ أهلية أو رحلة طموحٍ فرديّ، وأن الإمبريالية فيها هي حليفك، وأنك ستستخدمها وتجعلها تستخدمك قدر المستطاع، من أن تقول أنها غير موجودة، أو أن خصومها يلعبون معها «تمثيلية» ويخدمونها في حين أنّك أنت، بالذات، من يعرف التعامل معها.

الخرق العسكري
مفهوم الهيمنة العسكرية في عصر الإمبراطورية لا يعني فقط أن تمتلك القوة المهيمنة الجيش الأكبر والأقوى، بل أن «تتحكّم» بمستوى العسكرة حول العالم، وانتشار التقنية العسكرية، وأي سلاحٍ يُتاح للحلفاء والخصوم ومن بينهم. هذا يجري عبر وسائل متعدّدة، منها السيطرة على سوق السلاح التجاري حول العالم. بعد الحرب الباردة، استحوذت أميركا على غالبية سوق السلاح العالمي، والهدف هنا هو ليس فقط التكسّب من الصادرات، بل منع نشوء صناعات عسكرية مستقلّة تموّل نفسها بنفسها من بيع السّلاح (حين تكون 90% من الدول الثرية في العالم تشتري حصراً السلاح الأميركي، لا يعود للبديل الروسي أو الصيني مجال للمنافسة، بغض النظر عن كفاءته وسعره). النظرية لدى الإمبراطورية هي ليست أن تخوض على الدوام حروباً ومعارك، تخرج من أكثرها ظافرة، بل هي أن لا تضطر لخوض المعركة من الأساس، أو أن تكون الحرب محسومةٌ سلفاً، لأنها قرّرت مسبقاً شكل المعركة وجيش الخصم (حرب العراق 1991 مثالٌ على ذلك). لاحظوا، هنا، نوعية السلاح التي كان الأميركيون يقدمونها للجيش الأفغاني، وهي لا تصلح فعلياً إلا لتسليح الميليشيات التي نراها تجوب القفار في الأفلام عن نهاية العالم والحضارة - أو تسليح الجيش اللبناني مثلاً.
من هنا، فإن انتشار التقنيات العسكرية و«التحديات» الفعلية للجيش الأميركي في أكثر من بقعةٍ في العالم هو من أبرز علائم بداية الانحدار للقوة المطلقة (هو من عوارض ومسببات الانحدار في آن). ما فعلته الصين، مثلاً، هو أنها منعت أميركا من الضغط عليها عسكرياً في محيطها المباشر. هذا لا يعني أن الجيش الصيني سينتصر في حربٍ تقليدية محدودة في بحر الصين (وهذا يمكن أن يحصل حتى بين قوى نووية)، بل إن الحرب لا يمكن أن تجري ضمن الشروط التي يقبل بها الجيش الإمبراطوري: سيتم إغراق سفن وضرب قواعد ومقتل آلاف الجنود، وستتعرض القوات الأميركية لوسائط هجومية لا تملك القدرة على منعها أو صدّها (إن كانت اسرائيل لا تستطيع أن تلغي خطر صواريخ حماس، فماذا ستفعل أميركا في وجه الصواريخ الصينية؟) حتى بداية الألفية، كان الوضع العسكري مختلفاً تماماً، وأي حرب تجري حول تايوان أو في بحر الصين الجنوبي كانت ستنتهي بهزيمة سهلة للبحرية الصينية وسلاح الجو، وكانت واشنطن بالفعل تستفزّ الصين باستمرار، وترسل دوريات وتتحرش بالسفن والطائرات الصينية وتتحداها بأن تقوم برد عسكري ما. هذا كلّه تغيّر اليوم.
أميركا لن تخرج أبداً من الشرق الأوسط، بل ستظل حولنا في كلّ مكان. ستحاول دوماً أن تدير دفّة الأحداث في هذه المنطقة الاستراتيجيّة، وستظلّ منطقتنا محطّ اهتمامها


هذا تحقّق، أساساً، عبر استثمارات هائلة بذلتها الحكومات الصينية في السنوات الثلاثين الماضية (من الأبحاث إلى تطوير الأنظمة الدفاعية وصولاً لإنشاء أضخم أحواض لبناء السفن والغواصات في العالم). وبعد تمكّن الصين من تصنيع محركات نفاثة متقدّمة، تكون تقريباً قد حصلت على السيادة التكنولوجية الكاملة في المجال العسكري، ولا تحتاج إلى استيراد أي مكونات أساسية من روسيا أو الغرب. التركيز أصبح الآن على «المستقبل» ومحاولة استدخال تكنولوجيا المستقبل الجديدة قبل الأميركيين، كالصواريخ الفرط-صوتية أو تكنولوجيا الكمّ (تقنيات الـquantum ليست مفيدة في مجال تأمين الاتصالات ونقل المعلومات فحسب، بل هي تعد بقفزات حقيقية في المجال العسكري. نظرياً، مثلاً، يمكنك عبر تقنية الكمّ أن تبني جايروسكوباً لا يراكم أي أخطاء. أي أنه يمكن أن توجّه صاروخاً بدقة متناهية من غير الاعتماد على أي مصدر توجيه خارجي - إشارة من قمر صناعي مثلاً).
هذا ينطبق أيضاً على القوى الأصغر. كان من المفترض أن تكون ضربة عين الأسد برهاناً ساطعاً عن معنى التفلّت، وإن جزئياً، من احتكار الإمبراطورية، وأين يمكن أن يصل برنامج صواريخ لبلد صغير بعد ثلاثين سنةٍ (قضى الكثيرون أغلب هذه الفترة وهم يسخرون منه). «عرض القدرات» ذاك يختزن خلفه عدّة مراحل شاقّة وصعبة: أن تحصل على تقنية الصواريخ، ثم تتمكن من تصميمها بنفسك وتطويرها، ثمّ أن تحلّ مشكلة الدّقّة، إلخ. المجال الثاني الذي وصل فيه الإيرانيون إلى تقدّم له تأثيرات عسكرية كبيرة، على مستوى المنطقة، هو في تصنيع الرادارات الحديثة وأنظمة الدفاع الجوي (الدفاع الجوي هو أساساً رادار وسوفتوير، والباقي تفاصيل).
سأعطي مثالاً عملياً: منذ أكثر من سنة، كشفت إيران عن صاروخٍ جديد اسمه «حجي قاسم». هو من عائلة الصواريخ الدقيقة التي ضربت عين الأسد، ولكنه أكبر حجماً ويستخدم مواد خفيفة تزيد من مداه، وأعلن الإعلام الحربي أن مدى الصاروخ هو 1400 كيلومتر. المدى هنا ليس عشوائياً، بل له معنى واضح: القدرة على ضرب اسرائيل من إيران بصاروخٍ تكتيكي؛ ومن هنا نفهم أيضاً لماذا سمّي على اسم قاسم سليماني. إيران تقدر على ضرب إسرائيل منذ زمن، ولكن هذا صاروخٌ بسيط، ليس معقداً ومكلفاً مثل «سجيل» ولا هو من تطويرات الـ«سكود» ذات الوقود السائل، الذي يحتاج إلى تذخيرٍ طويل قبل الإطلاق، وعدة شاحنات مرافقة، وتنقله على منصة خاصة، وعليك أن تنصبه عمودياً قبل الإطلاق كأنك ترسله إلى القمر. هو فعلياً يشبه صاروخ راجمة كبير، بوقود صلب، يوضع على شاحنة عادية، ويمكن أن تخبئه في مرآب أو حفرة بسيطة أو أي مكان ثم تخرجه ليطلق الصاروخ في دقائق. هو، أيضاً، لا يحتاج إلى «مدن صواريخ» مكلفة وتحفر في بطون الجبال (هدفها الأساسي هو تأمين صواريخ الوقود السائل أثناء تذخيرها وإطلاقها)، بل يمكن ببساطة نثره بأعداد كبيرة في عشرات أو مئات المواقع المموهة.
من هنا أيضاً نفهم أهميّة شخصيّات تاريخية مثل عماد مغنيّة. في البلاد الصغيرة التي لا تملك قدرات الصين أو روسيا، فإن الجهود الجماعية، وحدها، لا تكفي لتحقيق «النقلة النوعية» في وجه عدوٍّ كاسح التفوّق. في هذه الحالات أنت تحتاج أيضاً إلى أناسٍ أفذاذ، أفرادٍ مثل عماد مغنية وطهراني مقدّمي وجياب (تُلفظ «زياب» بالمناسبة)، يحققون في مجالٍ تنظيمي أو حربي أو تقني كان مستحيلاً قبلهم. أفرادٌ لا يمكنك أن تُخرجهم من الصورة ويظلّ مسار التاريخ كما هو. وكما قال كلاوسفيتز عن العبقرية العسكرية، فإن هذا النمط من الناس لا يمكن أن تستولده أو تدرّبه أو تتنبّأ بقدومه. المسألة فيها ببساطة حظٌّ وتوفيق، بين أن يُحرم بلدك من شخصيّات كهذه تبني عقيدته العسكريّة، وبين أن يرسل القدر إليك أناسٌ مثل عماد مغنيّة، جاؤوا من خارج الواقع والسّياق.

هل تخرج أميركا؟
قرأت خبراً طريفاً يتعلّق بموضوع الغواصات النووية التي تنوي استراليا امتلاكها، ضمن حلفٍ عسكري مع أميركا وبريطانيا واليابان في منطقة المحيط الهادىء. يبدو أن اليابان هي الأخرى تفكّر بامتلاك عددٍ من الغواصات النووية، ويدور فيها نقاشٌ حول الموضوع، ولكن إحدى العقبات التي تواجه البحرية اليابانية هي في قلّة عدد المتطوّعين للخدمة. الشباب اليابانيون، بشكلٍ عام، لا يميلون للخدمة العسكرية، ويبدو أنهم يتجنبون بشكلٍ خاص الخدمة في سلاح الغواصات، والسبب هو أن البقاء فترات طويلة تحت الماء يمنعهم من استخدام هواتفهم الذكية. و(أنا، بالمناسبة، أصبح لدي أخيراً هاتف ذكي، أعطاني إياه أصدقائي لكي يتواصلوا معي، وأعتقد أنهم قد ندموا على ذلك - لا أعتقد، هم قالوا لي بوضوح أنهم ندموا على ذلك).
أميركا، إذاً، ترسم هندستها الأمنية الجديدة في شرق آسيا لمواجهة الصّين، وتؤدّب الحلفاء الفرنسيين الذين حادوا عن الخطّ وتكلموا عن استراتيجية دفاعية فيها بعض الاستقلالية. أهداف الحليفين متشابهة، بالمناسبة، حتى لا يتصوّر أحد أنه سيحصل «انشقاق». ومبادرات فرنسا مبنية على ورقة نشرتها الحكومة عن نظرتها لمنطقة الهادىء/ الهندي، تقول فيها بوضوح أن الأولوية هي لمجابهة الصّين، وأن لفرنسا الحق في الوجود العسكري هناك بسبب امتلاكها لجزرٍ وأراض. هنا أيضاً شيء طريف في المنطق الذي تستخدمه فرنسا، كأن شيئاً لم يحصل لمكانتها في القرن الماضي، حين تصرّ بأن احتفاظها بممتلكات من الحقبة الاستعمارية، على طريقة جزر «والّيس وفوتونا»، يعطيها الحقّ بأن يكون لها أساطيل وقوة عسكرية في الجانب الآخر من العالم.
النقاش المقابل للتركيز الأميركي شرقاً هو الكلام الدائم عن الخروج/ الانسحاب الأميركي من منطقتنا. وأصبحت لازمة يكررها الكثيرون كأنها واقع، بأن أميركا «خرجت» أو هي في طور الخروج النهائي وترك الإقليم. في الحقيقة، وبالمعنى العميق، أميركا لن تخرج أبداً من الشرق الأوسط، بل ستظل حولنا في كلّ مكان. ستحاول دوماً أن تدير دفّة الأحداث في هذه المنطقة الاستراتيجيّة، وستظلّ محطّ اهتمامها. حتّى لو قلّت أهمية النفط نسبياً، بل حتى ولو لم تعد للنفط قيمة (وهذا لن يحصل في حياتنا على الأقل)، الموقع الجغرافي وحده يجعل من الإقليم محط نظرٍ دائم للقوى العظمى. من جهةٍ أخرى فإن أميركا ستظلّ موجودةً، ليس فقط عبر السفارة وأحزابها، والمنظمات والتمويل الذي اخترق كل المجتمعات «المتنازع عليها»، بل أساساً عبر القوى الاقليمية التابعة لها وأدواتها المحلية. وهذه أكبر دولٍ عربيّة وأكثرها ثراءً وإمكانات، والرهانات التي تسوقها في دول الاقليم والحروب بالواسطة قد تصبح أكثر حدّةً، وقد تضع الجماعات التي ترعاها في مواجهات صفريّة داخل دولها. حتّى بالمعنى العسكري، فإنّ المنطقة تحتضن (إضافة لإسرائيل) بعضاً من أكبر القواعد الأميركية وأهمها في العالم، وهي لن تتخلى عنها في وقتٍ قريب.
ما يحصل هو التالي: واشنطن اتّخذت قراراً بعدم الاشتباك العسكري في منطقتنا خلال المرحلة القادمة. بمعنى آخر، أميركا لن تشعل حرباً، ولن تدخل مواجهة واسعة، ولن ترسل جيشها مجدداً إلى المنطقة - إلّا في وجه تحدٍّ لا يمكن السكوت عنه. هذا جلّ ما في الأمر. غير أنّ هذا العامل المستجدّ، على بساطته، من الممكن أن ينتج تأثيرات سياسية هائلة إن فهم البعض مغزاه وكيفية استخدامه. حين تضع واشنطن سقفاً على اشتباكها في الإقليم، هو الحدّ العسكري، فإن مشاريعها وخططها ستستمرّ، ولكن لن يعود في وسع الأميركيين أن «يرسموا القواعد» التي تسير عليها كلّ دول المنطقة. هذه القدرة على تقرير قواعد اللعبة والخطوط الحمر هي بنت الدخول العسكري الأميركي إلى المنطقة، حيث صار بإمكانها وضع لائحةٍ بالشروط التي يجب على الجميع الالتزام بها: بعضها يتعلق بشكل النظام وسلوكه الداخلي، وبعضها الآخر بالعلاقات بين الدول وداخل الإقليم، وبعضها يصل إلى الاقتصاد والبرامج الدراسية. خير تعبيرٍ عن تلك الدينامية كان تحذير الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، حين قال عبارته الشهيرة لنظرائه العرب، عن أن يقوموا هم «بالحلاقة» بدلاً من أن تحلق أميركا لهم. الفكرة هنا هي أنّك إن هاجمت جارك من غير إذن، أو قمت بانقلابٍ غير مرغوبٍ به أميركياً، أو حاولت بناء قنبلة نووية، فإنّ أميركا ستمنعك، وهذا النوع من السلطة لا تحوز إليه إلا حين يكون في نهاية الطريق تهديدٌ قابل للتصديق بالحملة العسكرية وتغيير النظام.
حين لا تعود أميركا قادرة على كتابة القواعد وفرضها، ووضع حدودٍ على ما يمكن أن تفعله داخل منطقتك، نصبح في سياقٍ سياسي مختلف تماماً. بل يصبح من الممكن أن يتم «إعادة كتابة القواعد» من جديد، وإن كان ذلك لن يحصل من غير مسارٍ طويل وصراعٍ مرير. أوّل من يجب أن يفهم هذا التغيير هم رجال أميركا في بلادنا، فالداعم لم يعد جيشه هنا، وهو لن يعود من أجلك مهما حصل (هل يمكن أن يحصل أكثر من أن تستلم طالبان أفغانستان مجدداً؟). البعض من هؤلاء ينتشي مؤخراً بالتمويل المتزايد والاهتمام من كلّ صوب، وبالصوت الإعلامي القوي والانتصارات الوهمية. هم لا يعرفون أن أيّاماً سيئة جداً تنتظرهم.
*كاتب لبناني من أسرة «الأخبار»