ليست هذه المقالة عن مارون بغدادي، لكن يمكن أن تكون عنه. مارون بغدادي كان أوّل مخرج تقدّمي، أو هكذا عرّفته لنا الصفحات الثقافيّة في جريدة «السفير» في سنوات الحرب. روَّج له سمير نصري في «النهار» وكل من كتب عن الفن والثقافة في «السفير». كان أوّل مخرج يخاطب الرجل الأبيض في الغرب، وتبعه كثيرون وكثيرات. حتى الذي يلقي تعليقات على يوتيوب من لبنان بات يضع «ترم» من الإنكليزية لكلامه. لعلَّ الرجل الأبيض يلفت له. أفلام بغدادي باتت متوّفرة مؤخراً على «نتلفكس». لا أدري كيف تقرّر «نتفلكس» ما الذي تشتريه من أفلام عربيّة وما الذي تعرضه وتبرزه. طبعاً، كل ما يصدر عن الغرب من اهتمام ثقافي أو فني مشبوه، لأنه لا يقيس من دون حسبان النظرة الصهيونيّة. شاهدتُ قبل أيام فيلم «كلّنا للوطن» لمارون بغدادي. تذكّرته عندما خرج إلى النور في حينه لأنه قيل لنا آنذاك إنه نال جوائز متعدّدة، منها جائزة الإبداع في المهرجان السينمائي في مدن أو بلدات أوروبيّة لم أسمع بها في حياتي (هل هناك لبناني، غيري، لم ينَلْ جوائز عالميّة؟ حتى محلّ قصّ الشعر الذي كنتُ ارتاده في بيروت (جو شلّيطا) كان يضع شهادات تقدير وجوائز عالميّة على جدران محلّه). والفيلم من تمويل وإنتاج الدائرة الإعلاميّة للحركة الوطنيّة، أي إنه ممهور بالموافقة الرسميّة لقيادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. (لم نكن ندري في حينه أن للحركة الوطنيّة دائرة إعلاميّة لأن اعلامَها كان متخلّفاً جداً عن إعلام القوى الانعزاليّة. لكن، للأمانة، كان الإعلام الانعزالي خاضعاً لإشراف إسرائيلي مباشر، وهذا سمح لـ«صوت لبنان» أن تكون الأقوى والأبرز في الأثير. وفي التحضير لتنصيب بشير الجميّل صعد نجم «إذاعة لبنان الحرّ» التي كانت منبره الخاص). ما علينا، لنعُدْ إلى مارون بغدادي أو إلى القسم المنسي المبتور من جسم الوطن. أذكرُ فيلم «كلّنا للوطن»، وإن كنت لم أرَه من قبل. لم أكن متحمّساً لإعلام أو فن القوى الوطنيّة باستثناء أغاني مارسيل خليفة وزياد الرحباني وخالد الهبر. أذكر من الفيلم تلك الأغنية الجميلة لمارسيل خليفة «يا علي» لعباس بيضون. ليس من أغنية لخّصت معاناة أهل الجنوب أكثر منها. ينسى البعض في لبنان، بحكم الهوس المؤامراتي بالسلاح الذي يزعج إسرائيل، أن الجنوب وأهله عانوا لعقود طويلة ــــ لا بل قرون ــــ من الإقطاع الشيعي المحلّي. والفيلم هو تصوير لمرحلة اجتياح عام ١٩٧٨. ننسى أن إسرائيل اجتاحت لبنان في عام ١٩٧٨. عندما نقول «الاجتياح» أو قبل «الاجتياح» أو بعده لأنه أرّخَ لما قبله ولما بعده، نعني اجتياح عام ١٩٨٢. إن وحشية اجتياح عام ١٩٨٢ (الذي تسبّب بقتل نحو ٢٠ ألف ضحيّة لبنانيّة وسوريّة وفلسطينيّة، وجلّهم من المدنيّين) أنستنا وحشيّة الاجتياح التمرين الذي وقع في عام ١٩٧٨. أذكر أيام الاجتياح وأذكر كيف أننا في أحزاب اليسار والمقاومة الفلسطينيّة ذُهلنا لحالة عدم الاستعداد. ربما نحن الذين عشنا تلك التجربة لا نستطيع أن نتعامل بخفّة مع حرب تمّوز، عندما صدّت قوات مقاومة من كوكب ليس هو الأرض قوّات الاحتلال الإسرائيلي على مدى أكثر من ثلاثة وثلاثين يوماً. تجربة حرب تمّوز علّمتنا حجم تقصير وفشل قوات الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة، وقد توفّرَ لهما مساعدات وسلاح من عدد كبير من الدول العربية والاشتراكيّة. في عام ١٩٧٨، لم تكن هناك خطة موحّدة أو تنسيق (ولم يتحسّن الأمر، طبعاً، بحلول عام ١٩٨٢، بالرغم من أن عرفات كان دائم التحذير من اجتياح إسرائيلي لم يكترث في الإعداد له). لا نبالغ لو قلنا أن تحضّر قوات المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة في ١٩٧٨ و١٩٨٢ لم يكن أفضل حالاً من حالة الجيوش العربيّة في نكبة فلسطين. كان هناك خيرة من العقول العسكريّة والقيادات والعناصر المدرّبة أفضل تدريب والتي لم تكن تفتقر للشجاعة لكن القيادة السياسيّة للمقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة لم تكن تريد أن تكون جادة في مواجهة إسرائيل أو في تحرير الأرض. كان عنوان المرحلة هو المراوحة والانتظار: ياسر عرفات يلعب دبلوماسيّاً، وكان يتبعه في الهوى محسن إبراهيم وجورج حاوي ووليد جنبلاط، والأخير لم يكن يهتم بما يجري حوله إلّا إذا كان يتعلّق بإقطاع العائلة في الجبل.
الاجتياح كان وحشياً مثل كل اجتياحات وتوغّلات وغارات العدوّ. أذكر الفوضى التي صاحبت الردّ على الاجتياح. قوات هائلة انسحبت نحو بيروت بأمر من القائد العام الذي توسّمَ خيراً كثيراً من إدارة كارتر وكان له معها رسائل عبر وسطاء (مثل إدوار سعيد). فوضى هائلة وقوّات أصيبت بقصف في انسحابها والكل يتساءل ــــ كما سيتساءل مرة ثانية في عام ١٩٨٢ ــــ لماذا لم تُعدّ خطة مواجهة أو دفاع مُنسّقة وموّحدة. حاولت مجموعات من بيروت، بمبادرة منها ومن دون خطط عسكريّة، الرحيل نحو الجنوب للدفاع عنه لكن طيران العدوّ أصابها، وأذكر رفيقاً لي أصيب قرب الدامور. والفيلم المذكور صوَّر تلك المرحلة. لكن مضمون الفيلم كان إهانة للجنوب وأهله. صوّرهم بغدادي كما يصوّر السياح الغربيّين أهل بلادنا. لا، صوّرهم مارون بغدادي كما كان الرحالة يصوّرون أهل بلادنا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في عريهم وخصوصيّتهم وفي مراحل معيشتهم. لا أدري ما الذي أعجب الدائرة الإعلاميّة في الحركة الوطنيّة كي تتبنّى هذا الفيلم المقيت وتجعله الناطق الرسمي باسمها في الكرنفالات الوطنيّة حول العالم. مارون بغدادي تعامل مع أهل الجنوب كما تعامل رينوار مع المسلمين في لوحته «الجامع». هم كتلة رخوة لا ملامح للأفراد فيها. هم جمع، ولا يمكن التعاطي معهم إلا بالجمع، على طريقة الاستشراق الغربي في الحديث عن العرب. هم مثل الشارع العربي الذي يسمع عنه كثيراً المقيم والمقيمة في ديار الغرب. مارون بغدادي صوّر أهل الجنوب كما رآهم: غرباء عن وطنهم. هم لـ«الفرجة» والفيلم هو «صندوق الفرجة». انظروا وانظرن: أهل الجنوب يغسلون ثيابهم وينحرون السواعير بساديّة، وهم متعوّدون على الذباب على وجوه أطفالهم. مارون بغدادي هو مثل ديميانوس قطّار أو جبران تويني أو سامي الجميّل وهم يتحدثون بعنصريّة الرجل الأبيض عن السود: هؤلاء لا يشبهوننا. هؤلاء يقيمون هنا لكن لا ينتمون إلى الوطن الذي ننتمي إليه. ظنّ بغدادي، وظنّ رعاته في الحركة الوطنيّة، أن الفيلم أعطى أهل الجنوب حقَّهم بعد الاجتياح. لا، الفيلم أمعن في إهانتهم من خلال تصويرهم كغرباء عن وطنهم. استحسن بغدادي تصوير كل مَن لم يرَ فيه، أو فيها، شبيهاً بما يراه خارج الجنوب. والذباب، الذباب. كم استحسن بغدادي تصوير الذباب على وجوه أهل الجنوب. الذباب كان العنوان الفرعي للفيلم: «كلنا للوطن، حتى هؤلاء الجنوبيّون الذين يستحسنون استضافة الذباب على وجوههم». والفيلم يضيف إلى الإهانة بتصوير مؤنسَن لجنود الاحتلال. ترونهم هادئين يعزفون الكمان، يضفون على الجنوب مسحة من الحضارة والفن. أما الأهالي، فهم يحدّقون في الكاميرا واجمين. ليسوا من هذا العالم.
الذين يتحدثون بخبث عن استراتيجيّة دفاعيّة بديلة... يستسهلون نزع السلاح الذي حمى ويحمي الجنوب، ويردع «إسرائيل»، لأنهم لا يكترثون لمصير الجنوب وأهله. لقد ورثوا نظرة النظام اللبناني التقليدي إلى المنطقة وبنيها


هذا كان الجنوب منذ تأسيس الجمهوريّة. استعانت الطبقة الحاكمة بأسوأ نماذج الإقطاع، خصوصاً في شخص كامل الأسعد. قد نكون ندين لكامل الأسعد في زعامته للجنوب لأنه ضمن أنه آخر سليل للإقطاع في جنوب لبنان. كامل الأسعد مسؤول عن صعود حركات اليسار والقوميّة العربيّة في الجنوب لأنه بعنجهيّته ورجعيّته واستعلائه واحتقاره للأهالي لم يترك مجالاً خارج خيار الثورة والتمرّد. وكامل الأسعد كان سفير الطبقة الحاكمة لشؤون قمع الجنوب وأهله ومنع حركات التمرّد والثورة عنه. هو كان الوجه الشيعي القبيح لدولة القهر الطائفي والطبقي. وهذه الدولة اعتبرت أن الجنوب هو مسؤوليّة إسرائيليّة (نعلم اليوم من وثائق أميركيّة أن الدولة اللبنانيّة في عهد شارل حلو وسليمان فرنجيّة كانت تنسّق لضرب المقاومة مع جيش العدوّ الإسرائيلي).
الجنوب وأهله منفّرون في الحديث الصريح والمُضمر عن لبنان وعن سياسات الحكم. لكن هناك مسافة توضع دوماً بين المتحدَّث وبين أهل الجنوب. هم الآخر، ولو كان المتحدَّث جنوبياً ممن أصابه الوعي خلافاً لبني قومه. كانوا في الماضي «متاولة»، والصفة كانت تعييريّة من قبل غير الشيعة. حاول الشيعة التخفيف من وطأتها عبر العودة إلى إيتيمولوجيا الكلمة وتجميلها. والجنوب كان ولا يزال مشكلة يجب التخلّص منها، كما كان الصهاينة يتحدّثون عن غزة. إسحاق رابين أراد رميها في البحر. نادر الحريري في حرب تمّوز تحدّث مع إعلاميّة لبنانيّة وبشَّرها بأن إسرائيل سترمي بشيعة الجنوب نحو سوريا. مسألة أيّام، تمنّى. الخطاب الحالي، قبل وبعد الانتفاضة (هل ما زالت مستعرة؟) يشير إلى «بيئة المقاومة» أو جمهورها. لا تسمع عن بيئة أحزاب أخرى. البيئة هو فصل بين شعب وبين أقليّة فيه. البيئة تصف خواص لأقليّة لا تعاني منها الأكثريّة. هي مثل جمهور السود في عقل البيض في المجتمع العنصري الأبيض.
قد يأخذ مؤيّدو الثنائي هذا التوصيف والاعتراض لزيادة منسوب مظلوميّة تنمو في صفوفهم. والمظلوميّة مرفوضة بنظر أعداء الثنائي لأن الحزب يملك صواريخ، وبعضها بتقنيّات التوجيه الذكي. لكن هل تؤثّر الصواريخ على توازن القوى السياسي المحلّي، وهل تصلح الصواريخ في معارك الحرب الأهلية وهي مواقع قريبة وملتحمة؟ المظلوميّة للثنائي تترافق مع احتفاليّة بهويّة طائفيّة وعامليّة. تجد اللهجة الجنوبيّة اليوم مُستعملة على المواقع. هذا تمرّد على نمط غابر كان فيه الجنوبي يعمد إلى محو لكنته المميّزة. وكان شيعة الضاحية ينظرون باستعلاء نحو المهاجرين من الجنوب: مثل الأفارقة في أميركا الذين ينظرون باستعلاء نحو الأفارقة ـــ الأميركيّين. لكن هذه عوارض لقدرة مجموعة من الناس على الاحتفال بحريّتها في التعبير، مثل الاحتفاء الفائض عند السود هنا بكل ما له علاقة بأفريقيا حتى لو لم يكن الأفارقة أنفسهم يأبهون له. وكلّما عبّرت الأكثريّة الطائفيّة في لبنان عن احتقارها نحو طائفة، كلّما اعتدّت الطائفة بنفسها. لكن الاحتفاء بالطائفيّة عبر شعارات «شيعة، شيعة» يزيد من الفرقة ويرسم علامات المسافة التي يريدها المعادون لتلك الطائفة. لهذا تحظى هتافات «شيعة، شيعة» بتغطية محمومة على المواقع والشاشات التي تتلقّى التمويل، هذه الأيام، من أميركا والإمارات. هتاف «شيعة، شيعة» يخدم من يريد فصل الشيعة عن الوطن.
الجنوب كان عبئاً في زمن منظمة التحرير. واللوم اليوم يقع على منظمة التحرير، من قبل الأهالي ومن قبل الآخرين. جعلوا من منظمة التحرير جسماً خارجاً عن الجنوب، والشعب الفلسطيني لجأ إلى الجنوب ولبنان قسراً وليس طوعاً. العدوّ أشرف على مسيرات الموت والرحيل، أي عمليات تطهير وقلع عرقي في ١٩٤٨. لكن الجنوبيّين كانوا في صلب منظمة التحرير. هناك تاريخ منسي عن انضواء الأهالي في جسم المنظمات الفلسطينيّة. كان الأهالي، أو الكثير منهم، يتلقون الرواتب من فصائل المقاومة الفلسطينيّة حتى اجتياح ١٩٨٢. فصائل منظمة التحرير كانت تعجّ باللبنانيّين وكانت مخيّمات التدريب مليئة بأهل الجنوب من الشيعة. والتحم الشعب اللبناني والفلسطيني معاً في مواجهة أعداء مشتركين، من السلطة اللبنانيّة العميلة للاحتلال (والوصف هذا تقني بعد نشر وثائق أميركية عن التواطؤ بين الجيش والحكومة اللبنانيّة وبين جيش العدوّ في سنوات ما قبل الحرب وما بعدها) إلى جيش الاحتلال الذي لم يترك الجنوب وأهله يوماً منذ ١٩٤٨. كان أهل الجنوب غرباء، لأن حزب الكتائب ارتأى أن الشعب الفلسطيني وكل من يناصر قضيّته هم غرباء. أي إنهم خارج الوطن. ومرتكبو المجازر الطائفية والعرقية، ضد لبنانيّين آخرين وضد فلسطينيّين، هم في صلب الوطن. حركة «أمل» في أواخر السبعينيّات نجحت في فصل أهل الجنوب عن الشعب الفلسطيني. والحديث عن تجاوزات فصائل المقاومة الفلسطينيّة وعن أحداث يتجاهل أن الكثير من هذه التجاوزات قام بها شيعة جنوبيّون ممن كانوا في صفوف المقاومة الفلسطينيّة. لم يكن هناك فوارق قبل عام ١٩٧٦. والصيغة في جعل أهل الجنوب غرباء لم تتغيّر إلا قليلاً.
كيف بات أكبر حزب لبناني، أو أكبر حزب في العالم العربي، حزباً إيرانيّاً؟ مثل أن الجنوبيّين كانوا غرباء في السبعينيّات هم أصبحوا إيرانيّين اليوم. هؤلاء الذين يتحدّرون من قبائل العرب والذين حملوا لواء عروبة لبنان باتوا إيرانيّين. لماذا إيرانيّون؟ لأن مصدر سلاح المقاومة هو إيران. ولو تكلمنا عن أحزاب أخرى بهذا القياس، لقلنا إن حزب الكتائب هو حزب إسرائيلي، مثله مثل القوات اللبنانية والوطنيين الأحرار و«حراس الأرز». لكن هؤلاء بالفعل هم أحزاب إسرائيليّة. كان بشير الجميّل (أبرز من ظهر فيهم برأيهم) مجرّد أداة إسرائيليّة. لقد كان صبحي الطفيلي أداة إيرانيّة، لكن هل من يظنّ أن حسن نصر الله، مثلاً، يتلقّى الأوامر من السفير الإيراني في بيروت أو من وزير الخارجيّة الإيراني؟ يكفي أن تنظر إلى الصور، حتى تلك التي تجمعه مع قاسم سليماني، كي تدرك المراتب في المحور «الإيراني» المذكور. وسامي الجميّل يصف الحزب الذي نال أكبر عدد من الأصوات بأنه خارج المشروع اللبناني: الحزب الذي ترعرع ونشأ في كنف الموساد وجيش الاحتلال الإسرائيلي يصنّف اللبنانيّين بمعيار الوطنيّة. لكن هؤلاء يتحدّثون عن ناس لم يروا يوماً أنهم منهم.
والثنائي الشيعي الطائفي يمكن أن يساهم في دعم سرديّة عزل الجنوب من خلال التوقع الطائفي والانعزال. إن التفكير، مجرّد التفكير، بحلول مناطقيّة لمعالجة الأزمة المعيشيّة الخانقة هو إسهام في عزل أهل الجنوب. إن فكرة «الهلال الشيعي» وردت في مشروع اللوبي الإسرائيلي قبل أن ترد كتحذير على لسان الملك الأردني عبد الله. كان خيار قوقعة الشيعة وعزلهم عن باقي العرب خطة صهيونيّة وقد وقعت فيها قوى شيعة الاحتلال في العراق. وفي لبنان يكون الردّ على تلك الخطط الخبيثة التي تنطلق من مصلحة إسرائيل في الإصرار على العروبة (الحقّة وليس تلك التي تنطلق من الرياض وأبو ظبي لصالح العدوّ) وفي رفض القوقعة الطائفيّة (الإصرار على وزارة الماليّة لشيعي ولو كان ذلك بتسمية من رياض سلامة هو نموذج عن تلك القوقعة).
إن الحديث الخبيث عن القضاء على سلاح المقاومة أو عن استراتيجيّة دفاعيّة بديلة عن المقاومة ليس إلا نتاج عقليّة اعتبار أهل الجنوب دون المستوى (هل قرأ أحدكم خطط الاستراتجيّة الدفاعيّة التي أعدّها ميشال سليمان مثلاً؟ الرجل الذي لم يرَ من ساحات الوغى إلا مواجهة مع الطلاب عندما كانت المخابرات السوريّة تكلّفه بقمع ذلك التحرّك أو ذاك. وخطة ميشال سليمان الدفاعيّة مفادها أنه يمكن إطلاق زخّة رصاص ضد جنود العدوّ في حال اعتدوا على لبنان. بجد، هذه خطة سليمان هذا. حتى بطرس حرب أعدّ مذكرة بهذا الشأن). هؤلاء يستسهلون نزع السلاح الذي حمى ويحمي الجنوب، ويردع إسرائيل، لأنهم لا يكترثون لمصير الجنوب وأهله. هؤلاء ورثوا نظرة النظام اللبناني التقليدي نحو المنطقة وبنيها. التقدميّون من بين هؤلاء يقترحون أن ترحل المقاومة الطائفيّة الحاليّة وأن نحلم بأمجاد «جمّول» كطريقة مواجهة ضد عدوان إسرائيل. طبعاً، تحمل مبادرات وحملات التشنيع بالمقاومة أجندات لا ترتبط بلبنان (بل ترتبط تحديداً بالتحالف السعودي ـــ الإماراتي ـــ الإسرائيلي ـــ الأميركي) لكنها تستفيد من احتقار الجنوب من قبل قطاع عريض في الطبقة السياسيّة والشارع السياسي الليبرالي الإن.جو.أوزي. ويستعين الخطاب المعارض لمقاومة إسرائيل بأفراد شيعة جنوبيّين كي يصبح خطابهم أكثر مصداقيّة. وهؤلاء الشيعة مرابطون إما في دبيّ أو في بيروت في وسائل إعلام تابعة للمحور الصهيوني المذكور أعلاه. وهؤلاء يتحدّثون عن الشيعة باحتقار أكبر من الاحتقار الذي يبدر عن رعاتهم لأن هؤلاء مُطالبون بتعلية النبرة الاستعلائيّة كشرط وظيفي: لهذا تجد أن الشيعة العاملين في وسائل إعلام السعودية والإمارات أكثر طائفيّة (ضد الشيعة) من غيرهم وأكثر بكاءً على مظلوميّة السنة في لبنان والمنطقة كأفضل طريقة لإثبات الولاء.
هم دون المستوى. الثقافة الشعبيّة تتذكّرهم مزارعي تبغ وعتّالين وعمّال تنظيفات ومنازل، وهذه المهن في عرف المجتمع اللبناني ومعاييره مهن وضيعة. هم الذين رأى فيهم مارون بغدادي ناساً استوطن الذباب على وجوههم. هم فرجة للسائح الأجنبي إذا كان يساريّاً، وقباحة للسائح الأجنبي الآخر. هم ليسوا مشروعاً محليّاً. كانوا فلسطينيّين وأصبحوا إيرانيّين. لماذا لا يرحلون ويتركون المدن الساحليّة بفنادقها ومسابحها ومقاهيها؟ لماذا لا يتركون الوطن لأهله. وإسرائيل تستطيع أن تعتني بالجنوب، كما اعتنت به قبل ولادة المقاومة الحاليّة. عندها فقط، نستريح ويستريح الوطن.

* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@