يغلب على مناهج البحث في الحقل العريض للعلاقات الاقتصادية الدولية، وخاصة في «نظرية التجارة الدولية» ونظرية «التكامل الاقتصادي»، الطابع الوضعي الذي يستعير المنهج السائد في بحوث العلوم الطبيعية ويحاول تطبيقه على العلوم الاجتماعية بحيث تبدو العلوم الطبيعية والاجتماعية – رغم اختلاف موضوعها – علوماً (وضعية). كما وُجِدت محاولة لنقل طابع العلم الوضعي إلى «الإنسانيات»، خصوصاً الدراسات الأدبية واللغوية والفلسفية والنفسية، من حيث استخدام الأساليب التجريبية، ممثلة بصفة أساسية في منهج الاستقراء، كمقابل للمنهج الاستنباطي المستخدم في العلوم الرياضية.وأهم ما ينتج عن الطابع الوضعي، إضفاء صفة «الحياد» على النظريات المفسّرة للظواهر محل البحث واعتبارها خالية من «القيم» أي غير ذات محتوى إيديولوجي، ومن دون حمل اتجاهات فكرية بعينها.
ينسحب هذا الطابع الوضعي، على «نظرية التجارة الدولية» السائدة، والتي تقوم على مفهوم «المزايا المتبادلة» سواء أخذت صوره المزايا المطلقة عند آدم سميث، أو «المزايا النسبية» عند ريكاردو، أو تباين نسب الوفرة في عوامل الإنتاج بين الدول، كما في النظرية السويدية لهيكشر وأولين ونظرية هابرلر في «نفقات الاختيار» أو «التكلفة البديلة» – بل وكذلك الحال في ما يتعلق بمفهوم «المزايا التنافسية» لمايكل بورتر.
في جميع هذه «النسخ» من النظرية السائدة للتجارة الدولية، تعتبر «المزايا المتبادلة» بين الدول – بغض النظر عن أي اعتبار آخر – هي العامل المفسّر الأساسي للتجارة الخارجية. هكذا الأمر أيضاً بالنسبة إلى نظرية التكامل الاقتصادي السائدة، والتي تقوم بصفة عامة على النزعة «الوظيفية» التي تركّز على الجوانب الفنية التي تمثلها عمليات ومراحل التكامل المختلفة التي تتباين من حيث «الوظيفة» التي تؤديها. وبعبارة أخرى، فإنها تركز على الوسائل أكثر من النظر إلى الغايات البعيدة المرتبطة بطبيعة النظم الاجتماعية وما تمثله من قيم فكرية أو مثاليات فلسفية.
وبذلك نجد أن نظرية التكامل تقوم على افتراض مجموعة مراحل تدرّجية، لكلّ منها وظيفة تُسْلِم إلى ما يليها، ابتداء من «التفضيل التجاري» إلى «منطقة التجارة الحرة» ثم «الاتحاد الجمركي»، وبعده «السوق المشتركة» فالاتحاد الاقتصادي الذي يتلوه الاندماج الكامل بين الوحدات السياسية المعنية. ولكل من هذه المراحل والعمليات وظيفة (فنية) محددة لا تتعداها وإن كانت تمهّد لما يليها، حيث تبدأ المسيرة التكاملية بخفض الحواجز الجمركية المتبادلة في حالة «التفضيل التجاري» ثم تنتقل إلى تحرير التجارة المتبادلة من القيود الجمركية وغير الجمركية في مرحلة «منطقة التجارة الحرة». وبعد ذلك يتم إقامة حائط جمركي مشترك تجاه العالم الخارجي في حالة «الاتحاد الجمركي»، تمهيداً لتحرير تدفّقات الأشخاص ورؤوس الأموال في «السوق المشتركة»، ومن بعد ذلك، ترتبط التدفّقات الحرة لكل من السلع والأشخاص ورأس المال بإقامة «منطقة نقدية مشتركة» أو «اتحاد نقدي»، وانتهاج «سياسات اجتماعية مشتركة» ما يقيم سوقاً موحدة أو منفردة بالفعل single market وهذه هي حالة «الاتحاد الاقتصادي»، ويأتي من بعدها اندماج كامل أو شبه كامل، وخاصة بتوحيد أسس السياسات الخارجية والدفاعية.
بذلك يتضح أن الاتجاه الوضعي لعلم الاقتصاد الذي انعكس على الطابع «المحايد» لتبادل المزايا كأساس لنظرية التجارة الخارجية، والاتجاه «الوظيفي» لنظرية التكامل الاقتصادي، يمثل النظر إلى التدفقات الاقتصادية باعتبارها منعزلة عن العوامل (الأخرى) كعامل ذي أثر محايد، تطبيقاً لما يُعرف في طرق البحث لعلم الاقتصاد بـ «افتراض بقاء الأشياء الأخرى على ما هي عليه».
تطبيقاً لما سبق، سادت النظرة إلى العلاقات الاقتصادية الخارجية لمختلف الدول باعتبارها بعيدة عن العوامل (الأخرى)، أو يجب أن تكون بعيدة عنها، حتى تحقق أكبر مكاسب ممكنة للأطراف ذات الصلة.
يقوم منهج «الاقتصاد السياسي»، على أن الاقتصاد علم اجتماعيّ يتأثر في المقام الأول بالبنية الاجتماعية للسلطة السياسية والتركيب البنائي للدولة، دستورياً وجغرافياً ومجتمعياً


ولكن في مقابل هذا «التيار الرئيسي» في الأبحاث النظرية للعلاقات الاقتصادية الدولية وجدت اتجاهات أخرى يمكن اعتبارها (فرعية) وأبرزها ثلاثة هي «الاقتصاد السياسي» و«الاتجاه المثالي» و«الاتجاه الاستراتيجي».
يقوم الاتجاه الأول، ويمثله منهج «الاقتصاد السياسي»، على أن الاقتصاد علم اجتماعي يتأثر في المقام الأول بالبنية الاجتماعية للسلطة السياسية والتركيب البنائي للدولة، دستورياً وجغرافياً ومجتمعياً. ولعل هذا ما ظهر منذ أوائل القرن التاسع عشر بصفة أولية في عنوان الكتاب الذي وضعه أحد الآباء الكبار لعلم الاقتصاد، وهو دافيد ريكاردو صاحب كتاب «مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب» (الصادر في 1817). وقد أخذ الاقتصاد السياسي طابعاً جذرياً على يدَيْ كارل ماركس في كتابه (نقد الاقتصاد السياسي) مطبقاً إياه على تحليل «رأس المال» كعلاقة اجتماعية حاكمة للنظم القائمة في الدول الأوروبية الرئيسية، تلك العلاقة التي تؤسس للصراع الطبقي والاستغلال الاجتماعي ممثلاً في مصادرة فائض القيمة التي يخلقها عنصر العمل، لصالح عنصر رأس المال والذي لا يشارك في خلق القيمة الاستعمالية للسلعة، وأنه يعود لنزوح الجزء الأكبر ـــ المتبقي Residual ـــ من القيمة التبادلية بعد دفع الأجور كمقابل نقدي للعمل المأجور.
انطلاقاً من هذه النظرية «الجذرية» للاقتصاد السياسي، نشأ وترعرع في الستينات والسبعينات من القرن العشرين فرع كامل للاقتصاد السياسي الدولي قائم على تحليل علاقة الاستغلال على الصعيد الدولي، انطلاقاً من مقولة «التبادل غير المتكافئ» بين الأمم، ذات الجذور الاشتراكية والتي هي علاقة منعكسة عن «التطور غير المتكافئ» بين دول المركز الرأسمالي في الشمال من الكرة الأرضية، وبين بلدان ومناطق «التخوم» أو «الهوامش» في الجنوب. وهذا ما يسمى بتناقض «المركز والتخوم». وتم التنظير لهذا الاتجاه على أيدي مجموعة من علماء الاقتصاد في أوروبا والعالم الثالث، وخاصة أريجي إيمانويل وإيمانويل والرشتين وسمير أمين. وقد أسس هؤلاء العلماء مدرسة كاملة في مجال أبحاث الاقتصاد الدولي سُميت بمدرسة أو نظرية «التبعية» بالاستفادة من مفهوم «المركز والمحيط» لدى راؤول بريبيش الذي تولى موقع رئيس «اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة لمنطقة أميركا اللاتينية» ECLA في الستينات من القرن المنصرم.
وقد قامت نظرية «التبادل غير المتكافئ» على العامل السياسي الأساسي المتمثل في أثر الماضي الاستعماري على الحاضر والمستقبل الاقتصادي للقارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
أما الاتجاه الآخر في منهج «الاقتصاد السياسي الدولي»، فقد انتشر في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، خلال الكتابات الغربية، وخاصة لدى بعض الدوائر الأكاديمية في جماعة بحوث «العلوم السياسية» ممثلة بصفة خاصة في الجمعية الأميركية للعلوم السياسية ASPS. حيث برز الاهتمام بالربط بين الوقائع الاقتصادية والعوامل السياسية التي اعتُبرت بمثابة إطار تفسيري له قوة إقناعية تجاه العوامل الاقتصادية.
ويجد هذا المنحى جذوره في بعض أدبيات «الاتجاه البنائي ـــ الوظيفي» وخاصة من خلال منهجية البحث السياسي المسماة بطريقة المدخلات ـــ المخرجات، حيث يكون النظام السياسي مسبوقاً بالمدخلات ممثلة في «المطالب المجتمعية»، وملحوقاً بالمخرجات ممثلة في مدى الدعم أو التأييد السياسي ومن حولها جميعاً دائرة «التغذية المرتدة وتمثل البيئة المحيطة بالنظام السياسي.
انطلاقاً من ذلك، نشأ مَيْل متزايد في بحوث الاقتصاد الدولي إلى ربط الوقائع الاقتصادية بالعوامل السياسية، ما ترك أثراً قوياً على تعديل توجهات النظريات التقليدية للتجارة الدولية والتكامل الاقتصادي، في الأدبيات الغربية السائدة. وبالتالي أصبح من المقبول أن يتم الرجوع إلى الميول والاتجاهات السياسية للفواعل المؤثرة في المجتمعات، ومنها الفواعل من الدول وخاصة الحكومات والمجالس التشريعية والهيئات القضائية، والفواعل غير الحكومية وخاصة منظمات المجتمع المدني، بل و«الفواعل ــ غير الدول» سواء منها المؤيدة للدول أو المهدّدة للكيانات السياسية والدول القائمة والتشكيلات العسكرية المزعزعة للاستقرار المحلّي والإقليمي والعالمي.
بعد هذا العرض المسهب نسبياً للاتجاه المنهجي الأول في دراسة علاقات الاقتصاديات الدولية، اتجاه «الاقتصاد السياسي»، ننتقل إلى الاتجاه الثاني وهو ما يسمّى بالاتجاه المثالي Ideal في دراسات العلاقات الدولية والذي يركز على اعتبار المبادئ الكلية والقيم الكبرى المحدد الحاكم والمتغير الرئيسي المؤثّر في اتجاهات العلاقات المتبادلة بين الأمم.
تفرّع عن هذا الاتجاه توجه ما بعد ليبرالي اتساقاً مع الاتجاهات (الـ «ما بعدية») التي سادت بحوث العلاقات الدولية في الثمانينات والتسعينات (مثل «ما بعد النظمية» و«ما بعد السلوكية»... إلخ). ويقترب هذا الاتجاه «ما بعد الليبرالي» مما يسمى بالليبرالية الجديدة، حيث سادت الكتابات الأميركية والأوروبية نزعة ميالة إلى ضرورة فرض مبدأ «حرية التجارة» على المستوى الوطني والدولي، وهو ما انعكس في عملية تأسيس منظمة التجارة العالمية (1993) التي سرعان ما واجهت عقبات جمة نتيجة قوة الميل إلى استخدام «حرية التجارة» كذريعة لفتح أسواق البلدان النامية أمام السلع والخدمات المصدّرة من الدول المتقدمة والأعلى تطوراً وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وقد اتضح ذلك من تعثر (جدول أعمال التنمية) الذي طرح في جولة المفاوضات التجارية في الدوحة، والمسمى «جدول الأعمال الدوحة» طوال السنوات بعد عام 2001، وخاصة على وقع المقاومة الصلبة التي أبدتها الدول النامية بقيادة الصين والهند في وجه المحاولات الغربية الرامية إلى تحرير التجارة في غير صالح العالم النامي.
ونصل إلى الاتجاه الثالث، الاتجاه الاستراتيجي، الذي ينظر إلى العلاقات الاقتصادية المتبادلة والتجارة الدولية باعتبارها مرايا عاكسة للأولويات الوطنية التي ترسمها السلطات السياسية في الدول المعنية، وخاصة في سياق المنافسة الدولية الضاربة والصراعات والنزاعات المنتشرة في العالم المعاصر. وقد اشتد عود التوجه الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأميركية في ثمانينات القرن المنصرم على وقع التفوق الذي حققته كل من اليابان وبعض دول أوروبا الغربية في المجالات التكنولوجية والمالية ومعدلات نمو الإنتاجية، ما دعا إدارة كلينتون في مطلع التسعينات إلى إعلان ما يشبه «الحرب» للانتصار في معركة التنافسية العالمية، لتحقق الفوز الأميركي بموقع الصدارة أمام الجميع، حلفاء وأصدقاء أو أعداء أو تابعين. وقد حقق هذا الاتجاه نجاحات بارزة في النصف الثاني من التسعينات ولا يزال أثرها ممتداً حتى الآن، بصفة نسبية، ولو حتى جزئية بمعنى ما، من حيث تحقيق الصدارة الأميركية في القمم التكنولوجية العليا، برغم بروز وتعاظم قوة أقطاب محتملة وخاصة في شرق آسيا، وبصفة أخص من جانب الصين.
وربما ينبثق الاتجاه الاستراتيجي في أصوله الفكرية من المدرسة «الواقعية» في العلاقات الدولية، التي بلورها «هانس مورجنثاو» عقب الحرب العالمية الثانية (في كتابه الصادر عام 1948 تحت عنوان «السياسة بين الأمم») من خلال مدخل «المصلحة القومية» باعتبار أن هذه المصلحة هي المحدد الرئيسي للسلوك الخارجي للدول. مما سبق نخلص إلى الاتجاهات الرئيسية التالية ذات القوة التفسيرية العالية إزاء العلاقات الاقتصادية الدولية من حيث صلتها بالعوامل السياسية والمجتمعية عموماً:
- الاتجاهات ذات الطابع الوضعي، وتمثل التيار الغالب في الفكر الاقتصادي الدولي السائد.
- الاتجاهات التي قامت بتحدّي التفسير الوضعي للعلاقات الاقتصادية، من مداخل مختلفة بديلة، وأهمها «مدخل: الاقتصاد السياسي» في التطبيقين الاشتراكي والرأسمالي، و«الاتجاه الليبرالي» و«التوجه الاستراتيجي». ويمكن أن نصل مما سبق إلى أنه من الصعب، بل ومن غير العلمي إلى حدّ بعيد، أن ننكر الصلة بين الاقتصاد والسياسة على الصعيد الدولي. لا، بل إنه يمكن اعتبار أن العلاقات الاقتصادية الدولية تتحرك في «بيئة سياسية» بصفة أساسية، وأن انطلاق حركة التجارة الدولية والتكامل الاقتصادي لا بد أن يفترض توفّر حد أدنى معين من التوافق بين الإرادات السياسية والتوجهات النظامية للأطراف المعنية. يتأكد ذلك من تجارب النجاح والفشل في العمليات التكاملية الرئيسية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن. وأبرز قصص النجاح النسبي هو «الاتحاد الأوربي»، بينما تبرز تجربة التكامل الاقتصادي العربي كإحدى قصص الإخفاق. ولكن هذه كلها قضية أخرى.
* أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية في معهد التخطيط القومي في القاهرة