*ثمة حاجة في ظلّ الاحتكام المتزايد للأجندة الخضراء الصديقة للبيئة في العالم إلى تحديد الأولويات التي في ضوئها تُعتَمد سياسات مماثلة، على حساب نظيرتها الخاصّة بالاتّكال المطلق على الوقود الأحفوري. فتخفيض نسبة الكربون المنبعث في الجوّ لم يعُد فقط مطلباً بيئياً أو خاصّاً بأحزاب الخضر في الغرب والعالم، بقدر ما أصبح حاجة للصناعة نفسها، بعدما انتقل التراكم، ومعه القيمة المضافة، من الصناعات الملوِّثة للبيئة (النفط والغاز والطاقة النووية و.. إلخ)، إلى نظيرتها النظيفة والصديقة لها. الثِقَل المتزايد لصناعة الطاقة البديلة في الدول الرأسمالية الكبرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وحتى الصين، خَلَق ما يشبه المركزية الجديدة لهذه السياسات، حيث بدأت تُصاغ انطلاقاً منها أولويات التنمية لدى هذه الرأسماليات، وعلى نحو يتعارض أحياناً مع حاجات الدول التي لم تصل بعد إلى هذا المستوى من التقدّم الصناعي المذهل.
تفاوت الحاجات إلى استهلاك البيئة
حين تمرّ الدول الرأسمالية بمنعطف مماثل، لا تضع جانباً فقط كلّ أنماط التنمية السابقة، ومعها كلّ ما يمكن الاستفادة منه عالمثالثياً، لجهة فوائض النفط والغاز التي لم تُستثَمر جيداً، بالإضافة إلى تقنيات الطاقة النووية، بل تَرْسُم للعالم كلّه، وعلى رأسه الدول النامية، طريقاً إلزامياً للتنمية، تصبح بموجبه هذه الدول مُرغَمة على محاكاة نموذج للتنمية لا يتناسب مع ما وصلت إليه من تطوُّر، على الصعيد الاقتصادي. التراكم الذي تحقّق للدول الرأسمالية طيلة مئة عام تقريباً من إنتاج النفط والغاز هو الذي أتاح لها، ليس فقط التخلّص منه بهذه الطريقة، بل أيضاً الانتقال إلى مرحلة تقوم فيها التنمية على نقيض نموذجه في التراكم، أي على الحفاظ على البيئة وتجديدها بدلاً من تدميرها. ما قاد إلى هذه المرحلة ليس فقط الوعي بأهمية الحفاظ على البيئة، بل أساساً حاجة الصناعة إلى مضاعفة المواد الأولية المُستخدمة في الإنتاج، عبر تحويلها إلى أدوات له أيضاً، بعدما كادت مرحلة الاتكال المطلق على الصناعة النفطية تستنفد معظم موارد الأرض، لجهة اكتشاف محدودية الاستفادة منها، مقارنةً بنظيرتها الخضراء. ليس ثمّة تناسب هنا بين الحاجات الصناعية الرأسمالية وضرورات التنمية في دول العالم الثالث، فالحاجة إلى الحدّ من استهلاك البيئة صناعياً هناك تقابله الحاجة إلى المزيد من استهلاكها هنا، ليس لانعدام الوعي البيئي في هذه الدول، بل لأنها ليست مسؤولة عن استنزاف موارد الكوكب على كلّ صعيد، كما فعل الغرب. وفي حال ساهمت في ذلك، فبشكل محدود لأنها تفتقر إلى البنى الصناعية التي تمتلكها الدول الرأسمالية، والتي بموجبها تحقَّق لها كلّ هذا التراكم الناجم عن تدمير الأرض. الافتقار إلى هذه البنى يجعل الاستنزاف الخاصّ بالتنمية العالمثالثية عن طريق الصناعة النفطية في حدّه الأدنى، أي كما كانت عليه الحال في الغرب في أواسط القرن الماضي، بُعَيْد اكتشاف النفط، هنا. بمعنى أنه سيكون، بالنسبة إلى الدول النامية، بمثابة تراكم بدائي، يسمح بتكوين فوائض أولية تُعين هذه الدول على اللحاق بما فاتها من قطار التنمية، ريثما تصبح لديها بنية صناعية متطوّرة وحديثة، تسمح ليس فقط بالتخلّي عن صناعة الوقود الأحفوري واستهلاكه، بل أيضاً بالانتقال إلى الاستثمار في الطاقة البديلة، ولكن وفقاً لأولوياتها هي، وبما تمليه عليها الحاجة إلى الانتقال، من نمط إنتاج إلى آخر. أي كما فعلت الصين، حين انتقلت من استهلاك النفط والغاز لحاجات الصناعة والتنمية وتقليص التفاوت بين أريافها ومدنها، إلى التخلّي عنه تدريجياً، وفقاً لجدول زمني خاصّ بمراحل التنمية هناك، لا بما يمليه الغرب من أولويات ونماذج للاتباع والإملاء.
حتى الوعي السياسي بقضايا البيئة يبدو عندنا، بالمقارنة مع نظيره في الغرب، لا «بدائياً» إنما غير ذي صلة تماماً بالحاجات الفعلية للتنمية في هذه البلدان


التحايُل على العقوبات
أحياناً تبدو الاقتراحات الخاصّة باعتماد تقنيات الطاقة البديلة من جانب حكومات نامية، وكأنها بديل فعلي عن طرق التنمية التقليدية. وغالباً ما يحصل ذلك في الدول التي تعاني من صعوبات في الوصول إلى موارد الطاقة، حتى حين تكون منتِجة لها. عدم الوصول بسهولة إلى الموارد نتيجةً للعقوبات أو لنضوب السيولة حين يكون البلد تحت تأثير انهيار اقتصادي، يجعل البدائل التي تكون عادةً غير متناسبة مع نمط الإنتاج أو مكلفة أكثر اقتصادياً ، خياراً «أسهل» بالنسبة لهذه الدول. والحال أنّ الرغبة في تفادي العقوبات التي تكون مقترنةً عادةً بالمنع من الوصول السهل والرخيص إلى الموارد التقليدية، لا تكفي وحدها لاعتبار هذه البدائل خيارات فعلية للتنمية، مثلها في ذلك مثل النفط والغاز، أو حتى الطاقة النووية . ففضلاً عن عدم تناسبها مع نمط الإنتاج الحالي لمعظم الدول النامية، فهي أيضاً، وفي حالة الالتفاف على العقوبات، لا تعدو كونها وسيلةً، لتجنّب حرمان هذه الدول من مواردها الأساسية الرخيصة، وإن بكلفة عالية. ما يجب الالتفات إليه هنا ليس خيار الدول الخاضعة لعقوبات باللجوء إلى خيارات اقتصادية غير متناسبة مع نموذجها التنموي، بل منعها من استكمال طرق التنمية الخاصّة بها، عبر نظام العقوبات الغربي، إلى الحدّ الذي يجعلها تفكر، ليس فقط بحرق مراحل التنمية، بل أيضاً بالتخلّي عن هذه الطرق المناسبة لتطوِّرها، لمصلحة نماذج، هي في أفضل الأحوال، بمثابة طرق مستقبلية وبعيدة جداً للنموّ، وفي أسوئها، حاجة للدول الرأسمالية وحدَها، لكي تستكمل عبرها تراكمها، على حساب بقية دول العالم، وتحديداً النامية منها.

طبيعة الوعي المفارِق
حتى الوعي السياسي هنا بقضايا البيئة، يبدو، بالمقارنة مع نظيره في الغرب، لا أقول «بدائياً»، ولكن غير ذي صلة تماماً، بالحاجات الفعلية للتنمية في هذه البلدان. هذا لا يعكس حالةً أكبر من النضج السياسي لدى الأحزاب الغربية بالضرورة، بقدر ما يعبّر عن التناسب بين نمط الإنتاج وإفرازاته الخاصّة بالنشاط السياسي المحايث في كلّ بلد من البلدان. المقارنة هنا غير مجدية، لأنّ ثمة نمطين مختلفين للإنتاج، أو لِنَقُل ثمّة نمط متقدّم على نظيره بكثير، وهو ما ينسحب بدوره على شكل التعبير السياسي عن هذا الفارق. فيصبح لدينا أحزاب خُضُر في الغرب يتطابق وعيها السياسي مع نمط الإنتاج هناك الذي بدأ يتخلّى عن الوقود الأحفوري كطريق أساسي للتنمية، وأحزاب هنا، في اليسار واليمين على حدٍّ سواء، لا تزال منشغلة بالمسألة الزراعية وكيفية استئناف مسيرة التصنيع انطلاقاً منها، بعد القطيعة التي حدثت لها، بعيد الفورة النفطية في السبعينيات من القرن الماضي. حتى النقاش حول دور النفط في التنمية، يبدو مفارقاً هنا للوضع في الغرب، لأنّ الاستفادة منه هناك، ولاحقاً في الصين، كانت فورية، ودفعت بالتراكم الرأسمالي قُدُماً، بينما لم تجنِ الدول النامية ثماره على الإطلاق. وحتى الدول التي استفادت منه، على مستوى الإنتاج والتصدير، لم تحقِّق قيمةً مضافةً منه لمجتمعاتها، يمكن انطلاقاً منها، إحداث تراكم في الصناعة والإنتاج مماثل أقلّه لما تحقّق في دول جنوب شرق آسيا من الإنتاج الصناعي وحده. الوعي السياسي بهذا المعنى، لا يتحدّد سواءً هنا أو في الغرب، أو حتى في الصين، بالتمثيل السياسي حصراً، لأنّ التمثيل نفسه في هذه الحالة، هو تعبير عن نمط الإنتاج بالمعنى الأوسع للكلمة، وما إذا كانت التنمية فيه تحصل بالاعتماد على الموارد الطبيعية في مرحلتها البدائية، أم على سواها، حين تنضب هذه الموارد، ويبدأ البحث عن كيفية الحفاظ عليها، بغرض استمرار عملية التراكم.

خاتمة
مسؤولية الغرب عن نضوب هذه الموارد، على مستوى الكوكب، دفعت بالعملية السياسية هناك إلى اتخاذ هذا الشكل الذي تحتلّ فيه الأحزاب المدافعة عن البيئة مكاناً متقدِّماً، إلى درجة جَعْل النقاش السياسي بكامله متمحوراً حول الحاجة إلى الحدّ من تغيّر المناخ، بحيث تغدو هذه القضية قضية العالم بأسره، حتى لو كانت المسؤولية عنها متفاوتة بشدّة، وكذلك الأمر، الحاجات والأولويات. هكذا، تغدو عولمة قضية البيئة، نتاجاً لعولمة تدميرها رأسمالياً. وهو ما يجعل الحالة المعيارية الخاصّة بها تتسم بمركزية مُفرِطة، لا تجد أغلب الدول النامية نفسها فيها، باستثناء الصين، التي تبدو رغم رأسماليّتها الشديدة أقْرَبَ، في مسعاها للحدّ من انبعاثات الكربون، إلى أولويات الدول النامية الخاصّة بالتنمية، منها إلى تسريع عملية التراكم في مرحلتها الخضراء، بالوتيرة التي يقودها الغرب.
*كاتب سوري