لم تمت القوميّة العربيّة كي نبحث في أسباب وخلفيات قتلها. شُبِّهَ للصهاينة وأنصارها بيننا أنها تعرّضت للقتل أو أنها ماتت ميتة طبيعيّة. أرادَ الصهاينة قتلَها، لا بل الإمعان في قتلها والتمثيل بجثتها. الصهيونيّة عمدت مبكراً جداً إلى شرذمة العالم العربي إلى شيع وقبائل وطوائف وفرق منذ أوائل القرن العشرين. هذا ليس تحليلاً بل هناك وثائق صهيونية تتحدّث عن ذلك. الشعب الفلسطيني تنبّهَ إلى ما يعدّه المستوطنون في أوائل القرن العشرين فردّوا بإنشاء «الجمعيّات الإسلاميّة ــ المسيحيّة» لتفويت الفرصة على الصهاينة لتفرقة صفوفهم وبثّ الفتنة بينهم.
طابع بريدي قطري يعود إلى العام 1965 (philasearch.com)

الشعب الفلسطيني بقيَ على تراصّه ووحدته حتى صعود الحركات الإسلاميّة بين الفلسطينيّين في الثمانينيّات. الصهيونيّة الإسلاميّة كانت خير معين لدولة العدوّ: وقبل أيّام صرّح النائب في كنيست العدوّ وليد طه، عضو الحركة الإسلاميّة، أن حركته لن تنسحب من الحكومة ولو شنّت الحكومة حرباً مدمِّرة ضد أهل غزة. الحركة القوميّة العربيّة لم تخبُ أو تضمر من تلقاء نفسها. لا. هي كانت عرضة لحملة عربيّة رجعيّة ــ إسرائيليّة ــ غربيّة عالميّة على مدى عقدَيْ زمن جمال عبد الناصر، وحتى قبله. الذي يراقب اليوم وحشيّة وحدّة الحرب الغربيّة ــ الخليجيّة ــ الإسرائيليّة ضد حركات المقاومة يدرك كم أن هذا التحالف أنفقَ في حروب ضد القوميّة العربيّة. لم يقلّ عداؤه لها عن عدائه للشيوعيّة، خصوصاً أنه اعتبر ــ على طريقة اليمين اللبناني المتمثّل في «الحلف الثلاثي» في الستينيّات ــ أن القوميّة العربيّة والشيوعيّة صنوان.
كتب اللبناني الصهيوني فؤاد عجمي، مقالة في مجلّة «فورين أفيرز» (عدد 1978 ــ 1979) بعنوان «نهاية القوميّة العربيّة». والمقالة أثلجت قلوب الصهاينة وانتشرت كمقولة رائجة ومفيدة في دوائر الغرب. لكنّ عجمي بقي على مدى سنوات يعيد اجترار المقالة ويكرّر مضمونها، ما يطرح تساؤلات عن حقيقة موت القومية العربيّة إذا كان هناك حاجة دوريّة لإعلان وفاتها وقراءة مرثيّة عنها. الصهيانة عزّزوا الفكرة لأنهم استثمروا في محاربة القومية العربيّة: هم دعموا تحالف الأنظمة الرجعيّة التي حاربت مشروع جمال عبد الناصر الوحدوي، وهم تدخّلوا إلى جانب كل الحركات الانفصاليّة في العالم العربي: الأكراد وجنوب السودان (قبل انفصاله) والانعزاليّون في لبنان. سياسة دعم «الأطراف» كانت في خلق أطراف مبعثرة في الجسم العربي. أنا وغيري لم نعش تجربة «الجمهورية العربيّة المتحدة» لكنّ هناك وثائقَ وكتباً عن تلك المرحلة. لم تكلّ مؤامرات الصهيونيّة ضد تلك التجربة الفذّة. لقد انهزم عبد الناصر في يوم الانفصال في عام 1961، قبل هزيمة 1967 القاصمة. تكالبت شتّى أنواع المؤامرات من أجل تقويض كل تجارب الوحدة العربيّة خصوصاً تلك التجربة الواعدة بين مصر وسوريا. نستطيع أن نُحصي عدداً هائلاً من الأخطاء في تجربة الوحدة: يكفي أن تذكر اسم عبد الحكيم عامر وأنور السادات وارتباطهما بتجربة الوحدة كي تدرك أخطاء التطبيق. نستطيع أن نتحدّث عن أخطاء جسام شابت تجربة الحكم في الإقليم الشمالي، لكنّ التقليل من حجم المخطّطات التي حيكت ضد حركات الوحدة كان جزءاً من المؤامرة عينها. المؤامرة تريد التقليل من المؤامرة وتريد الاستخفاف بالحديث عن المؤامرة، وهذا ما يجري حاليّاً في لبنان. (حتى عندما تكشّف دور أميركا الخفيّ في الحصار والعقوبات وتأثيرها على لبنان بعد إعلان موعد وصول السفينة الإيرانية، هناك من يريد أن يسخر من أي دور للمؤامرة لأن الحصار في لبنان لا يرتقي إلى مرتبة الحصار ضد كوبا أو إيران ــ لكن حتى تلك الدول، تفضّل أدوات المؤامرة نسب المشاكل الاقتصادية فيها إلى الاشتراكية أو سوء الإدارة أو تصدير الثورة. السعودية اليوم هي خامس إنفاق عسكري في كل العالم ــ بعد بريطانيا مباشرة ــ لكنّ ذلك لا يؤثّر على تقييم الوضع الاقتصادي والسياسي في هذه الدولة، لأن الإنفاق السعودي يملأ الخزائن الغربيّة بعائدات النفط التي يُعاد تدويرها. كانت في الماضي تأتي مباشرة لحصالات دول الغرب وهي اليوم تأتي بطريقة غير مباشرة عبر الاستثمارات. محمد بن زايد لم يكن يستطيع أن يزور بريطانيا قبل أسبوع لو لم تصاحبه إعلانات استثمارات بالمليارات).
لا تصدّقوا كلامي. خذوا وخذنَ شهادة خبير الشرق الأوسط في «وكالة الاستخبارات المركزيّة»، أرتشي روزفلت الذي ترك وراءه مذكّرات لم تحظَ باهتمام من قبل المؤرّخين عندنا وعندهم. يعترف روزفلت بداية أن استعداء القومية العربيّة كان خطأ وكان هناك نظرة ساوت بين الخطر الشيوعي وبين خطر القومية العربيّة. لكنّ الشهادة تعطي لمحة عن حجم التآمر. يقول روزفلت في كتابه «شبق المعرفة»: «أتذكّر بوضوح كيف أن نائب مدير الـ «سي. آي. إي»، بير كابل، دعاني لحضور اجتماع لحكماء وزارة الخارجيّة برئاسة وزير الخارجيّة جون فوستر دالس، في عام 1957. وكان هناك قرار قد اتُّخذَ لمجابهة قوى القوميّة العربيّة، خصوصاً النسق الجذري منها والمتمثّل في «الجمهوريّة العربيّة المتحدة» بين سوريا ومصر، عبر الاستعانة بوسائط «حلف بغداد». (كانت صحف الرجعيّة في العالم العربي تسخر من عبد الناصر عندما كان يسخر من خطط «حلف بغداد»). وورد مبكراً في عام 1956 في وثيقة من وثائق أرشيف فريد شهاب أن كميل شمعون كان «متحمّساً» لدخول «حلف بغداد». وفي اجتماع وزارة الخارجيّة المذكور تمّ الاتفاق على إرسال لوي أندرسون إلى الشرق الأوسط لحثّ «العواصم الصديقة» من أجل خلق معارض للجمهورية العربيّة المتحدة. (يعترف روزفلت أنه لم يجرؤ على تسجيل معارضته التي أبقاها في سرّه). لكنّ خطط جون فوستر دالس ماتت بحلول ثورة تموز في العراق في عام 1958. يضيف روزفلت: «لم نتعلّم. نحن نكرّر نفس الأخطاء اليوم إذ إننا نخلط بين التيارات المختلفة للماركسية والقوميّة، وليس فقط في الشرق الأوسط». (ص. 434).
والربط بين قوى الرجعيّة المحليّة (في كل البلدان المعنيّة) وبين التآمر الغربي ليس خيالياً بل هو موثّقٌ من خلال ما أُفرج عنه في الأرشيف. إن الوثائق التي أُفرج عنها في عواصم الغرب تظهر أن الأدوات المحليّة كانت أقلّ قراراً بكثير مما كان يُقال في أدبيات اليسار. في لبنان لدينا وثائق «ويكليكس» لمعرفة مدى خضوع الطبقة السياسيّة العريضة لأميركا ــ نفس الطبقة التي تشكو اليوم من الاحتلال الإيراني. والاحتلال الإيراني هو صيغة أو شعار ضروري من قبل الأدوات التي تحرّكها أميركا وإسرائيل في بلادنا، وهي باتت نافذة ليس فقط في الحكم بل في المعارضة وفي ما يُسمّى المجتمع المدني (وضعت الذراع الفكرية للوبي الإسرائيلي في واشنطن هذا الأسبوع تقريراً يحثّ على دعم وتمويل «المجتمع المدني» كبديل لحزب الله في مناطق الشيعة). ويكفي أن تذكر كم أن العدد القليل من الإعدامات في كلّ عهد عبد الناصر (أقل من عدد الإعدامات في شهر واحد في السعودية في ذلك الزمن) لا يزال يحظى بتعليقات دعاة الليبراليّة السعوديّة-الإماراتيّة في بلادنا. لم تسقط الجمهوريّة العربيّة المتحدة من تلقاء نفسها ــ بصرف النظر عن الأخطاء التي رافقتها، كأن أنظمة الرجعية العربيّة كانت جمهوريات فاضلة ــ بل من جراء التآمر الخارجي المرتبط بقوى الرجعيّة المحليّة.
لا، لا يمكن تصديق إعلان موت القوميّة العربيّة، لكنّ أعداءها استولوا على الحكم، إضافة إلى خشية الغرب وإسرائيل من انتشار هذه العقيدة في أوساط الشعب العربي


لم تمت القومية العربية أو الهُويّة العربيّة. هناك عناصر جامعة بين العرب لا تزال أقوى بكثير من عناصر الجمع والوحدة في أوروبا وفي أفريقيا. اللغة والهمّ والقضايا الكبرى والثقافة والفن والتاريخ والهويّة والمزاج العام لا تزال مشتركة بين كل تلك البلدان. وهذه العناصر لم تضمحلّ أو تموت. واستطلاعات الرأي في العالم العربي (خصوصاً تلك التي يُجريها «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، لأنها الأشمل مع أنها لا تعتمد معايير منهجيّة واحدة في الاستطلاع إذ تلزّم الاستطلاع إلى شركات استطلاع محليّة وبعضها ــ في لبنان ــ لا يمكن الركون إليها) تؤكد أن هناك قضايا عربيّة جامعة وأن الأهواء (نحو فلسطين مثلاً أو العداء لأميركا وإسرائيل) مشتركة بين الشعوب، وهي في الواقع أقرب مما يظهر في الاستطلاعات. فبعض شركات الاستطلاع مرتبطة بأنظمة الحكم ولا تستطيع أن «تنتج» أرقاماً تتعارض مع سياسات النظام القائم.
الثقافة العربية هي واحدة وكتابة اللغة العربية هي واحدة والصحافة العربية لا تزال تعتمد الفصحى، بالرغم من دعوات المحكية في لبنان خصوصاً (بات قسم اللغة العربيّة في الجامعة الأميركية في بيروت يسمح بتدريس اللهجات المحكيّة في سابقة تُنذر بسيادة الفكر الانعزالي القُطري في الجامعة المتغرِّبة). إن ثبات عناصر الجمع في العالم العربي هو معيار هائل لديمومة فكرة القوميّة العربيّة بالرغم من الإنفاق والتآمر الدائم ضدّها في طول العالم العربي وعرضه. وتقييم القومية العربية مستحيل من دون مقابلة ثبات عناصر الوحدة مع تاريخ من التخطيط الغربي والإسرائيلي والعربي الرجعي بهدف الفُرقة والتجزئة، أي أن ديمومة الفكرة العربيّة معجزة بحد ذاتها، أو دليل على قوّة الفكرة، لأن التحالف الغربي-الخليجي-الإسرائيلي لم يتوقّف عن محاربة الفكرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والجامعة العربيّة كانت محاولة من بريطانيا لتبديد العمل العربي الجامع. كانت بريطانيا تريد جمع قوى الاستعمار البريطاني المحليّة لتقويض الحركة الشعبيّة العربيّة التي كانت تهديداً للاستعمار الغربي (يكفي أن تتصفّح أعداد مجلّة «المصوّر» المصرية قبل أسابيع فقط من نكبة فلسطين وكيف كان رياض الصلح يطمئن الشعب العربي واثقاً بأن هناك خطة (سريّة طبعاً) لدحر الخطر الصهيوني عن فلسطين. هؤلاء كانوا مؤامرة ضد الفكرة القومية باسم الفكرة القوميّة.
ولم يكن فكر الرابطة الإسلاميّة الذي أطلقه الملك فيصل في الستينيّات إلا جزءاً من التآمر الغربي ضد الفكرة القوميّة العربيّة. وكان الملك فيصل جزءاً لا يتجزّأ من مؤامرة أميركا ضد الخطر الشيوعي. وأميركا التي ساوت بين الخطر الشيوعي والقومي العربي رأت في الرابطة الإسلاميّة سلاحاً ماضياً ضد خطريْن: الخطر الشيوعي والقومي. وليست حركة «طالبان» و«القاعدة» قبلها إلا من إفرازات ما أطلقه نظام الرجعيّة العربيّة في الرياض آنذاك. والرابطة الإسلاميّة سبقت بكثير انطلاق الثورة في إيران، والتي عزّزت من فكر الرابط الإسلامي بين العرب، قبل أن تعمد حركة الرجعية العربية في الخليج بعد غزو العراق في عام 2003 إلى بثّ مؤامرة الفرقة الطائفيّة بين السُّنة والشيعة من أجل تقويض دعائم التأييد الشعب العربي لحركات مقاومة إسرائيل، خصوصاً الحركة الفذّة في جنوب لبنان. والرابطة الإسلاميّة دعّمت قوى الانفصال في العالم العربي، خصوصاً من قبل حركات رجعية غير إسلامية مثل الانعزاليّين في لبنان. والمفارقة أن قوى الفرقة في الرياض ساهمت في تمويل وتسليح قوى الانعزال اللبناني، لأن الحركتيْن تلاقتا في رفض القوميّة العربيّة وفي رفض اليسار.
لا يمكن لوم قوى الرجعية المرتبطة بالمؤامرات الغربيّة وحدها لضمور الفكرة العربيّة. لقد أساء دعاة الوحدة العربيّة إليها كما أساء إليها أعداؤها. لكنّ حزب البعث، بجناحيْه السوري والعراقي، سدّدَ ضربات قاضية للفكرة القوميّة. حزبان، أو فرعان لحزب واحد، يدعوان للوحدة العربيّة ويتقاتلان بالسيّارات المفخّخة. حزبان يؤمنان بالقومية العربيّة ويفشلان في توحيد جهودهما وقواهما. لم يكن صعود الفكر القطري (الوطني العراقي في العراق والفكر الشامي أو القومي السوري في سوريا أخيراً) إلا نتيجة منطقيّة لزوال جاذبيّة الفكرة القوميّة على يد البعث. لم يعد حزب البعث كما في بداياته يرتبط بأذهان الناس بتوحيد العرب وتحرير فلسطين والزهو بالتاريخ العربي. أصبحت الفكرة البعثيّة لا تعني أكثر من وسائل تعذيب مبتكرة وخطابٍ تخويني مبتذل ووسائل قتل واغتيال تجاوزت القارات. والأمة العربيّة تلخّصت بعد وصول البعث إلى السلطة في شخص الحاكم-الطاغية، في دمشق وفي بغداد. البعث كان أسوأ داعية للقوميّة العربيّة في تاريخنا الحديث. لم يصب الفكرة القومية السورية ما أصاب البعث، لأن الحزب لم يصل إلى السلطة أو يتلوّث بها باستثناء تجربة الحزب وأسعد حردان في الحكم. (استعان رفيق الحريري والنظام السوري بالحزب السوري القومي الاجتماعي لضرب الحركة العمالية في لبنان).
إن ارتباط اسم جمال عبد الناصر بالفكرة القومية أمدّها بالقوة، لكن في زمانه أكثر بكثير مما في غيابه. لا يزال اسم الرجل مطبوعاً بالفكرة القوميّة، لكنه أهمل خلق حركة وحدويّة جامعة في كل العالم العربي. كانت حركة القوميّين العرب أقرب إلى المثال الناصري لكنها أصيبت بـ «التحوّل» بعد هزيمة 1967 وأمرت فروعها في الأقطار العربيّة بالتحوّل إلى أحزاب يساريّة (لكن لماذا لم يتم التحوّل عبر الحركة الأمّ، خصوصاً أن تجزئة الحركة إلى حركات ومنظمات في الأقطار فشلت في تحريك الأوضاع كثيراً، بعكس عمر ونفوذ حركة القوميّين العرب، نسبيّاً). عبد الناصر مارس القوميّة العربيّة في كل الدول العربيّة عبر دعم حركات التحرّر العربيّة وفي وضع شعارات لا تزال ماثلة أمامنا، وفي ضخّ إعلام جامع وحدوي: يكفي أن «صوت العرب» كانت مسموعة في كل أرجاء العالم العربي وكانت قوى الاستعمار تشوّش على بثّها (وثائق أميركية تتحدّث عن مدى اهتمام أميركا بضخّ بثّ إذاعي قوي في مواجهة «صوت العرب»).
وكان تأسيس الجامعة العربيّة في بيروت تجسيداً خلّاقاً للفكرة القومية التي أراد عبد الناصر زرعها. وكانت الجامعة قبل الحرب تجذب بالفعل طلاباً من كل أنحاء العالم العربي، من الخليج إلى المغرب. لكنّ عبد الناصر، ربما لانشغاله بقضايا الحرب مع إسرائيل والإعداد للتحرير والحرب في اليمن والإنهاك الذي تعرّض له على يد مؤامرات الغرب والرجعية العربية والبعث، لم يتفرّغ لإنشاء حركة عربية منظمة. وكان يمكن لهذه الحركة، لو أن عبد الناصر عمل على تنظيمها، أن تثبّت فكر الناصريّة في مصر وخارجها بعد رحيله. لكنّ السادات نجح في دفع مصر في اتجاه مختلف في غضون سنتيْن فقط على رحيل عبد الناصر. والتنظيمات الناصرية في العالم العربي لم تعمّر أو هي تفرّقت أيادي سبأ.
الفكرة القومية العربية ليست بخير لأن النظام العربي الرسمي استثمر في نقيضها. كل دول الخليج العربي زرعت الفكرة القُطريّة، وحتى النظامان البعثيان في سوريا والعراق جنحا نحو القطريّة في المرحلة الأخيرة من حكم صدّام وفي سوريا منذ اندلاع الانتفاضة. والإعلام والثقافة العربيّة هما بأيدي أمراء وشيوخ الرجعيّة الذين استعملوا المحطات الفضائيّة لضخّ فكر التجزئة والفرقة. صحيح أن النظام السعودي يستعين بفكرة العروبة لكن ذلك يحدث فقط في أماكن يكون فيها وجود لحركات مقاومة تحظى بدعم من إيران، أي في فلسطين ولبنان. لكنّ العروبة هذه ليست إلا شعارات يرفعها النظام السعودي في وجه إيران فقط. العروبة الرسميّة باتت سلاحاً دعائيّاً يُوجّه ظرفيّاً ضد إيران لمعاقبتها على دعم حركات مقاومة تزعج وتذلّ إسرائيل. لكن كل مسالك النظاميْن السعودي والإماراتي تتعارض مع العروبة وتضخّ نسقاً من القُطريّة المُقزّزة في الشوفينيّة. النظام السعودي يزعم العروبة في خطب مسؤوليه وينشر جيشه الإلكتروني لتحقير «عرب الشمال». الفكر العروبي لم يجد يوماً موطئ قدم في بلاط الحكام في الخليج. والنظام القطري دعم الفكر العروبي في بداية انطلاقة «الجزيرة» لكنه بحلول عام 2011 اختار الرابطة الإخوانيّة هدفاً في الدعوة السياسيّة.
الفكرة القومية لم تمت. هي لا تزال موجودة في أهواء الرأي العالم العربي. لكنها تتعرّض للضرب والتحدّي من قبل إعلام التفرقة والتجزئة. وأصحاب المليارات في الجمهوريّات العربيّة يحرصون على تمويل إعلام شديد المحليّة يهتم بقضايا المحلّة والحيّ أكثر من قضايا تعني العرب أجمعين. وإعلام الخليج (الترفيهي أو الإخباري) يضخّ فكر الانقسام والتحريض، والتحالف الخليجي (المُعلن حديثاً) مع إسرائيل يحارب الهموم القوميّة مخافة إغضاب الحساسيات الإسرائيليّة. وإعلام دول الخليج بعيد جداً عن أي هموم مشتركة خارج حدود المشيخة أو الإمارة أو المملكة أو السلطنة. لكن فقط في مواجهة إيران، يذكرون العروبة.
لكن هل هي حقاً عروبة عندما يلهج بحمدها انعزاليّو لبنان مثل سمير جعجع والكتائب وغيرهما؟ تتعارض الفكرة القومية مع أنظمة الاستبداد التي يخاف طغاتها من شعوبهم. إن تحرّر الشعب العربي من سلطة أنظمة الاستبداد من شأنه رفع الحواجز بين العرب وإزالة القيود التي تعيق حركة الناس والبضائع عبر الحدود. والأنظمة المتحرّرة من سلطة الأسر الحاكمة وسلطة الاستعمار الغربي ستجد أن التكافل والتنسيق الاقتصاديَّيْن العربيَّيْن، كما الأمن القومي العربي ــ بتعريف الشعب وليس بتعريف أنظمة تفهم من الأمن أمن تسلّطها وجوْرها ــ كل ذلك يعود بالنفع على الجميع. لكنّ الاستعمار لن يسمح بذلك: الغرب دخل بلادنا لتقسيمها لتسهيل السيطرة عليها، وهو سيمعن في بلادنا حروباً وفتناً كي يمنع الوحدة والتنسيق. والرئيس الحالي جو بايدن، ووزير خارجيّته كانا من دعاة تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم. ويسخر بعضهم من نظريّة تآمر الغرب في بلادنا.
الهُويّات لا يمكن أن تُخلق بقرار لكنّ الهويّات والأهواء السياسية عرضة للتأثر بالأحداث السياسيّة والحروب والتحريض الدعائي الإعلامي. رسّخ السادات الهويّة المصريّة على حساب الهويّة العربيّة، لكن هذا لا يعني موت الهويّة العربيّة. والتحرّر المؤقت للشعب المصري بعد انتفاضة 2011 شهد حنيناً إلى زمن عبد الناصر وارتفعت شعارات قوميّة فيه. لا، لا يمكن تصديق إعلان موت القوميّة العربيّة، لكنّ أعداءها استولوا على الحكم في العواصم العربيّة المؤثّرة، كما أن دول الغرب وإسرائيل لم تقلّل من جزعها من مضاعفات انطلاق عقيدة قوميّة في أوساط الشعب العربي. الاستعمار وأدواته بين الطغاة، يريدوننا مقسّمين مشرذمين متصارعين متحاربين. والقومية لا يجب أن تكون بالضرورة نسخة عن التناحر ووسائل التعذيب البعثي.
لكنّ أنظمة التحريض المذهبي في الخليج تريد من أجل تصليب تحالفها مع إسرائيل أن لا نشعر بعروبتنا. تريد منا أن نشعر بجرعات الصهيونيّة التي يحرص الإعلام السعودي والإماراتي على تقديمها إلينا. ومن دون مقاومة هذه الجرعات يكون للصهيونيّة مستقبل بيننا. ومقاومة إسرائيل لا تكتمل من دون مقاومة الفكر الذي يسهّل لها مؤامراتها. الصهيونيّة ليست قدراً عند العرب. مقاومتها يجب أن تكون القدر.

* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@