على مسافة حوالى 10 أيام من ذكرى تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) الـ 39، ينبغي قول بعض الملاحظات، حول أمور أساسية بشأن هذا الحدث الوطني الكبير، أي التصدي الشعبي للعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982. لقد كان تصدياً مشتركاً جبهوياً، بالسلاح قررته مسبقاً أحزاب لبنانية أساساً، توقعت أن العدو سيجتاح لبنان لحسم الصراع فيه، ولإيصال عملائه وحلفائه، إلى السلطة، بغية عقد معاهدة «سلام» مع لبنان بعد تحويله إلى شبه محمية إسرائيلية.ربما تكون الأيام العشرة المنصرمة كافية لتهدئة بعض الانفعالات الصادقة والمخلصة بعيداً عن المحاكمات والاستنتاجات غير الموضوعية. إلّا أنها ينبغي أن تساعد أيضاً على التوقف المدقِّق بشأن موجة الاستغلال المتواصلة. وهي موجة لم ولن تتوقف. جوهرها وضع تراث مقاومة الأمس في وجه مقاومة اليوم. يحصل ذلك ليس حرصاً على إنصاف «جمول» بل للنيل من المقاومة الراهنة ضد العدو الصهيوني خصوصاً. وهي مقاومة استمرت، وقوي عودها، وباتت جزءاً فاعلاً في مشهد الصراع الإقليمي، خصوصاً إثر فشل عدوان تموز عام 2006 الذي نُفّذ بقرار أميركي بعد تعثر غزو العراق.
لم يكن قرار التصدي بالسلاح للعدو الصهيوني المحتل أمراً بديهياً في مسيرة الحزب الشيوعي اللبناني. ذلك القرار الجدي والمسؤول والتاريخي أصبح ممكناً فقط بعد تحولات انعطافية بدأها الشهيد فرج الحلو حين واصل من موقعه القيادي، في الحزب الشيوعي اللبناني السوري، الموحّد آنذاك، مناهضة قرار تقسيم فلسطين عام 1947 رغم موافقة الاتحاد السوفياتي المفاجئة عليه. استحق يومها عقاباً قاسياً، بل إرهابياً، من أمين عام الحزب الشيوعي في لبنان وسوريا خالد بكداش الذي مثّل طويلاً أداة القيادة السوفياتية وعصاها الغليظة في وجه «المنحرفين» عن الصراط السوفياتي «الأممي» المستقيم.
رفض قرار التقسيم كان يفترض مبدئياً اعتماد أو تأييد ودعم نهج مقاومة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين الذي حصل بدور مباشر للمستعمر البريطاني (المنتدب) وبرعاية كاملة لاحقة من قِبل حكومات واشنطن. انعكس قرار الاتحاد السوفياتي المفاجئ سلبياً، على الأحزاب الشيوعية التي أيّدت القرار. أما الشيوعيون الفلسطينيون فقد تشتتوا بين الحزب الشيوعي الإسرائيلي والحزب الشيوعي الأردني وضاع اسم بلدهم من هويتهم ومشروعهم السياسيين!
لم يكن موقف فرج الله الحلو برفض قرار التقسيم أمراً منعزلاً. لقد كان جزءاً من نهج عام (سُمي «مدرسة فرج الله»). وهو نهج ديمقراطي نقدي في التنظيم والقيادة، وواقعي شعبي في المقاربات والأساليب، متواضع في العلاقات داخل الحزب وخارجه، مبادر في السياسات الوطنية والقومية، من خلال الإعلام والكتابة وصيغ العمل... يلخّص كل ذلك قول شهير له: «نريد أن يكون هذا الساحل العربي (لبنان) منبت حركة وطنية جديدة... تحتل مكاناً في الطليعة بين الحركات الوطنية في الأقطار العربية الشقيقة».
سياسات بكداش وأساليبه أثارت استياءً واسعاً في صفوف الشيوعيين اللبنانيين والسوريين. تراكم الاعتراض عليها بعد أن تعاظم ضررها الفكري والسياسي والتنظيمي في أواسط الستينات وانفصال الحزبَين عام 1964. فرضُ انعقاد المؤتمر الثاني التاريخي (1968) للحزب الشيوعي اللبناني، أحدث تغييراً كبيراً في السياسات والعلاقات الداخلية والخارجية. أقر المؤتمر برنامجاً مرحلياً ونظاماً داخلياً ووثيقة تقييمية مهمة، وانتخب قيادة شابة جديدة هي من حضَّر وبلور وقرَّر المسار الجديد. كان فرج الله حاضراً بقوة في كل ذلك: نهجاً وإعادة اعتبار لموقعه النضالي وإدانة للافتراءات ضده وضد نهجه في الحقلين الداخلي والقومي... كثَّف مفكرون شيوعيون، أبرزهم عمقاً المفكر الشهيد مهدي عامل، الخلاصات النظرية لتلك السياسيات. في التحضير للمؤتمر الثاني وفي وهج نتائجه أُعيد الاعتبار للشرعية والمؤتمرات وانطلقت مرحلة شاملة في المبادرات والتحالفات والعمل النقابي والقطاعي والشبابي والإعلامي والثقافي والفكري... تطبيقاً لحلم قيام «حركة وطنية جديدة» على هذا «الساحل العربي»! ومن ضمن ثنائية الدعوة لوحدة عمال العالم (ماركس) وكل الشعوب المضطهدة (لينين).
بعد المؤتمر الثاني مباشرة تصاعدت الاعتداءات الصهيونية، انتقال قيادة المقاومة الفلسطينية إلى لبنان رفع من سخونة المواجهة في الجنوب. أسس الحزب الشيوعي «الحرس الشعبي» من ضمن الدعوة إلى مواجهة الاعتداءات عبر سياسة رسمية تتولى أيضاً تحصين «القرى الأمامية». على نطاق أوسع نشأت «الجبهة المشاركة في الثورة الفلسطينية»، وبالنسبة إلى الأحزاب الشيوعية منظمة «الأنصار» المشتركة التي تولى مسؤوليتها القائد الشيوعي الفلسطيني الأردني عبد العزيز العطي.
كان يواكب ويرعى كل تلك المسيرة في شتى عناوينها أمين عام الحزب الشيوعي آنذاك القائد المخضرم، والمبدع في حقل الصحافة والإعلام والثقافة، (والذي كان قد شكل مع فرج الله ثنائياً رائعاً) نقولا شاوي. لكن كان للشباب الذي حضر دور تنفيذي حاسم في إدارة عمل الحزب في كل الحقول. كان جورج حاوي الأبرز: نائباً للأمين العام، وثم أميناً عاماً. تميز حاوي بكفاءته وديناميته ومبادراته في لبنان والمنطقة. وهو، من موقعه في قيادة الحزب وبسبب حيويته المعروفة، شارك أمين عام منظمة العمل الشيوعي التوقيع على بيان إعلان «جمول» التي قدمت إسهاماً وطنياً في المقاومة والتحرير بدور مميز للحزب الشيوعي (ضمت الجبهة أيضاً «التنظيم الشعبي الناصري» و«حزب العمل الاشتراكي العربي». شارك في عملياتها، بنشاط كبير، وتحت نفس الاسم، الحزب السوري القومي الاجتماعي وسواه وعشرات المناضلين الفلسطينيين...).
توفرت للحزب قيادة كفوءة متعاونة (إلّا بعض التباينات والعنعنات). استمر الوضع، تقريباً على هذا النحو حتى انهيار الاتحاد السوفياتي حيث حصلت تحوّلات دراماتيكية ضربت معظم «القيادة التاريخية». جورج حاوي استقال بشكل غير مقنع. آخرون ذهب معظمهم إلى خيارات نقيضة، عوامل متعددة ومتلاحقة أخرى تركت ندوباً كبيرة في جسم ومسيرة الحزب: اتخاذ قرار، رعاه ونفذه الفريق السوري المعني بإدارة الوضع اللبناني بعد «الطائف»، بعزل الحزب وتحجيمه. جنوح معظم قيادته نحو مواقع اليمين. مراوحة الحزب في العجز عن إعادة تأسيس مشروعه في ضوء متحولات جوهرية خارجية وداخلية... توقف دور الحزب في المقاومة، وكان 10% من لبنان ما زال محتلاً، ما ضاعف من التساؤلات والشكوك والحيرة والضياع. نشطت لملء هذا الفراغ في الحزب فئات منغلقة فكرياً أو ذات تجربة أمنية. هي توسلت بعث العصبية والتشدّد والانغلاق الفكري، مع عودة شبه علنية للأساليب البكداشية الستالينية في التنظيم وفي المواقف والعلاقات الداخلية والخارجية.
الأحرى بجيل اليوم أن يدرك هذه الحقائق وأن يواصل الصفحات الخالدة التي سطرها حزبه في الدفاع عن القضية الوطنية والقومية ذات الطابع التحرري الشامل. بعض هذا الجيل يعاني من ضعف التثقيف خلال عقود. بعضه الآخر تطحنه، كسائر الشعب اللبناني، أزمة خانقة، ويكرز عليه إعلام مأجور، داخلي وخارجي لتشويه الحقائق وتضييع المسؤوليات. أموال طائلة تنفقها سفارات لاستغلال الضائقة وشراء الضمائر وتجني الأتباع. كل ذلك وسط غياب للخطة الوطنية الجبهوية الجامعة في مثل هذه الظروف البالغة التعقيد والصعوبات الاستثنائية.
لا ينبغي أن يكون مؤتمر الحزب الشيوعي الـ12 محطة تقليدية تسودها الصراعات والانقسام على الأصوات والمواقع. استلهام تجربة المؤتمر الثاني وتقييم المراحل التي تلته، هو البوصلة الهادية إلى حل يضع حداً للخواء ويعيد الحزب إلى جادة مسار التغيير التحرري في وجهَيه السياسي والاجتماعي، الوطني والقومي.
* كاتب وسياسي لبناني