في ظلّ الأزمة المتدحرجة منذ قبيل احتجاجات 17 تشرين 2019، ظهرت شريحة الشباب اللبناني في مركز الحدث. فهؤلاء هم الأكثر تضرراً من الانهيار الحاصل سواء من ناحية قدرتهم على استكمال الدّراسة أو إيجاد فرص العمل أو الانطلاق في الحياة. وهم أيضاً كانوا زخم الحركة الاحتجاجية ويدور الصراع حول إقناعهم واجتذابهم من كلّ القوى الفاعلة. كما أن أهمية هذه الشريحة تكمن في أنّ وعيها تشكّل بعد الحرب الأهلية وكانت قادرة على معايشة مرحلة ما بعد 2005 وإدراكها بكل تعقيداتها. وهذه الشريحة نظراً إلى دراستها الجامعية وفعاليتها السياسية تساهم في تشكيل جزء من الرأي العام الشبابي وينحدر منها قادة رأي قادرون على الوصول إلى الجمهور برسائل محددة. وفي الانتخابات النيابية المقبلة عام 2022 من المتوقّع أن تكون هذه الفئة حاضرة بقوة على صعيد التعبئة والتحشيد والإقناع وتؤثر في السلوك الانتخابي بدرجة ما. انطلاقاً مما تقدّم أنجزتُ دراسة ــــ أصدرها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق ــــ حول كيف يؤثر الانتماء السياسي والطائفي على تصوّرات خريجي الجامعات المحزّبين والمنظّمين تجاه أزمة ما بعد احتجاجات 17 تشرين؟ تبنّت الدراسة منهجاً نوعياً من خلال المقابلات شبه المنظّمة التي شملت 64 خريجاً جامعياً من عمر 24 سنة إلى 30 سنة (جيل ما بعد الحرب الأهلية) منتمين لأحزاب مشاركة في السلطة وفق معيار المشاركة في البرلمان الحالي باستثناء التنظيم الشعبي الناصري (35 شخصاً من 15 حزباً) والمعارضة والحراك (29 شخصاً من 8 أحزاب و 18 مجموعة).
تي - ماري نولان (الولايات المتحدة)

سعت الدراسة إلى أن تكون العيّنة متنوّعة ومتوازنة بما يعكس طبيعة المجتمع المبحوث من ناحية وبما يفيد في إجراء المقارنات السياسية والطائفية من ناحية ثانية. على مستوى التوزيع بين الجنسين توزّع المشاركون بنسبة ثلثين للذكور وثلث للإناث تقريباً. أما من ناحية التوزيع الطائفي بين المسلمين (سنّة وشيعة ودروزاً) والمسيحيين فتناسبت إلى حدّ ما مع الواقع الديمغرافي للمقيميين من اللبنانيين أي ثلثين للمسلمين وثلث للمسيحيين. من الناحية المناطقية توزّع المشاركون على المحافظات الخمس الكبرى مع الحرص على تمثيل المحافظات الطرفية لا سيما الشمال والبقاع. فيما كانت حصة محافظة الجنوب أقل، إذ جرى اختيار معظم المشاركين الشيعة من الضاحية الجنوبية (محافظة جبل لبنان) وبيروت الغربية (محافظة بيروت). وقد جرت المقابلات عبر فريق من المساعدين في الفترة بين تموز 2020 وتشرين الثاني 2020 وشملت 16 سؤالاً. بعدها جرى عرض الإجابات وترميزها وفرزها ثم تحليلها بشكل مُقارن داخل كل فئة، وكذلك بين الفئتين بلحاظ الانتماء السياسي والطائفي. نستكشف في هذا المقال تصوّر المشاركين للأزمة اللبنانية الحالية من ناحية ذاكرتهم السياسية ومسار الأزمة وسببها الرئيسي. وفي ما يلي أبرز الخلاصات التحليلية لثلاثة موضوعات شملتها الدراسة


أولاً: الذاكرة السياسية
i. تُلاحَظ محورية الزعامات والقيادات السياسية في الأحداث الراسخة في ذاكرة شباب الأحزاب المشاركين مثل تغييب الإمام موسى الصدر أو اغتيال كمال جنبلاط والرئيس رفيق الحريري، أو عودة العماد ميشال عون ووصوله إلى الرئاسة، أو مواقف السيد حسن نصر الله. هذا الأمر في جزء منه مرتبط بطبيعة الحياة السياسية اللبنانية حيث للزعيم/ القائد حضور يتجاوز المؤسسات الحزبية ويعايش عدداً كبيراً من المنعطفات السياسية. وتمثّل هذه الشخصيات رصيداً تاريخياً وشعبياً وهي ذات مشروعية تعويضية (فهذه الزعامات تعكس المراحل «الثورية» للقوى التقليدية وعنفوانها أو مراحل صعودها) لكل القوى السياسية، وهي جزء من هوية الجماعة التي بدورها ترى العالم الخارجي من خلال كلمات هذه الشخصيات وأفعالها. في المقابل هناك شبه غياب لأحداث مرتبطة برموز قيادية لدى المشاركين من الحراك والمعارضة. وهذا الأمر مفهوم نظراً لعمر تجارب قوى الحراك والمعارضة وطبيعة بناها.
ii. أقام حدث 17 تشرين حاجزاً صلباً بين الفئتين، فيتجاهله شباب الأحزاب إلى حدّ بعيد، حيث لا تزال تهيمن على ذاكرتهم أحداث عايشوها في مرحلة مبكرة من شبابهم، فيما لا يستطيع شباب الحراك والمعارضة تخيّل شيء خارج هذه اللحظة. وهذا أمر يفسّر الفارق بين القوى التي تمثل الواقع القائم والقوى التي تسعى للانقلاب عليه، فلا منجزات حديثة لأغلب قوى الأحزاب ما يعكس أزمتها وركود معظمها، فيما يستشعر معارضوها أنهم في لحظة انبثاق وأن التغيير يحصل بالفعل ولو اختلط ذلك بمشاعر الخيبة أحياناً. في المحصلة يظهر كأن المشاركين الشباب من كلتا الجهتين ينتمون إلى أزمنة مختلفة ما يشير إلى عمق الانقسامات اللبنانية.
iii. تحوّل حدث 17 تشرين إلى مرتكز في ذاكرة جيل ما بعد الحرب الأهلية المنضوي في قوى الحراك والمعارضة. فذاكرة هذه الشريحة أصبحت خاضعة لهذا الحدث لدرجة يغيب عنها الكثير من الأحداث السابقة، وهو ما يعني أن الشحنة الوجدانية لهذه الذكرى ستعمل على مدى السنوات المقبلة كمحفّز رئيسي. أنتج هذا الحدث مشاعر القدرة والخيبة في آن معاً وهي ستظهر عند كل اختبار جديد في الشارع. ويتجسّد هذا التناقض من خلال تجاهل مجموعة من المشاركين لحدث 17 تشرين والرجوع لأحداث أسبق منه، في مقابل إصرار مجموعة أخرى على أن هذا الحدث هو محطّة في مسار يتقدم وحتميّ ومتصاعد.
iv. عزز 17 تشرين من الهوية المشتركة لمعارضي الوضع القائم، وكذلك صار مصدراً للمشروعية لا غنى عنه. تدلّ عبارات المشاركين عن 17 تشرين أن مصدر قوته هو في إثباته وجود شعب لبناني، وذلك في تحدّ للسردية السائدة بأن اللبنانيين مجرد رعايا طوائف. هذا «الظهور» للشعب صار الاستدلال الأساس لحتمية التغيير.
v. يمكن اعتبار أن حادثة انفجار المرفأ كانت الركن الثاني الموازي لاحتجاجات 17 تشرين في ذاكرة شباب الحراك والمعارضة، فهي أكّدت لهم، من منظارهم الخاص، صوابية القطيعة مع الوضع القائم وأعادت شحن الغضب تجاه النظام السياسي. أما بالنسبة إلى المشاركين من أحزاب السلطة، ولا سيما الأحزاب المسيحية المنافسة للتيار الوطني الحر، فكان استحضار حادثة انفجار المرفأ للتصويب على عهد العماد عون والاستدلال على فشله.
تحوّل حدث 17 تشرين إلى مرتكز في ذاكرة جيل ما بعد الحرب الأهلية، ولعلّ الشحنة الوجدانية لهذه الذكرى ستعمل على مدى السنوات المقبلة كمحفّز رئيسي


vi. كان للعامل الطائفي دور واضح في الذاكرة السياسية، فالمشاركون من كل مذهب، من كلتا الفئتين، ركّزوا نسبياً على قضية محددة أكثر من البقية. فالمشاركون الشيعة ركزوا على القضايا المرتبطة بالمقاومة و17 تشرين، والمشاركون السنّة على حدث اغتيال الرئيس الحريري، والمشاركون المسيحيون على حادثة انفجار مرفأ بيروت. لكنّ الحدث الأفضل الذي برز مشترَكاً لدى بعض المشاركين من الفئتين ومن طوائف مختلفة كان مرتبطاً بالمقاومة سواء تحرير جنوب لبنان عام 2000 أو الانتصار على العدوان الإسرائيلي في عام 2006.
vii. كذلك كان للعامل السياسي تأثير واضح في فرز الآراء حيال مسألة الذاكرة. وظهر ذلك من حضور حادثة اغتيال الرئيس الحريري، إضافة إلى المشاركين من تيار المستقبل، لدى المشاركين من حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي. ومردّ ذلك أن الرئيس رفيق الحريري كان جزءاً أساسياً ومرتكزَ استقرار منظومة الحكم وفعاليتها لحقبة ما بعد نهاية الحرب الأهلية حتى عام 2005.
viii. يظهر واضحاً ازدحام العقدين الأخيرين في نظر المشاركين بأحداث تأسيسية على مستوى الدولة والنظام والكيان، لكن يُنظر إليها من زوايا مختلفة ومتباينة وأحياناً متناقضة. وهذا ما يحول دون دمجها في سردية واحدة يمكن البناء عليها في نظر الشرائح المشمولة بالبحث لتجديد النظام وإصلاحه، بل ربما تتحول هذه الرؤى المتباينة لأحداث متمركزة في الذاكرة إلى عائق يحول دون ذلك.

ثانياً: مسار الأزمة
i. إن النظر إلى الأزمة اللبنانية الحالية على أنها نتاج مسار تراكمي بدأ مع نهاية الحرب الأهلية وبداية نموذج اقتصادي سياسي قاده الرئيس رفيق الحريري مع منظومة سياسية ومالية متكاملة، هو نقطة تقاطع كبيرة بين كتلتين وازنتين من المشاركين من أحزاب السلطة ومجموعات وأحزاب الحراك والمعارضة. أي أنه على الرغم من عمق الانقسام السياسي بين الفئتين فإنهما تنطلقان من تشخيص شديد التشابه لبداية مسار الأزمة. يعكس هذا التصوّر السلبي حول تجربة الطائف ضمور مشروعية خطاب النظام وأقطابه في المجال العام لصالح الخطاب النقدي والمعارض لحقبة ما بعد الطائف. ويشير التصويب المكثّف على اتفاق الطائف إلى غياب حدّ أدنى من التوافق حوله حتى ضمن البيئات التي تنتمي إليه، وهو ما يدلّ على صعوبة إعادة ترميم مشروعيته حيث تبدو قاعدة المصالح التي بات يوفّرها ضيقة جداً لا سيما لهذه الشرائح الشبابية العالقة في مركز الأزمة الآن.
ii. يُلاحَظ وجود تأثير للانتماء الطائفي والحزبي على محاولة شباب أحزاب السلطة تفسير الأحداث وفهمها. مثلاً يركّز بعض المشاركين من المسلمين على تاريخ 1920 في ما يخص أصل الأزمة اللبنانية، بينما كان المسيحيون أكثر تركيزاً على أحداث تنتمي لحقبة الحرب الأهلية وما بعدها. كما يقترب شباب الأحزاب مسافة قريبة من سرديات أحزابهم ويربطون بداية الأزمة بما يتّفق مع السردية الحزبية، مثلاً يركّز شباب حزب الله والعونيون على لحظة الطائف (يراه أحدهم أسوأ حدث سياسي والانعطافة السياسية الأكثر خطورة) فيما يركّز شباب تيار المستقبل على عامي 2005 و2011 في حين يشير شباب حركة أمل والقوات اللبنانية إلى لحظة وصول عون إلى الرئاسة.
iii. يتشارك بعض مشاركي الأحزاب (مثل حزب الله) مع بعض المشاركين من المعارضة والحراك (أوع؟؟؟؟؟، شباب المصرف، حركة الشعب) في ربط النموذج الذي أتى به الرئيس الحريري بعد الحرب الأهلية بكونه جزءاً من مشروع السلام حينها وليخدم «المشروع الأميركي ـــ السعودي»، وأنه صمّم نموذجاً متعمداً بهذا الشكل ليكون «حساساً لأي خضّات أمنية». وهذا الأمر ليس مفاجئاً إذ خلال حقبة التسعينيات تقاطع الخطاب النقدي للحريرية عند حزب الله والتيارات اليسارية في العموم.
iv. فيما ركّز شباب الأحزاب المشاركة في السلطة على الإشارة إلى عوامل مثل دور الخارج ومسؤولية الشعب والظروف البنيوية كان شباب المعارضة والحراك أكثر تركيزاً على دور النخبة الحاكمة ولا سيما الترويكا التي كان حضورها واضحاً في لغة الطرف الثاني. وهذا الأمر مفهوم من ناحية أن المشاركين من أحزاب السلطة كانوا أكثر حذراً في ربط الأزمة بأداء الأشخاص.
v. تتمايز الفئتان في مقاربة دور «الشعب» في الأزمة. يُكثر المشاركون من أحزاب السلطة الإشارة إلى مسؤولية الشعب اللبناني، فالشعب هو طائفي ومتخلٍّ عن مسؤولياته بالمحاسبة ومتمسّك بالأحزاب التقليدية ويتجاوز القانون ومنغمس في مصالحه الذاتية (يسعى للربح الأسرع والأسهل) ولا يمتلك «ثقافة الدولة». كما تبدو الطائفية صفة جوهرانية لدى الشعب اللبناني في خطاب بعض هؤلاء المشاركين «فنحن شعب طائفي مجبولٌ بذلك مهما حاولنا التعالي». بل يبدو الشعب مبتدأ الأزمة كونه اعتاد على الفساد والفشل الرسمي وسكت عن ممارسات السلطة، لذا ردّد بعض المشاركين عبارات من قبيل «يعني أنا بحمّل المسؤولية أول شي للشعب» و«الناس من إيدها» وهكذا يصبح الناس «مسؤولين عن تكريس الزعامات والوسايط والفساد». بينما تغيب هذه اللغة تجاه الشعب لدى المشاركين من فئة المعارضة والحراك، حيث ذكر مشاركان منها فقط أن الناس يتحملون المسؤولية بسبب قلة الوعي والارتباط بالزعامات التي تستغلّ ذلك في السيطرة على موارد الدولة.
vi. بدا التمايز بين الفئتين حول دور الخارج واضحاً جداً. في مقابل استحضار جزء من مشاركي أحزاب السلطة لدور الخارج مثل الدور السوري أو الأميركي أو الخليجي باعتباره عاملاً متدخّلاً أو مسبّباً في الوصول للأزمة، لوحظ غياب شبه كامل للحديث عن دور الخارج لدى مشاركي الحراك والمعارضة. ويبدو ذلك مفهوماً من ناحية أن استحضار مسؤولية الخارج عادة ما يُستخدم للتخفيف من مسؤولية من هم في السلطة وتكريس سردية أنّ من في السلطة مقيّدون بمصالح خارجية مؤثرة في لبنان. تتكرّر لدى بعض المشاركين من أحزاب السلطة تعبيرات العجز والضعف أمام خطط الخارج، «فالخارج لديه خطط ونحن نمشي على هذا المخطط»، واللبنانيون رغم مسؤوليتهم عن الأزمة ولكنهم «مجرد تفصيل في صراع بين قوى كبرى يدور في لبنان والمنطقة»، فالبلد يسير بمسار خراب مرسوم له منذ زمن طويل «نحن أداة مش ماشيين على كيفنا...نحن مسيّرون ولسنا مخيّرين». وتتّسق هذه التعبيرات إلى حد بعيد مع الخطاب الرسمي للأحزاب.
vii. عن التأثير الطائفي، الملاحظة الأبرز هي تشابه مواقف الشباب السنّة في الفئتين، حيث هناك انقسام بين مجموعة عابرة للفئتين تُحمّل الرئيس رفيق الحريري مسؤولية السياسات الاقتصادية لما بعد الحرب الأهلية ومجموعة مقابلة تدفعها عنه وتصوّب على التيار الوطني الحر وتلقي بمسؤولية الأزمة على عهد الرئيس ميشال عون. وهذا ما يشير إلى العمق الاجتماعي للتوتر السنّي تجاه التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل على وجه التحديد.
viii. لا يمكن تجاهل وجود تعبيرات نقدية خجولة وضمنية لدى فئة شباب أحزاب السلطة موجّهة لأحزاب السلطة ونخبها، وكذلك محاولة التخفيف من مسؤولية أحزابهم بدل إنكارها. برّر أحد المشاركين التمسّك بأحزاب السلطة بالخوف من غياب البديل. وتضيف مشاركة أخرى رغبتها بأن تكون جزءاً من الحركة الاحتجاجية ولكن «بتخافي يقولوا نازلة ضد الحزب اللي بنتمي له وإنو ما شايفة الحقيقة، ما حدا عم يقدر يطلع من حزبه يمكن». والبعض الآخر يرى أن نخب الأحزاب متواطئة «تحت الطاولة» فيما تتنازع في العلن لاستقطاب الجمهور، ويتكرر توجيه النقد إلى المسؤولين، ليس مسؤولي حزب الناقد، كمصدر للأزمة بفعل عجزهم «عن بناء دولة فعلية» وتقاعسهم عن تحمّل المسؤولية.

ثالثاً: السبب الرئيسي للأزمة
i. رغم وجود توافق بين كتلتين وازنتين من المشاركين ضمن الفئتين حول منح الأولوية للمسألة الطائفية على أنها أساس الأزمة، أكّد المشاركون من المعارضة والحراك بشكل ملحوظ مسؤولية النخبة الحاكمة. يميل المشاركون من أحزاب السلطة لربط الأزمة بالعوامل البنيوية والخارج لتقليل مسؤولية القوى السياسية، فيما يتعمّد شباب المعارضة والحراك التصويب على النخبة حتى أثناء الحديث عن طبيعة النظام أو السياسات لنزع الثقة عنهم وتأكيد الحاجة إلى بديل. فحين يتحدث هؤلاء عن أزمة السياسات المالية والاقتصادية يربطونها بطبيعة النظام الطائفية وأداء نخبته التي تتوسّل المحاصصة والزبائنية لتقبض على وعي الشعب وإرادته. ولذلك تصبح إقامة نظام ريعي يتغذى على الديون ذات الفوائد العالية جزءاً من إدامة الزبائنية عبر منع الناس من الاندماج في اقتصاد منتج يحررهم من الحاجة للطبقة الحاكمة. ولذلك تتكرر الإشارة إلى أن الأزمة سياسية في الأصل ولكن مترابطة مع الأزمة الاقتصادية.

عززت الأزمة من زخم التحليل اليساري الذي يربطها ببنية النظام الاقتصادي للحريرية السياسية، وعمّقت الهوة بين قوى الأمر الواقع والقوى التغييرية التي تشعر بأنها هزّت ميزان القوى


ii. لم يخلّ خطاب المشاركين من فئة أحزاب السلطة من نقد موجه للطبقة السياسية وهو إن كان حاضراً بشكل عابر فقد كان حاداً في تحميلها مسؤولية وازنة وإن كان كل منهم ينطلق من تصوّر ضمني بأنه ينتقد الأحزاب الأخرى. فهذه النخبة، بتعبيرات المشاركين، هي التي أقامت الطائفية وأدارت المحاصصة وفشلت في إدارة الدولة (المال والكهرباء والدعم) وتلاعبت بالناس بإثارة غرائز الجماعة وتجاوزت القوانين لصالح أعراف تجيز لهم بناء شبكات نفوذ عميقة كقاعدة لهم بدل الاعتماد على القاعدة الشعبية. فهؤلاء، يقول أحد المشاركين: «خالفوا برامجهم الانتخابية وغرقوا في المحاصصة والنهب، فالفساد الداخلي يشكل الجزء الأكبر من الأزمة وكل فئة شاركت في السلطة تتحمل مسؤولية عن جزء من الأزمة». انطلاقاً من هنا يمكن فهم تركيز الشباب على ربط الحل بجهاز قضائي نزيه ومستقل وبقانون انتخابي جديد.
iii. في ما يخص المسألة الطائفية، اتفقت الفئتان على إعطائها الأولوية باعتبارها السبب الرئيسي للأزمة اللبنانية ربطاً بما تنتجه من فساد وزبائنية ومحاصصة وتجويف للدولة. وهذا الأمر متسق مع الخطاب العام في لبنان حيث الجميع يدين الطائفية ويدعو إلى تجاوزها، بمعزل عن خلفية ذلك. لكن كان عرض المشاركين من الحراك والمعارضة للطائفية أكثر تماسكاً من حيث اعتبارها جزءاً من منظومة سياسية واقتصادية ومالية، فيما كان بعض شباب الأحزاب يشيرون للطائفية من باب تبرير سياسات أحزابهم.
iv. في العموم يمكن القول إن هناك انقساماً وتبايناً واضحاً بين المشاركين من شباب أحزاب السلطة في تشخيص مركز الأزمة، وذلك إما ربطاً بالهوية الطائفية (المشاركون المسلمون أكثر نقداً للطائفية) أو الانقسام السياسي بين قوى 8 آذار و14 آذار (في النظر لدور المقاومة والخارج) أو بالتموضع داخل بنية النظام السياسي (مدى التركيز على الفساد). وهذا ما يشير إلى عمق التباينات والانقسامات عند القوى التقليدية حتى بين الحلفاء أحياناً. في المقابل كانت آراء شباب الحراك والمعارضة أكثر تجانساً بشكل ملحوظ وكان تأثير الانتماء الطائفي محدوداً.
v. ركّز المشاركون من الأحزاب المسيحية في قوى 14 آذار (القوات اللبنانية والكتائب وحركة الاستقلال) على مسائل الفساد والمحاصصة وسلاح المقاومة. بينما أكّد المشاركون من التيار الوطني الحر على العوامل المرتبطة بالاقتصاد الريعي والسياسات المالية والاستقواء بالخارج، فيما انحصر اهتمام المشاركين من تيار المردة بالسياسات المالية. كان حضور المسألة الطائفية شبه غائب لدى هذه الشريحة، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى الهواجس المسيحية من الخروج من نظام التوافقية الطائفية نحو الديمقراطية العددية بما يهدد وزنهم التمثيلي، كما يظنون. ولذا يميلون للنظر إلى الأزمة بعيداً عن طبيعة النظام السياسية والتركيز على جوانبه المالية والاقتصادية والفساد والسلاح والخارج.
vi. أما من جانب المشاركين من أحزاب البيئات الإسلامية فقد غيّب المشاركون من تيار المستقبل بالكامل الأسباب المرتبطة بالسياسات المالية والاقتصادية كونها تدعم السردية التي تحمّل الحريرية مسؤولية الأزمة. وفضّلوا بدلاً من ذلك ربط الأزمة بالطائفية والفساد ثم رميهما على التيار الوطني الحر تحديداً، ثم سلاح حزب الله والتدخلات الخارجية. أما المشاركون من حركة أمل فركزوا على الطائفية السياسية وطبيعة قوانين الانتخابات النيابية، وفيما وجد المشاركون من حزب الله أن الأزمة مرتبطة بالطائفية والمحاصصة والفساد والمشروع الإسرائيلي ومستلزماته من الضغوط الأميركية.
vii. ما يبدو فارقاً بوضوح هو موضوع الدور الخارجي والتدخلات الخارجية في الأزمة. يكاد يغيب الحديث عن المستوى الخارجي للأزمة لدى شباب الحراك والمعارضة بالرغم من بروزه في الحالة اللبنانية، فيما كانت الإشارة لدور الخارج واضحة لدى المشاركين من فئة أحزاب السلطة. هذا التجاهل لدور الخارج لدى فئة الحراك والمعارضة له عدة أسباب محتملة: أولاً هو يعكس حذراً من أن الزجّ بالخارج يخفف من مسؤولية القوى السياسية المحلية وأن الأخيرة تبالغ في توصيف هذا الدور لتتخفف من مسؤوليتها. لذلك فإن الحديث عن السياق الخارجي قد يُخفف من القدرة على نقد الفاعلين المحليين. وثانياً هو يشير إلى الانغماس المعرفي في الشق الداخلي للأزمة انطلاقاً من التموضع السياسي والمساجلة والنقد للوضع القائم والاشتباك مع الأسباب المباشرة للأزمة، في مقابل ضعف حضور أدبيات السياسات الدولية والنظام العالمي. وثالثاً قد يخشى من هؤلاء أن الحديث عن المستوى الخارجي للأزمة سيجبرهم على الظهور في موقف نقدي لطرف خارجي محدد وأنهم جزء من «صراع المحاور» ما يقيّد وصولهم إلى جزء من الجمهور الداخلي أو يوتّر علاقاتهم مع جهات خارجية يتوقّعون منها الدعم أو يحفّز انقسامات إضافية داخل الحراك. ورابعاً بسبب وجود ارتباطات خارجية قويّة لبعض مجموعات الحراك.
viii. يُلاحَظ وجود تباين كبير في الإشارة لسلاح المقاومة من باب ربطه بالأزمة، حيث كان ذكره عابراً وهامشياً في أحاديث شباب الحراك والمعارضة، بينما كان يعود للظهور كجزء من الانقسام السياسي التقليدي لدى المشاركين من قوى 8 آذار و14 آذار. حتى ضمن المشاركين من قوى 14 آذار كان حضور مسألة السلاح هامشياً.

خلاصة
إن النتائج التي خلصت إليها الدراسة غير قابلة منهجياً للتعميم خارج دائرة المشاركين فيها، ولكن يمكن الانطلاق منها لتحصيل فهم معمّق لتصوّرات الجيل المستهدف. تقترب المسافة بين المشاركين حين يرتبط السؤال بتشخيص الأزمة ثم تميل للافتراق بوضوح حين يصل الأمر إلى توزيع المسؤوليات. يظهر في عدة مواضع من الدراسة تأثير واضح ومباشر للانتماء السياسي والهوية الطائفية في فرز المواقف والتصوّرات بين الفئتين وداخل الفئة الواحدة.
وكان لافتاً أن الحديث عن سلاح المقاومة وربطه بالأزمة كان شبه غائب لدى الفئتين ما يبدو في السجال العام وهذا يعني أن الحملات السياسية والإعلامية التي تربط الأزمة بالمقاومة تبدو مفتعلة إلى حدّ كبير. يضاف إلى ذلك أن الأحداث المرتبطة بقضية المقاومة (التحرير عام 2000، الانتصار عام 2006) ظهرت باعتبارها الأحداث الأجمل لدى كلتا الفئتين ولدى مشاركين من عدة طوائف، في مقابل الانقسامات السياسية أو الطائفية حول سائر الأحداث الأخرى.
تظهر تأثيرات الأزمة الاقتصادية والسياسية بوضوح على المشاركين من جيل ما بعد الحرب الأهلية ممن أنجزوا تعليمهم الجامعي وذلك من خلال مستوى متقدم من السخط على النظام السياسي وأداء السلطة وحدّة الانقسام السياسي بين فئتي السلطة والمعارضة وكذلك بين القوى الموجودة داخل السلطة نفسها. عززت الأزمة من زخم التحليل اليساري الذي يربطها ببنية النظام الاقتصادي للحريرية السياسية، وكذلك عمّقت الهوة بين قوى الأمر القائم والقوى التغييرية التي تشعر بأنها هزّت ميزان القوى، وأعادت إحياء نوع من الانقسام الإسلامي بوجه التيار الوطني الحر ضمن أحزاب السلطة. وتدفع الأزمة بهؤلاء الشباب إلى استكشاف هامش من النقد الذاتي من داخل أحزابهم عبر طرح أسئلة حول صيغة النظام والتسويات والتحالفات والأداء في الوزارات والعمل التنموي. في مقابل أن الشباب من الحراك والمعارضة يؤكدون على تقديم هويتهم من خلال وضعها كنقيض تام للنظام السياسي القائم بما يمكن أن يجعلها ذات جاذبية عالية.
* أستاذ جامعي
النص الكامل للدراسة متوفر عبر الرابط الآتي: http://www.dirasat.net/uploads/research/2961016.pdf