في ذلك الصيف السوري الحارق سنة 2012، شاع نبأ يزعم أنّ موتورين في ريف دمشق، قد دنسوا حرمة ضريح السيدة زينب حفيدة النبي محمّد، وأنهم قد خطُّوا على السور الخارجي لمقامها، عبارات مسيئة لها. سرت الأنباء حينها متواترة، بأنهم كتبوا لزينب: «قريباً، سترحلين مع النظام»! أنكر المعارضون حصول هذا الفعل، واحتجوا بأنهم ما كانوا قطّ طائفيين... وأنهم، وهم أهل السُنة والجماعة، طالما حفظوا للصحابة الكرام ولأهل البيت، مقاماتهم... وأنهم استبقوا تلك القبور في ديارهم قروناً، وما مسّوها بأذى؛ فكيف يُتهمون اليوم بمثل هذه الأباطيل؟!

ولكنّ مقام زينب «المزعوم» - كما يسميه كثير من المسلحين - بقي يتعرض طيلة عام كامل لمحاولات قصفه بقذائف الهاون. أمّا مقام السيدة سكينة بنت الحسين، في داريا، فكان أسوأ حالاً. إذ سقط بالفعل في أيدي الجماعات المسلحة، فاتخذه هؤلاء ثكنة يتحصّنون بها، من بعد أن نهبوا كل ما فيه. وصاروا يكدّسون في المقام السلاح، متترّسين بقداسته عند خصومهم. فلما أوشك أن يؤخذ منهم، لم يتركوه إلاّ بعد أن صيّروه خراباً!
في أثناء كل ذلك، نُبش قبر الصحابي حُجْر بن عدي، واُخرِجَ صاحب القبر من مكانه، من بعد أن هدموا عليه مقامه بالجرافات... وفُجِّر مقام الصحابي عمار بن ياسر في الرقة!
وحينما قرّر حزب الله أن يتدخل في الحرب السورية، كان من جملة أهدافه حماية تلك المقامات من الانتهاك الحاقد الأثيم، وأن يتقي بحمايته للمراقد المقدسة عند الشيعة، فتنة مذهبية عمياء صمّاء، مازالت مآسيها نازفة في الأذهان، من بعد الذي صار في العراق إثرَ تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، في شباط 2006. ولكن ما راع حزب الله إلا حملة شعواء تتصاعد في وجهه، تزعم أنّ «الروافض عبّاد القبور»، قد جاؤوا بعديدهم وعتادهم من كل فج، لذبح أطفال أهل السنة، واغتصاب نسائهم! وأنهم في تعميتهم عن حقيقة مقاصدهم تلك، إنما يروّجون بهتاناً ويزعمون زوراً بأنهم أتوا لحماية قبر، كان قد حماه أهل السنة، وما زالوا يحمونه، منذ ألف وأربعمئة عام خلت.

تراث ثقيل من الدنس

الحقيقة أنّ تاريخ المسلمين ليس مدنساً في وقائع بعينها، قدرَ ما هو مدنسٌ في وقائع نبش القبور نكاية بأصحابها. ذلك تاريخ - أقل ما يقال فيه اليوم - إنه ملطخ بالعار. وإنّ مسألة نبش القبور وهتك حرماتها والعبث بجثث الموتى كيداً ولؤماً وحقداً، قضيةٌ ليست جديدة في تراث المسلمين، ولا هي طارئة على سِيَرهم... فمنذ فجر الإسلام، كان بعض كبار الصحابة يوصون بأن يُدفنوا ليلاً، أو سراً، أو في قبور مموّهة، مخافة أن يتعرض جثمان أحدهم للنبش! ولقد تكررت مثل هذه الوصايا مع عثمان بن عفان، ثمّ مع علي بن أبي طالب، وقبلهما مع فاطمة بنت محمد، نفسها.
ثمّ إنه حين غلب العباسيون الأمويين، واستولوا على عاصمتهم دمشق، أصرّ قائد الجيش العباسي عبد الله بن علي، على أن يُخرَجَ الخلفاء الأمويين من قبورهم. وأوعز بأن يُصلبَ أحدُهم، ويُجلدَ وهو بعدُ جثة! ثمّ إنه لم ينته حتى أحرقهم. ثمّ إنه نثر ما تبقى من عظامهم في الفلاة!
يذكر ابن الأثير في كتابه الكامل: «أمر عبد الله بن علي بنبش قبور بني أمية في دمشق، فنُبش قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلاّ خيطاً مثل الهباء. ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد. ونُبش قبر عبد الملك فوجدوا جمجمته... وأما هشام بن عبد الملك فإنه وُجدَ صحيحاً، لم يَبْلَ منه إلاّ أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرّقه وذرّاه في الريح» (1).
ومن عجيب التصاريف أن معاوية بن أبي سفيان الذي بدأ العباسيون بنبش قبره، كان هو نفسُه أول من أمر بنبش قبور الصحابة، حينما عهد إلى واليه في المدينة أن ينبش قبور شهداء معركة أحد، وأن يخرجهم من مثواهم، بتعلة أنه يريد إجراء عين ماء في ذلك المكان الذي دفنهم النبي فيه، قبل قرابة خمسين عاماً! (2).
وفي زمن العباسيين عام 236 هجري، بعث الخليفة المتوكل بجنوده إلى قبر الإمام الحسين بن علي في كربلاء، ليهدموه وينبشوه. وأمرهم أن يحرثوا بالبقر موضعَ القبر، وأن يبذروه ويسقوه، وأن يُجرَى عليه الماءُ حتى يُطمَسَ كل أثر له، فيمتنع الناس عن إتيانه! (3).
وفي سنة 443 هـ، نبش الحنابلة قبر الإمام موسى بن جعفر الكاظم في باب التبن (الكاظمية اليوم)، ونهبوا مقامه، ثمّ أحرقوه.
يذكر ابن الأثير في كتابه الكامل أنّ السُنِيَّة الحنابلة «قصدوا مشهد باب التبن فنقبوا في سوره فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضّة وسُتور وغير ذلك. فلمّا كان الغد، كثر جمعهم فقصدوا المشهد، وأحرقوا جميع الترب والآراج، واحترق ضريح موسى، وضريح ابن ابنه محمّد بن عليّ الجواد، والقُبّتان الساج اللتان عليهما... وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجرِ في الدنيا مثله! فلمّا كان الغد خامس الشهر من ربيع الأول (443 هـ) عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمّد بن عليّ لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر، فجاء الحفرُ إلى جانبه» (4).

أكثر العمليات جرأة نفذها اثنان من الصليبيين بعثهما الفرنجة لنبش قبر النبي


لم يقوَ حاكم كربلاء العثماني على مواجهة الغزاة فما وسعه سوى الفرار من المدينة
وليس أمرُ نبش القبور وانتهاكها، وقفاً على فئة من المسلمين دون أخرى؛ فالصفويون (ملوك بلاد فارس في القرن السادس عشر ميلادي) قد أدلوا أيضاً بدلوهم، في هذا الخزي. عام 1508، كان من أول ما قام به الشاه إسماعيل الصفوي، بعد احتلاله لبغداد، هو أمره بنبش قبر الامام أبي حنيفة النعمان، في الأعظمية. وكذلك فإنهم قد أخرجوا من القبر ما وجدوه من عظام الفقيه، وهي رميم. ولزيادة النكاية والتشفي، فإنهم وضعوا أشلاء كلب أسود مكان الرجل في مدفنه! وفي عهد الشاه عباس الأول حفيد اسماعيل الصفوي، جُعِل من مقام أبي حنيفة في الأعظمية مرحاضاً للعامة! ولم يقف أذى الصفويين عند أبي حنيفة، فلقد تجاوزوه إلى غيره، مثل صاحب الطريقة عبد القادر الكيلاني الذي هدموا قبره، وطاردوا ذريته حتى اضطرت إلى الارتحال من العراق إلى الشام.
على أن أكثر عمليات النبش جرأة في تاريخ المسلمين، حدثت عام 557 هـ، وقام بها اثنان من الصليبيين بعثهما الفرنجة لغاية نبش قبر النبي محمد (ص)، وسرقة جسده الشريف. ولقد تنكّر الرجلان في هيئة حاجين مغربيين، ووصلا إلى المدينة المنورة، وأقاما في بيت مجاور للحجرة النبوية. وظل الرجلان يحفران نفقاً يوصلهما إلى القبر، ثم إنهما كانا يحملان ما يجتمع عندهما من التراب في محفظتين جلديتين كبيرتين، ويلقيانه في الظلام، في مقبرة البقيع القريبة. وأقاما على ذلك الصنيع زمناً. ولقد استطاعا، عبر الحفر، إحداث فجوة توصلهما فعلاً إلى قبر النبي، وتُمكِنهما من تحقيق غايتهما في سرقة جسده، ولكن مسعاهما انكشف في نهاية المطاف.
وهذه المحاولة الخطيرة لنبش قبر النبي، هي التي دفعت بالسلطان نور الدين زنكي إلى حفر خندق عظيم حول الحجرة النبوية من جهاتها الأربع، وملء ذلك الخندق بالرصاص المذاب، فصار بمثابة سور يقي الحجرة النبوية من أي محاولة اعتداء، في المستقبل (5).

ماذا يحدث حينما يسقط مقام؟!

لعل الشناعة الأكثر خِسّة ودموية ولؤماً وإجراماً، في تاريخ المسلمين، هي تلك التي حدثت في يوم 22 نيسان 1802م (الموافق لـ 18 ذي الحجة 1216هـ)، والتي اقترفها الوهابيون بحق الإمام الحسين حفيد النبي. وكان يقودهم في هذه الشناعة أميرهم سعود بن عبد العزيز آل سعود (الملقب في التاريخ الرسمي السعودي بـ«الكبير» و«الإمام»).
وكان الوهابيون زمن ذاك، قد أعدوا عدتهم وأعملوا حيلتهم للنيل من الإمام الحسين، ومن أبيه علي، ومن شيعتهما دفعة واحدة. فاختاروا يوم الثامن عشر من ذي الحجة موعداً لحربهم، لِمَا عَلِمُوه من أن هذا التاريخ يوافق عند الشيعة احتفالهم بعيد الغدير (ذكرى وصية النبي بولاية الامام علي من بعده، كما يؤمن «الإمامية»). ثمّ إنهم علِموا أن العراقيين يحجون جميعاً إلى النجف في ذلك الميعاد. فكانت خطة السعوديين أن يفسدوا يوم الاحتفال بعلي ذاك، عبر مهاجمة مدينة كربلاء، مغتنمين فرصة خلوَّها من رجالها المرتحلين إلى مقام النجف، ثم يقومون بنبش قبر الحسين وسلبه فيغتنون بما يحصّلونه من نفائس المرقد. وإنهم في أثناء غزوتهم هذه يبيدون كل من بقي من «الروافض» في المدينة المقدسة، من أطفال وعجائز ونساء ومرضى مخلفين!
ولقد جهّز السعوديون لغزوتهم جيشاً يتكون من قرابة ألف مقاتل - 600 هجان و400 فارس - (6). وقسّموا جنودهم ثلاثة أقسام، بحيث يهاجمون المدينة الوادعة من أكثر من جهة. ولم تكن كربلاء في أوائل القرن التاسع عشر، سوى بلدة ذات سور غير عال مبني من الطين، وتحيط بها أشجار النخيل. فلم يكن اقتحامها حينئذ صعباً على المهاجمين. ولقد داهمها الوهابيون من بعد أن تسوّروا سورها، وهدّوا أحد أبوابه. وهجم التكفيريون على أهل كربلاء كأنهم يفترسون الطرائد، وهم يتنادون: «اقتلوا المشركين!» (7).
يقول مؤرخ الدولة السعودية الأولى والثانية، عثمان بن بشر النجدي الحنبلي، في كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد»: «إنّ سعود قصد أرض كربلاء بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة، ونازل أهل بلد الحسين، فحشد فيها المسلمين (يعني الوهابيين)، وتسوّروا جدرانها، ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت» (8).
ولم يقوَ عمر أغا حاكم كربلاء العثماني على مواجهة الغزاة المتوحشين، فما وسعه سوى الفرار هارباً من المدينة، ومعه بعض جنود من حراسه الأتراك، تاركاً الناسَ العزل لقدرهم الموحش! واتجه ابن سعود ومن معه إلى الروضة الحسينية، فتجمع قرابة خمسون موالياً في صحن مقام السبط، وخمسمئة آخرين خارج الروضة (9). كان معظمهم من المسنين، أو من الأطفال القصّر، ولكنهم صمّموا أن يلبوا نداء مولاهم، وأن ينصروه بصدورهم العارية... وكذلك أعمل السعوديون في أولئك العزل السيوفَ، فبدا كأنّ يومَ الطفِّ قد انبعـث من جديد! ولقد تراكمت على الثرى أشلاءٌ مشوهة، ورؤوس مقطعة، وأجساد مضرّجة تدوسها حوافر الخيل دوساً. وضجّت أركان كربلاء بأنات الجرحى المكروبين، وبعويل الثكالى المكلومين، وسالت دماء المستضعفين تصبغ أركان الروضة الحسينية والصحن والأروقة والضريح.
ثمّ لمّا قضى المقاومون ولم تعد من مقاومة، ربط ابن سعود خيله في الصحن الحسيني، وأمر أتباعه بدق القهوة في أروقة المقام الدامي (10). وبدأ الوهابيون البدو يخربون كل ما تصل إليه أيديهم في مشهد الإمام الحسين، فاقتلعوا السياج البديع الذي يحف بالضريح، ثم دمّروا المرايا الجسيمة من حوله، ونهبوا النفائس والتحف الثمينة التي طالما قدمها أمراء وملوك الفرس والهند، لتزيين المرقد الآمن. وسلب الأعراب الشمعدانات الضحمة، وآلافاً من قطع السجاد العجمي الفاخر. وهشموا الثريات الثمينة، والأبواب المعشقة. وكسروا حتى القضب المعدنية في الشبابيك، ثمّ تطاولوا إلى زخارف الجدران يحطمونها، واقتلعوا الذهب المزين للسقوف. وأرادوا أن يخلعوا صفائح الذهب الابريز من قبة المشهد الحسيني، ولكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك، لاستحكامها ومتانة وضعها (11)، فارتدوا على القبة يخربونها. ثم مضوا إلى الضريح نفسه لينقبوه ويكسّروه. واقتلعوا شباك القبر من مكانه، وحملوه في جملة ما سلبوه. وخلعوا باب خزانة المشهد حيث تتجمع التحف الثمينة المهداة إلى الروضة، منذ مئات السنين... فسرقوا كل ما فيها من حجارة كريمة وأوان نفيسة وذخائر جليلة وسيوف مرصعة (12). ويفخر ابن بشر الوهابي (في كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد» الذي نشرته دارة الملك عبد العزيز - الرسمية- في الرياض، سنة 1982) بما صنعه الوهابيون في غزوتهم تلك، فيقول: «وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها قبر الحسين. وأخذوا ما في القبة وما حولها. وأخذوا النصبية (يعني الوثن) التي وضعوها على القبر. وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر. وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر. ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر وقتل من أهلها قريب ألفا رجل» (13).
لقد استباح السعوديون كربلاء المقدسة ست ساعات، من نهار 22 نيسان 1802، فعاثوا في البلدة تخريباً وتدميراً ونهباً وترويعاً وسفكاً للدماء واعتداء على الأعراض. يصف المؤرخ والمستشرق والسياسي البريطاني ستيفن همسلي لونكريك، فظائع الوهابيين في كربلاء، في كتابه «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث»، فيقول: «قتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه، كما سرقوا كل دار، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل، لم يحترموا النساء ولا الرجال... فلم يسلم الكل من وحشيتهم» (14).
ثمّ إن السعوديين فرّوا بما غنموه، قافلين إلى موطنهم في الصحراء، بعد أن تركوا مدينة مقدسة تئن بفجيعتها، وتفيض بآلاف الجثث! (15).

نهب حجرة النبي

لم يكن انتهاك ضريح الإمام الحسين في كربلاء المقدسة، خاتمة المطاف عند الوهابيين. فبعد قرابة عامين من مأساة الروضة الحسينية، ستلقى الروضة النبوية، في المدينة المنورة، ضرباً مشابهاً من النهب والسلب والانتهاك، على يد «إمام المسلمين» سعود الكبير آل سعود!
ولقد سار سعود بجيشه الوهابي إلى المدينة المنورة، بعد أن فعل الأفاعيل في أهالي مدينة الطائف، في شهر آذار 1803 (ذو القعدة 1217هـ). ويصف المؤرخ السيد أحمد دحلان ما قام به الوهابيون من مجازر في الطائف فيقول: «ولمّا دخلوا الطائف قتلوا الناس قتلاً عاماً، واستوعبوا الكبير والصغير، والمأمور والأمير، والشريف والوضيع، وصاروا يذبحون على صدر الأم الطفل الرضيع، وصاروا يصعدون البيوت يُخرجون من توارى فيها، فيقتلونهم. فوجدوا جماعة يتدارسون القرآن فقتلوهم عن آخرهم حتى أبادوا من في البيوت جميعاً، ثم خرجوا الى الحوانيت والمساجد وقتلوا من فيها... يقتلون الرجل في المسجد وهو راكع أو ساجد، حتى أفنوا هؤلاء المخلوقات (16).
ومن بعد أن نشر ابن سعود الرعب في بلاد الحرمين، عبر هذه المذبحة، تمكن من أن يُحكِم سيطرته على مكة التي سلّمها له أهلها من دون قتال، في 7 محرم 1218هـ (ايار 1803). ويصف السيد دحلان ما أقدم عليه الوهابيون في مكة، قائلاً: «بادروا بهدم المساجد ومآثر الصالحين، فهدموا أولاً ما في المعلى من القبب فكانت كثيرة، ثم هدموا قبة مولد النبي (ص)، ومولد أبي بكر، ومولد سيدنا علي، وقبة السيدة خديجة، وتتبعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين... وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون... وبالغوا في شتم القبور التي هدموها. حتى قيل بأن بعضهم بالَ على قبر السيد المحجوب. وبعد ثلاثة أيام من عمليات التدمير المنظّمة، مُحِيت الآثار الإسلامية في مكة المكرمة» (17).
ومن بعد أن فرغ سعود من تدمير آثار مكة، صوّب وجهه نحو مدينة رسول الله، فبعث إلى أهلها طالباً منهم أن يبايعوه، فامتنعوا. فأقبل إليهم مقتحماً عليهم بلدهم، فقاتلوه فغلبهم، ثم إنه أباح المدينة لجنوده... أما هو فقد توجّه إلى الحجرة النبوية.
يروي حسن الركي مؤلف كتاب «لمع الشهاب»، ما حدث في المسجد النبوي على النحو التالي: «طلب (سعودُ) الخدمَ السودانَ الذين يخدمون الحرم النبوي. فقال: أريد منكم الدلالة على خزائن النبي. فقالوا بأجمعهم: «نحن لا نوَليك عليها، ولا نسلطك». فأمر بضربهم وحبسهم حتى اضطروا إلى الإجابة، فدلوه على بعض من ذلك، فأخذ كل ما فيها... وكان فيها من النقود ما لا يحصى، وفيها تاج كسرى أنو شروان، الذي حصل عند المسلمين لمّا فتحت المدائن، وفيها سيف هارون الرشيد، وعقد كان لزبيدة زوجته، وفيها تحف غريبة من جملة ما أرسله سلاطين الهند لحضرته (ص)، تزييناً لقبّته. وأخذ قناديل الذهب وجواهر عديدة» (18).

■ ■ ■


بعد أكثر من قرن من ذلك الزمان... أكمل (خادم الحرمين الشريفين) عبد العزيز مؤسس المملكة السعودية، ما بدأه سلفه سعود الكبير. فهدم مقامات أئمة آل البيت، في مقبرة البقيع بالمدينة، ونهبها. ثم مضى، في مكة، إلى قبر السيدة خديجة بنت خويلد زوجة النبي، وإلى قبر أمه السيدة آمنة بنت وهب، فهدمهما ومحا أثرهما من على وجه الأرض... فكان بذلك أشبهَ خلف بالسلف!
* كاتب عربي

مراجع وهوامش:

(1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، حوادث سنة 132 هـ، الجزء 5، صفحة 430
(2) ابن المبارك، كتاب الجهاد، حديث جابر بن عبد الله، الجزء 1، صفحة 84
(3) الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، حوادث سنة 236هـ، الجزء 9، صفحة 185
(4) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، حوادث سنة 443 هـ، الجزء 8، صفحة 59 ـ 60
(5) علي السمهودي، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، الجزء 2، صفحة 650
(6) قدّر المؤرخ البريطاني ستيفن لونكريك في كتابه «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث»، جيش الوهابيين الذي غزا كربلاء، بألف مقاتل. ولعل هذا هو التقدير الأدق، في حين نحت تقديرات أخرى إلى المبالغة.
(7) عبد الحسين الكليدار آل طعمة، بغية النبلاء في تاريخ كربلاء، ص37
(8)ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ص257
(9) ستيفن لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ص260
(10) محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص 629.
(11) عبد الحسين الكليدار آل طعمة، بغية النبلاء في تاريخ كربلاء، ص37
(12) راجع ما فصّله سادن الروضة الحسينية عبد الحسين الكليدار آل طعمة في الصفحة 37 من كتابه «بغية النبلاء»، من جرد تفصيلي لما سلبه ابن سعود من المقام الحسيني.
(13)ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ص 257
(14) ستيفن لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ص260
(15) تفاوتت المصادر العراقية في تقديراتها لعدد ضحايا مذبحة الوهابيين لأهل كربلاء، بين من قدّر أنهم ألف، ومن قال إنهم ناهزوا خمسة آلاف إنسان، قضوا في ذلك اليوم المشؤوم.
(16)السيد أحمد بن زيني دحلان، خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، ص 297
(17) المصدر السابق، ص 302 ـ 303
(18) حسن الركي، لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب، ص 108