1. القراءات النظرية:كيف تطوّر النقاش الدولي حول عجز ميزان المدفوعات أو الميزان الجاري ودور هذا العجز في إشراع أزمات مالية أي انهيارات في سعر صرف العملة؟
خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى آخر السبعينيات سادت مقاربة كانت تربط بين خفض سعر صرف العملة أي رفع سعر الدولار بالعملة الوطنية وبين انخفاض الاستيراد وزيادة التصدير، بما يزيل العجز في الميزان الجاري. ولم يكن الأمر غالباً على هذا النحو. وهو ما سمّاه الباحثون «التشاؤم بشأن مرونة العرض والطلب» (Edwards Sebastian, Does the current account matter? NBER Working Paper, May, 2001).
وجرى خلال الثمانينيات اعتماد مقاربة جديدة تعرّف رصيد الميزان الجاري بأنه الفارق بين مجموع الإنفاق ممثَّلاً بالاستثمار الخاص (I) والإنفاق الحكومي (G) من جهة، وبين الناتج الوطني (Y) من جهة أخرى. وجرى التركيز على الطابع المتحرّك لهذا العجز مع الوقت. وهو ما جعل باحثين كـساكس في مطلع الثمانينيات يقلّلون من أهمية عجز ميزان المدفوعات شرط أن يكون الاستثمار الخاص هو الذي تسبّب به وليس الإنفاق العام. وطالما بقي هذا الأخير مضبوطاً لا يرتّب عجزاً، فإن قسماً من الباحثين كانوا يعوّلون على قدرة الاستثمار الخاص على إزالة العجز واستعادة توازن ميزان المدفوعات. لكن الوقائع في مطلع الثمانينيات كما خلال التسعينيات لم تثبت مصداقية هذه المقاربة. وركّز باحثون آخرون كـستانلي فيشر ولورانس سامرز على أن عجز الميزان الجاري المتمادي لا بدّ أن يترتّب عليه هروب للمودعين وانهيار لسعر صرف العملة (Edwards Sebastian).
وجرى في ضوء ذلك اعتماد مفهوم جديد هو «استدامة عجز الميزان الجاري»، بمعنى توفّر تمويل يتيح الاستمرار بتغطية العجز. ولجأت مؤسّسات التصنيف الدولية لاعتماد هذا المفهوم في الحكم على أوضاع البلدان المختلفة (Edwards Sebastian). وخلاصة هذا النقاش أن لا علاقة مباشرة بين عجز الميزان الجاري واندلاع الأزمة المالية، لكن الطابع المتمادي للعجز هو مصدر الخطر لأنه يشرع عمليات هروب من العملة الوطنية (Edwards Sebastian).

2. التطوّر في لبنان خلال العقود الأخيرة:
لبنان دولة شبه ريعية semi-rentière. أي يستفيد من الريع النفطي ولو أنه ليس دولة نفطية أو ليس بعد. والدولة شبه الريعية تعتمد بشكل حاسم على التدفقات المالية ذات المنشأ الخارجي (ألبر داغر، «مجلة الدفاع الوطني اللبناني»، العدد 33). وأول التدفقات وأكثرها ثباتاً في حالة لبنان هي تحويلات العاملين في الخارج. وبلغت حصتها نحو ربع الناتج بعد الحرب تبعاً للسنوات. ويستحق لبنان تعريفاً ثانياً هو أنه «اقتصاد معتمد على التحويلات» économie de transferts. وقد زاد اعتماده على هذه التحويلات بعد الحرب لأن العجز عن بناء اقتصاد منتج كان يدفع المزيد من شبابه للهجرة.
وعوّل لبنان بشكل متعمّد على استقطاب الادّخار الخارجي لأنه يعفيه من زيادة الضرائب ويموّل الاستهلاك والمديونية الحكومية. وقد جعلته الأيديولوجية النيوليبرالية يقتنع أكثر بأن تمويل التنمية يمرّ عبر الإبقاء على حركة الرساميل حرّة. وعلى امتداد حقبة ما بعد الحرب كانت تزداد تبعيته المفرطة للظرف الخارجي، أي أسعار البترول وما يسمى الاستثمار الأجنبي المباشر وأغلبه توظيفات عقارية كانت تجعل الوضع أكثر سوءاً في الداخل للأغلبية.
وفي المقابل كان الاستثمار في القطاعات التي تنتج سلعاً معدّة للتصدير يكاد ينعدم. وكان الباحثون يقيسون ارتفاع مؤشر «سعر الصرف الحقيقي» لإظهار أن ارتفاع كلفة الإنتاج وعدم القدرة على إنتاج سلع ذات تنافسية كان العائق أمام بناء اقتصاد منتج. وخلال العقد الأخير احتلّ القطاع السياحي موقعاً مهماً في الناتج وتشغيل العاملين. وكان هو الآخر يقوم على تبعية مفرطة للخارج وخصوصاً الظرف الإقليمي ليس فقط الاقتصادي ولكن السياسي أيضاً.
واستحق لبنان أيضاً وصفه كـ «رأسمالية ريعية» أو «رأسمالية أصحاب ريوع مالية» capitalisme de rentiers آخذاً في الاعتبار دور القطاع المصرفي الذي بلغت ودائعه 4.5 مرات حجم الناتج. وهذا القطاع كان يستفيد من إعادة توزيع الدخل لمصلحته على حساب أصحاب المشاريع والعاملين بأجر. وكان يزدهر وسط حالة الركود القائمة.
وقد بدا الانطلاق من تعريف لبنان كاقتصاد شبه ــ ريعي بالمعنى الذي أعطاه عبد القادر سيد أحمد لهذا التعبير، أي بمعنى الاعتماد المفرط على التدفقات المالية الخارجية هو الأفضل كنقطة انطلاق في التشخيص (Sid Ahmed Abdelkader, Economie politique de la transition dans les pays en développement: le cas de la Syrie, éd. Publisud, Paris, 1996.). ولأن لبنان انتمى إلى فئة البلدان التي أساءت استخدام هذه التدفقات، أي ذهبت إلى استخدامها للاستهلاك والاستيراد، ولم تستفِد منها بأيّ شكل لبناء الاقتصاد المنتج (Palma Gabriel, «The “Three Routes” to Financial Crises: Chile, Mexico, and Argentina [1] ; Brazil [2] ; and Korea, Malaysia and Thailand [3] », in J. Eatwell, L. taylor (eds.), International Capital Markets: Systems in Transition, Oxford University Press, 2002; reprinted in Chang Ha-Joon (ed.), Rethinking Development Economics, Anthem Press, 2003, pp. 347-376.)، كانت الأزمة المالية في الانتظار في نهاية الطريق («البرنامج الحكومي للإصلاح»، «الأخبار»، 17/06/2020).
وقد عيّن جاك قبانجي المشكلة في كون اقتصاد لبنان «اقتصاداً ريعياً ممثلاً بالقطاعين المصرفي والعقاري بالأخص اللذين شكّلا عموده الفقري ...»، (جاك قبانجي، «ضعف اليسار والحركة الشعبية وأزمة النظام... التحالف الاجتماعي هو المخرج ؟»، «الأخبار»، 16/04/2021). وهو مصيب في هذا التوصيف. وهو يوحي بأن ما نحتاج له هو نقيض هذا الاقتصاد ممثلاً بالاقتصاد المنتج. لكن التعريف الأول، أي أنه اقتصاد شبه ــ ريعي، له جدوى برنامجية أكبر لأن التبعية للتدفقات المالية الخارجية تجعل أي بلد تحت رحمة الخارج وتجعل الخارج قادراً على افتعال الأزمة فيه وتدميره في أي وقت.

3. تطور أرقام عجز الميزان الجاري خلال العقد الأخير:
وقد ذكر عبد الحليم فضل الله أن التدفقات المالية إلى لبنان بلغت 202 مليار دولار بين 2003 و2018، نصفها تحويلات مغتربين والنصف الآخر استثمارات مباشرة أغلبها في القطاع العقاري (24 في المئة) وودائع لغير المقيمين (عبد الحليم فضل الله، «في التحرّر من سرديات الأزمة»، «الأخبار»، 02/08/2021).
أما لجهة العجز في ميزان المدفوعات، فقد ذكر أن العجز التجاري بلغ 225 مليار دولار بين 1992 و 2018، وهو نفسه بلغ 190 مليار دولار خلال 2003-2018. أما عجز الميزان الجاري فقد بلغ 150 مليار دولار خلال 1992 ـــ 2018، و135 مليار دولار خلال 2003 ـــ 2018.
ويوضح تتبّع أرقام ميزان المدفوعات أن لبنان حقّق فوائض على مدى العشرين سنة بين 1991 و2010 فيما عدا ثلاث سنوات. وكان المتوسط السنوي للفائض يساوي 1.4 مليار دولار خلال تلك الفترة. وتضاعف هذا الفائض ثلاث مرّات بين 2006 و2010. ثم انقلب الوضع بدءاً من 2011 وبحيث كان هناك عجز كل سنة بين 2011 و2018، فيما عدا سنة 2016. وبلغ متوسط العجز السنوي 1.6 مليار دولار خلال تلك الفترة. وأجرت بعثة صندوق النقد الدولي لعام 2019 محاكاة أظهرت أن العجز سيزداد خلال تلك السنة وسيراكم لبنان عجوزات بين 2019 و2024 بمتوسط سنوي يساوي 3.6 مليار دولار (ألبر داغر، «السياسات الانكماشية لا توقف نزف الدولارات»، «الأخبار»، 05/08/2019).
وكانت وكالة التصنيف «موديز» قد خفّضت تصنيف لبنان في مطلع 2019 (محمد وهبة، «موديز تخفّض تصنيف لبنان»، «الأخبار»، 22/01/2019). وأشار تقرير خبراء الصندوق لعام 2019 إلى خفض التصنيف الذي حصل (صندوق النقد الدولي، «لبنان: بيان خبراء الصندوق في ختام مشاورات المادة الرابعة لعام 2019»، 11/07/2019). وتواصلت وزارة المال ومصرف لبنان مع «ستاندرد أند بورز» خلال شهر آب لإقناع مسؤوليها بالحفاظ على التصنيف المعتمد. واعتُبرت الأوراق المرسلة من الأطراف اللبنانية «مخيبة للآمال إلى حدّ ما». وفاجأت وكالة «فيتش» المعنيين بأنها هي الأخرى خفّضت تصنيف لبنان، معتبرة أن قدرة لبنان على سداد ديونه ضعيفة مع احتمال تخلّف عن السداد. وفي نهاية شهر آب 2019 كانت وكالات التصنيف الثلاث «موديز» و«ستاندرد أند بورز» و«فيتش» قد خفضت كلها تصنيف لبنان (محمد وهبة، «تصنيف «ستاندر أند بورز»: قريباً لبنان على حافة الهاوية»، «الأخبار»، 06/08/2019 ـــ «تصنيف لبنان يتقهقر»، «الأخبار»، 24/08/2019). واعتبرت اثنتان منها أن لبنان بات ضمن فئة «احتمال التعثّر».
وتمثّل أول استحقاق للدين الخارجي بـ 1.2 مليار دولار، كان على الدولة أن تسدّده في آذار 2020. وهي كانت ستدفع 8.1 مليار دولار خلال 2020-2021 كاستحقاقات للدين الخارجي، في حين أن مجموع هذه المبالغ كان سيكون 20.6 مليار دولار حتى 2025.