«الأمور تنهار، لا يمكن للمركز أن يصمد تُفلت الفوضى الخالصة في الأرض
أفضل النّاس يفتقرون للتصميم الكامل، فيما أسوأ النّاس
يملأهم شغفٌ متّقد
لا بدّ أنّ وحياً يقترب
لا بدّ من أنّ قيامةً ثانية تدنو»
ويليام بتلر ييتس

«نامي جياع الشّعب، نامي
حرستك الهة الطّعام»
محمد مهدي الجواهري

سينشغل الباحثون لسنوات قادمة في شرح الأزمة التي حلّت بلبنان، وتاريخها ومسارها وأسبابها، وقد أصبح البحث في «جذور الأزمة» مادّةً مفضّلة عند المعلّقين لاستهلال أيّ نقاشٍ عن لبنان، أو لاستخلاص الدّروس التي يريدنا المتحدّث أن نستخلصها، أو لتسجيلٍ نقاطٍ سياسيّة ببساطة. غير أنّ هذا النّقاش «العلمي» و«الاقتصادي» قد يتحوّل بسهولة إلى تمرينٍ انطولوجي لا ينتهي، يشوّش الواقع بدلاً من أن يشرحه: يمكنك أن تأخذ أي نقطة أو أي حدثٍ في السنوات الثلاثين الماضية وأن تعتبره باباً من أبواب الأزمة، وكلّما أشار أحدهم إلى مسبّبٍ لها يمكنك أن تشير إلى غيره وأن تقدّم سرديّة مختلفة. لهذا السّبب، فإن الصّراع على تفسير ما جرى هو أيضاً صراعٌ سياسيّ، ومن الأفضل أن يتمّ تقديمه بصراحةٍ على هذا النّحو (بمعنى آخر: من الأفضل والأكثر نزاهة أن تشرح لنا أنّك أخذت موقعاً ايديولوجياً واضحاً في النّزاع الجاري في لبنان، وأنّك تتكلّم انطلاقاً منه، بدلاً من تغليف انحيازاتك السياسية بغلافٍ «موضوعي» غير صادق، ونظريّات غرائبيّة عن السياسة الدوليّة وكيف يعمل العالم).
«الجحيم» - كليون بيترسون (الولايات المتحدة)

من هنا، يدور جزءٌ أساسيّ من النقاش في لبنان حول ثنائيات كاذبة (مسبّب داخلي/ مسبّب خارجي، حصار/ انهيار، بنية ريعية/ فساد، الخ) وذلك ليس لأنّنا نختلف على تفسير التّاريخ، بل لأن هذه هي مفاصل الصراع السياسي في لبنان اليوم. وهذا «النقاش» لا يحصل في سياقٍ «حواري» طبيعي، بل هو يجري فيما النّاس يقبعون تحت ما يشبه الابتزاز الجماعيّ: خوف، انهيار وحرمان، إغراق إعلامي، وحروب سياسيّة شرسة (الدّول الأجنبية لم تقلّص وجودها في لبنان، كما يفترض البعض، هي ببساطة تصرف تمويلها على جماعاتها الخاصّة في البلد بدلاً من التعامل مع الدّولة). بالمناسبة، حول ذاك الجدال «الشائك» عن العامل الخارجي ومفهوم «الحصار»، فإن المسألة قد شرحها سابقاً العديد من الاقتصاديين، وعليها الكثير من الأمثلة، ولا تحتاج إلى كثير تمحيص - ومفادها أن الدّول التابعة اقتصادياً، والتي تعتمد على تدفّق السيولة المستمرّ من الخارج والقروض والمساعدات، لا تحتاج إلى «حصارٍ» على الطريقة الكورية الشماليّة، بل يكفي أن تشير الولايات المتّحدة، مجرّد إشارة، إلى الأسواق الغربيّة حتى تختفي الثّقة بالبلد المعني، وتهبط عملته وينقلب حال اقتصاده (وهذا ينطبق على دولة صناعيّة منتجة مثل تركيا، فكيف بدولٍ مثل لبنان والأردن ومصر؟). على الهامش أيضاً: هناك في لبنان، منذ سنوات، عقوبات وحصار (بالمعنى الأصلي الحرفي للكلمة) على جماعاتٍ وفئات (تتّسع وتضيق بحسب رغبة الحكومة الأميركية)، ويسارع إلى تطبيقها بحماسٍ لبنانيّون ضد لبنانيين آخرين داخل بلدهم، ولكن الواضح أن الموضوع لا يهمّ أحداً.

قصصٌ متداخلة
حين نودّع لبنان القديم، يجب علينا أن نودّع، بالمثل، الكثير من الأساطير التي رافقته (من تواريخ القرن التاسع عشر إلى سرديّة «أيّام العزّ»، وصولاً إلى النظرية حول تميّز المطبخ اللبناني - الشيء الوحيد الذي يتميّز به مطبخ لبنان عن محيطه ويتقنه هو اللحم النيء، وغالبية الناس خارج إقليمنا لا تأكله وتقرف منه). وأوّل هذه الأساطير هو الهوس القديم (بمقاييس بلدٍ ولد عام 1920) بفكرة «الدّور الخاص» والتمايز عن المحيط، وأنّك ستعتاش على أن تكون «سوسنةً بين الأشواك». من هنا ولدت المقارنة العجيبة بين لبنان وسويسرا مثلاً. كما شرح الباحث نجيب حوراني وغيره، فإن القطاع المصرفي اللبناني حاز «دوره» المميز في القرن العشرين لسببٍ واحدٍ وحيد: أنّ الغرب في الخمسينيات والستينيات كان يحتاج إلى مؤسسات مالية «وسيطة»، تستوعب الفوائض النفطية التي بدأت بالتدفّق إلى الخليج، وتعيدها إلى الاقتصاد الغربي ومصارفه كاستثمارات. كان هناك «طلب» على هذه الخدمة ولم يكن هناك «عرض» إلّا من جانب المصارف اللبنانية (فدول الجوار كانت تغلق مصارفها الخاصّة، فيما لبنان دولة رأسمالية وموالية للغرب ولا خوف فيه من التأميم). المسألة لا تتعلّق بالماضي الفينيقي ولا بعبقرية المصرفيين اللبنانين ومواهبهم. على العكس، فإن القطاع المصرفي اللبناني كان بدائياً إلى حدٍّ بعيد، ولم يحصل له تنظيمٌ حقيقي حتى أواسط الستينيات، وفي كلّ مرةٍ كان المصرفيون اللبنانيون يحاولون فيها الارتجال وإظهار مهاراتهم المالية (كالاستثمار في الغرب وأسواق الأسهم) كانوا يقعون في أزماتٍ وإفلاسات. سويسرا لم تصبح مركزاً مالياً بفضل صدفةٍ تاريخية لا تتكرّر (مع أنها استغلّت الظروف الدولية ببراعة وانتهازية، وبخاصة الحربين العالميتين)، بل لأنها أسّست قاعدةً لكلّ أشكال الخدمات الماليّة، من إدارة الثروات إلى التأمين وصولاً إلى بيع وشراء النفط والمواد الأوليّة (على سبيل المثال، مع أن سويسرا هي بلدٌ داخلي، لا يطلّ على بحرٍ أو محيط، فإن السويسريين يملكون إحدى أكبر شركات النقل البحري في العالم - لا تقارن نفسك بهم).
النظام اللبناني ليس سلطة مقابل شعب بل شبكات كثيفة متداخلة من العلاقات التجارية والاحتكارات والقنوات الخارجيّة والتكتلات التي تمسك بمصادر الريع، وهذه جلّها انهار أو تعثّر


وكما أنّك قد تحصل على «دورٍ» في النظام العالمي بفعل ظروفٍ معيّنة، فإن تغيّر الظروف قد يسلبك هذا الدّور، هكذا وبكل بساطة. وهو ما اختبره القطاع المصرفي في لبنان مع حلول أواسط السبعينيات من القرن العشرين: المصارف في الخليج أصبحت كفوءة وقادرة على استيعاب الرساميل النفطية، ولم يعد في القطاع المصرفي اللبناني ما يغري باستثناء انفتاحه (أيام الحرب) على الأعمال غير القانونية وميزة السرية المصرفية (ولم تكن أميركا، أيامها، تمارس رقابةً لصيقة كاليوم على تحويلات الدولار وغسيل الأموال وما شابه من نشاطات، وهذه مرحلة مثيرة في تاريخ القطاع المصرفي اللبناني قد لا نعرف تفاصيلها يوماً).
هنا يأتي الحدث الأهم في تاريخ لبنان الحديث: مجيء الحريري وسيطرته على السياسة الاقتصادية وإنعاش المصارف عبر لعبة الدّين العام والودائع. الفكرة كانت بسيطة وجهنّميّة، إن كان القطاع المصرفي اللبناني قد خسر دوره التقليدي، ففي وسعنا أن نخترع له دوراً جديداً يجذب الرساميل والودائع كما في السّابق. معدّلات فائدة مرتفعة، مع ضمان تثبيت العملة، بل وسندات مماثلة بالدولار ابتداءً من أواخر التسعينيات. تضخّم حجم الودائع في المصارف اللبنانية بعدّة أضعاف خلال هذه الفترة، وأذكر أن سعيد عقل، وكان أيّامها يكتب عموداً في «السفير»، كان يتابع حجم الودائع اللبنانيّة ببهجة ويعلنه للقرّاء دورياً باعتباره دليلاً على نهوض لبنان واستعادته لدوره المميّز (لم يكن سعيد عقل يعرف، على ما يبدو، أن هذه الودائع تموّلها فوائد الدين الذي يتضخّم بالتوازي معها). تجدر الإشارة هنا إلى أن رفيق الحريري، في تلك الفترة، كان يقول بشكلٍ شبه علنيّ أن هذه الدّيون التي لا يمكن أن نسدّدها يوماً ستصفّر حين نوقّع سلاماً وتسويةً مع إسرائيل - لمن يسأل عن الارتباط بين النمط الاقتصادي والأهداف السياسية لمموّليه.
هنا أيضاً، كان هناك دورٌ أساسي للسياسة المالية للدولة (the fisc) في خدمة هذا الاقتصاد السياسي، الذي ولد لكي يخدم المصرف. العدد الهائل من الضرائب الذي تمّ استنباطه (بإشراف فؤاد السنيورة) في تلك المرحلة كان يهدف إلى صيانة لعبة الدين العام وضمان استمرارها إلى أبعد حدّ. أكثرها كانت ضرائب على الاستهلاك الأساسي (وقود، اتصالات، قيمة مضافة، استيراد)، تثقل على جموع المواطنين وعلى الحركة الاقتصادية في البلد، مع تجنّب الضرائب على الدخل وأرباح الشركات. ولم يكن الهدف من استخراج هذه الأموال من المجتمع هو الإنفاق الاستثماري أو الإعمار، بل ضمان مدخولٍ يكفي لتدوير الدين العام (الإنفاق الاستثماري توقّف في لبنان بشكلٍ كاملٍ تقريباً منذ عقدين). الفكرة هنا هي أنّ هذا المسار كان سيوصل إلى الانهيار أو الحرب في كلّ الحالات، ولو تأخّر الانهيار المالي الذي وقع، لأنّ هذه السياسة كانت كفيلة لا بإفقار الناس فحسب، بل بتحطيم المؤسسات الأساسية التي يحتاج لها المجتمع لإعادة إنتاج نفسه (التعليم، الصحّة، الطاقة، النقل). وأغلب هذه القطاعات كانت قد انقسمت إلى جزءٍ تمّ تخصيصه يخدم القلّة التي تقدر على كلفته، وجزءٍ «عام» للفقراء، يذوي ويتهافت ولا يقدر على تأدية وظيفته بسبب قلة الاستثمار.
في قصّة من هذا النوع، هل يمكن فعلاً الفصل بين الداخل والخارج، والمصرف والدولة، والاقتصاد والسياسة؟ الأساس اليوم هو أنّ لعبة المصرف هذه قد انتهت، وهذا المعنى الحقيقي لـ«الأزمة» التي نعيشها، ونهاية لبنان الذي نعرفه. من هنا، فإن المعنى الحقيقي لأن تكون «ضدّ المصرف» كان طوال السنوات الثلاثين الماضية، حين كان المصرف ومن معه يستنزف اقتصادك ومجتمعك، وليس حين أفلس المصرف وانتهت منظومته (لا مشكلة للمالك اليوم في أن يقفل أبوابه وأن يعطيك المفتاح والمصرف، بأصوله وديونه، مكتفياً بأرباحه التي حققها وأخرجها من البلد). والطموحات التي ما زالت تعتمل في رؤوس البعض بإعادة إحياء هذه المصارف وتحميلنا كلفة الدين العام مجدّداً ليست سوى أطياف آمالٍ وأوهام، ولكنهم مستعدون لإغراق البلد في سبيلها.

عن حياة من غير «نوتيلا»
منذ فترةٍ كنت أمشي على الكورنيش البحري لصيدا، مودّعاً صديقاً ينوي السفر في اليوم التالي إلى العراق بحثاً عن عمل. كنا في منتصف الصيف والحرّ قائظ والشاطئ العام أمام المدينة تملأه، حتى آخر بقعة رملٍ، حشودٌ من العائلات. الحرّ قاتل ولا كهرباء وأكثر هؤلاء الناس لا يقدرون على إطعام عائلاتهم ساندويشاً في مطعمٍ بسيطٍ بأسعار اليوم، فلم يكن لديهم ملجأ سوى الشاطئ، المكان المجّاني الوحيد الذي لم يتمّ تخصيصه بعد.
كنت تجد على ذاك الشاطئ العائلة الممتدّة بأجيالها المختلفة: الأبوان والأولاد والأقارب والجدّ العجوز والحماة النّكدة، إلخ. هؤلاء هم النّاس الذين لا يفكّر بهم أحد. لا وجود لهم في قصّة العقود الماضية أعلاه، ولا شيء بُني بعد الحرب كان لهم. لا المطاعم السياحية ولا العقارات الجديدة. والمتاجر الفخمة التي تصطفّ على طول الطريق السريع المجاور أغلبهم لم يدخلها أو يشترِ منها غرضاً في حياته. وبعض هؤلاء قد يضطرّ قريباً إلى عبور هذا البحر بأيّ طريقة. هم الّذين تغرق أصواتهم وسط صياح المترفين والطامحين والناشطين المحترفين والكلام الشعبوي الصاخب. ولأن لبنان القديم لم يكن لهم، ولأن لا مساحات عامّة بنيت لأطفالهم، فهم لا يملكون في هذا الحرّ سوى أن يسبحوا في هذا الجزء من البحر مع أولادهم، إلى جانب المجرور المفتوح.

علينا أن نودّع مع لبنان القديم الكثير من الأساطير التي رافقته، من تواريخ القرن التاسع عشر، الى سرديّة «أيّام العزّ»، وصولاً الى النظرية حول تميّز المطبخ اللبناني


بعد كلّ ما جرى، ورغم التجربة الجماعية التي مرّت على أكثر اللبنانيين، البعض لم يتعلّم على ما يبدو الدروس الصحيحة من هذه الأزمة. والأزمات لا تُخرج دوماً أفضل ما في النّاس، بل هي تتحوّل أحياناً إلى خوفٍ عارمٍ للنجاة بأي ثمن، ولو على حساب الآخرين، والبعض لا يراها إلّا كـ«فرصة» للصعود والبروز. الواقع المادّي هو أن فئات واسعة من الشّعب قد اختبرت، خلال فترةٍ وجيزة، انحداراً هائلاً في مستوى حياتها واستهلاكها (حين أهداني صديقٌ مغترب قنينة كحول أجنبية فخمة، لم نرَ مثلها منذ أشهر، شعرت وأنا أتلمسها بأني مواطن سوفياتي تلقّى للتوّ طرداً من أقاربٍ في أوروبا الغربيّة). ولكن، إن كان للأزمةٍ من درسٍ فهو أن المأساة لا تكمن في أن يخسر كبار المودعين أرصدتهم، ولا في غياب الـ«نوتيلا» والسياحة الخارجيّة عن حياتك؛ بل - تحديداً - أنّ هناك أولويات أهمّ في الحياة: الخبز والوقود والطاقة والإنترنت، «الحدّ الأدنى» الذي يحتاج الفقراء إلى تأمينه ولا يمكن أن يعيش من غيره أحد. ومن هنا يبدأ البحث في الاقتصاد والحاجات، وهو بحثٌ لا ينطلق من طرحٍ «تقني»، بل من الإجابة عن سؤال «هذا البلد لمن؟»، (ولا ضرورة هنا لأن نذكر المشهد المقابل لعائلات صيدا: دور السّهر والفنادق المحجوزة عن آخرها، وأغلب روّادها ليسوا سياحاً أو أجانب).
«النظام اللبناني» ليس عبارةً عن «سلطة مقابل شعب»، بل هو شبكات كثيفة متداخلة من العلاقات التجارية، والاحتكارات، والقنوات الخارجيّة، والتكتلات التي تمسك بمصادر الرّيع. وهذه جلّها إمّا انهار أو تعثّر أو يتمّ حالياً استبداله. مالكو البلد قد أفلسوا، وصنبور المال العام الذي موّل كل أشكال الامتيازات والحظوة والتبعيّات قد أُقفل للمدى المنظور. هذه هي الحقيقة التي تهيمن على مسار الأحداث اليوم، وليس تشكيل الحكومة أو الانتخابات، وسوف تُجرى حولها معارك لا تُحصى في المرحلة القادمة، ستؤدي إلى تغيير البلد أو تمزيقه، وستتوزّع النّخب على ضفافها (وإياكم أن تصدّقوا أن السبب الحقيقي للحملات الإعلامية والسياسية التي سنشهدها تباعاً سيكون الخوف على مصالح الناس، أو الحرص على مداخيل الدّولة، أو القلق من نوعية الديزل الإيراني). كما قال الأكاديمي الماركسي رالف ميليباند في مقالٍ شهيرٍ نشره أيام انقلاب تشيلي، فإنّ «الحرب الطبقية» لا تعني فقط حرب الطبقات الدنيا ضدّ المستحكمين، كما يتصوّر بعض اليساريين، بل هي أيضاً وأساساً حرب الطبقات العليا على من هم تحتها، وهي حربٌ أكثر استمراريةٍ وفعالية، وصفوفها الأولى مكوّنة من الإعلام والنّخب والخبراء.
تجربة أفغانستان تثبت مرّةً جديدة أنّه لا يكفي أن تحظى بدعم الأجنبي أو أن تهيمن على مثقّفي مركز العاصمة لكي ينتصر فريقك، فهذه سلطة زائلة، ولكن من يحظى بتأييد الغالبية المفقَرة في بلادنا، ويهتمّ بحاجاتها ويحوز ثقتها، هو وحده من يملك مفتاح الغلبة على المدى البعيد. هذا هو التعويض الوحيد لمن لا يملك مالاً ولا قدرةً على هجرةٍ لائقة في هذه الأيام، ويضطرّ إلى البقاء في مكانه في لبنان وتحمّل الظروف: إنّ هؤلاء الناس، في النهاية، هم من سيرث البلد وليس غيرهم، والأمور - حين يجدّ الجدّ - يحسمها «الجمهور» الذي لا يأخذه أحدٌ حالياً في الحسبان. الأوطان هي لمن يظلّ فيها، ولمن هو مستعدٌّ - إن احتاج الأمر - لأن يموت من أجلها، وأن يقتل من أجلها، ولا يتركها تُسرق منه. الأساس هو أنّ النظام القديم قد انتهى، لم تعد له عكازات يقف عليها، وسقط بكلفةٍ كبيرة، وقد انتهت معه الصّور القديمة الرومانسيّة عن «لبنان» ونموذجه، ولا مجال لاسترجاعها. أمّا المعركة القادمة على خلافة هذا النظام القديم واستبداله، فهي ستكون شرسةً ودوليّة ومن غير حدودٍ ومحرّمات.
* كاتب من أسرة «الأخبار»