توارَى ملف سد النهضة، بعد تصعيد مارسته مصر والسودان باللجوء إلى مجلس الأمن، إذ لم تسفر جلسة النقاش عن قرار، لكن في ذات الوقت لا يمكن نفي نتائجها، ومنها إعلان دولتَي المصب رفضهما لمواقف إثيوبيا، واستنزاف فرص إيجاد اتفاق عبر المسار التفاوضي القديم، ومع إعلان دولتَي المصب، أن سلوك إثيوبيا، يمثل تهديداً يتجاوزهما، ويُنذر بصراع في منطقة القرن الأفريقي وأفريقيا عموماً والتي عادت تكتسب أهمية كبيرة في الجغرافيا السياسية، ما دفع ذلك أطرافاً دولية لتكثيف نشاطها بغرض تفكيك الأزمة عبر إعادة التفاوض، ولا يخلو سد النهضة من توظيف سياسي في الساحة الدولية، في ظل تعدد وتعارض مصالح مراكز القوة، إذ يوظف كل طرف الأزمة حسب مصالحه، وربما هذا ما يفسر أن جهود الوساطة لم تقدم مبادرات أو مشروعاً متكاملاً وخريطة لحل الأزمة، كما عكست الأزمة صورة للعلاقات الدولية، بما فيها حسابات تمنع تفاقم الأزمة قبل الملء الثالث وبداية تشغيل السد (أعلنت إثيوبيا عن استعدادها له أخيراً)، وغالباً ستستمر المحاولات لفتح ممرات للتفاوض بعد انسداد مسارات قديمة، وقد تطول مباريات الدبلوماسية، بما فيها من المبارزة، كما التدخّل التركي، وأخرى تأخذ شكلاً مرناً كما التدخل الجزائري، إذ تتشكل المواقف الدولية حسب مصالح الوسطاء والمساندين لأطراف الأزمة الثلاثة، بما فيها القوى الكبرى، الصين وروسيا الأقرب لإثيوبيا في مواجهة النفوذ الأوروبي والأميركي، وتتحرك الأطراف الدولية في ساحة أفريقية لا تعرف تحالفات استراتيجية إلا في لغة البيانات الرسمية، مع عجز ملحوظ لدور الاتحاد الأفريقي وهيئاته أثناء عملية التفاوض.من بين أسباب تأخر عودة المفاوضات، الصراع المسلح في إثيوبيا، ومشكلاتها الحدودية مع السودان، وما ينتج ذلك من مخاطر داخلية في الدولتين، كما ساهم افتقاد وجود مبادرات مكتملة وجادّة في بقاء الأزمة معلقة ثلاثة أشهر، وإيجاد فرصة لتدخلات دولية وعنوان لقاءات دبلوماسية أو أحد موضوعاتها الرئيسية على الأقل.
يمكن رؤية مشهد الأزمة كمبارزة لها جانبان، الجانب الأول صراع تخوضه مصر وإثيوبيا والسودان على الساحة الدولية، يتخذ شكلاً دبلوماسياً، وحوارات جانبية بين الأطراف الثلاثة مع داعميها، والآخر تدخل لقوى دولية توظف الأزمة، ليتخذ الملف موقعه في آليات التنافس الدولي في النزاعات، وفرصة لتعزيز الوجود في أفريقيا بما تمتلكه من موارد وموقع جغرافي، حيث أصبح ملف سد النهضة إحدى ساحات التنافس الدولي بآليات دبلوماسية، تحاول كل قوة مساندة أحد الأطراف والحوار معه، وعبره تؤكد تلك القوى وجودها، وتأمين مصالحها، وإظهار القدرة على التأثير بما تمتلكه من مصادر نفوذ منها وجود عسكري واستثمارات اقتصادية وتمويل من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا، وما الحوارات واللقاءات التي تتّصف أحياناً بالاستجابة إلا تعبير عن ساحة للصراع الدبلوماسي يتخذ موقعه وكأنه حرب مستترة، وبديل لتحريك آليات حربية في عصر لم يعد من السهل خوض الحروب المباشرة فيه.
كسر هيمنة المستعمر المتحكم في مصائر شعوب المنطقة يذكّر بما قاله المجاهد الليبي عمر المختار للمحتل الإيطالي: «وقفنا ضدكم عشرين سنة، ونحن باقون معكم إلى نهايتكم»


وفي السياق هناك عدة اتصالات وأنشطة دبلوماسية، منها زيارة مسؤول الاستخبارات الأميركية للقاهرة أخيراً والذي بحث مشكلة سد النهضة والوضع الفلسطيني ضمن لقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وترتيب الأدوار وتبادل المنافع، ولا يُعد ذلك انحيازاً أميركياً في الأفق إلى مصر كما تروج إثيوبيا، بل اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على رفض التصعيد، وهو ما أدى إلى هدوء نسبي في خطاب مصر الرسمي بعد فترة من تصريحات حملت التلويح باستخدام الخيار العسكري، وتزامنت معه تعبئة إعلامية، حتى بات خبر ضربة عسكرية خاطفة محل انتظار، هذا التراجع لا ينفي احتمالية أن تتحرك مصر عسكرياً بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة أن مرحلة الملء الثالث مايو – يونيو 2022 ستحمل مخاطر مكلفة، في الوقت ذاته تتفق القوى الدولية على قطع الطريق على أي تصعيد عسكري محتمل، وهذا الخيار صعب ومحكوم بحسابات دولية ومحلية لأطراف الأزمة، لذا استُبدل بمواجهات مستترة، تتخذ شكلاً دبلوماسياً وإعلامياً.
ويمكن رصد موقف أميركا بجانب الاتحاد الأوروبي في اتصال وزير الخارجية الأميركي بسامح شكري وتقدير أسلوب مصر في التعامل المرن، بينما جدّد السودان معارضته اتخاذ أديس أبابا مواقف منفردة على لسان وزير الري ورئيس الوزراء، ووزيرة الخارجية في لقاء مع نظيرها الجزائري، وطالبت الخرطوم بعودة المفاوضات للوصول إلى اتفاق، وفي نفس الوقت سعت الخرطوم لحل أزمة الصراع في إثيوبيا، وكأنها ترد على دور آبي أحمد السابق وتوسطه للوصول إلى اتفاق تقاسم السلطة بعد الثورة السودانية، وفي إيضاح أن الخلاف المرتبط بسد النهضة لن يتحول إلى عداء، بينما دخلت تركيا على الخط للتوسط بين إثيوبيا والسودان سواء في الملف الحدودي، الصراع على الشفقة أو سد النهضة، وهو الأمر الذي يحاول إعادة تقريب وجهات النظر بين أديس أبابا والخرطوم، ويحمل مخاطر واحتمالية عزل مصر إذا تفاهم السودان وإثيوبيا بشكل منفرد.
كما أجرى وزير خارجية الجزائر زيارات للقاهرة والخرطوم وأديس أبابا، وكانت الأخيرة قد متّنت علاقتها بالجزائر وأبلغتها بالملء الثاني، وبالتالي تكسب الجزائر ووزير خارجيتها خبرات دبلوماسية في مجال التفاوض وحلّ النزاعات في أفريقيا، ومنها الدور الذي لعبته في حل النزاع الإثيوبي الأريتيري ودورها في ليبيا ومالي، ويظهر تدخلها رغبة في لعب دور دبلوماسي أفريقياً وعربياً، ومنها موقفها الأخير الرافض لعضوية دولة الاحتلال في الاتحاد الأفريقي، وبذلك تُظهر رعاية للحوار وتعبيراً عن مصالح عربية وقومية، وتحاول أديس أبابا التي تخوض صراعاً عسكرياً مرتفع التكاليف مع جبهة تحرير التيجراي، استكمال بناء وتشغيل السد، إلا أن ذلك لن يمر بسهولة أمام أضرار تلحقها بدولتَي المصب، وخبرات مفاوضات تنتهي بخطوات منفردة لأديس أبابا، وإن كان السد يمثل خطراً على دولتَي المصب، ففي المقابل يمثل لأديس أبابا ملفاً شائكاً في حال استمرار الصراع مع طرفَي الأزمة، بينما إحراز النجاح فيه يعزّز سلطة آبي أحمد التي نالت منها الحرب.
وسبق أن كثّفت القاهرة جهودها دبلوماسياً لإعادة التوازن وكسب الأطراف الدولية إلى ساحتها قبل عودة المفاوضات، وطالبت عبر اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بـ»ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤوليته لدفع عملية التفاوض للوصول إلى اتفاق شامل وعادل ومُلزم حول ملء وتشغيل السد» بينما تلاحق أديس أبابا مصر دبلوماسياً في محاولة لتسيّد سرديتها وعدم إحداث تغيير في مواقف دول مجلس الأمن وحوض النيل التي اتسمت غالبيتها إما بانحياز إلى إثيوبيا أو إبداء الحياد. وفي هذا السياق زار وزير الري المصري جنوب السودان والكونغو لتعزيز التعاون مع دول حوض النيل، بينما حاور سامح شكري وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في الوقت التي كانت تزور وزيرة السلام الإثيوبية ألمانيا وبريطانيا، وطالبت أديس أبابا أنيت ويبر ممثل الاتحاد الأوروبي في القرن الأفريقي باتخاذ موقف محايد في قضية السد، وذلك رداً على إعلان ويبر استعداد الاتحاد للمساهمة في حل الأزمة بالتعاون مع الولايات المتحدة، والتي أجرى وزير خارجيتها أنتوني بلينكن اتصالاً برئيس الكونغو والتي تترأّس بلاده الاتحاد الأفريقي وشدّد على دور الاتحاد الأفريقي في حلّ الأزمة.
إجمالاً يمكن القول إن الصراع الدبلوماسي أصبح قائماً بصورة كبيرة بديلاً عن الخيار العسكري، وإن بداية الصيف القادم ستشهد احتمالين، إما تصعيداً أو تمهيداً لتوقيع اتفاق يتضمّن التشغيل واستكمال مراحل الملء، وستسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لجمع أطراف الأزمة برعاية الاتحاد الأفريقي. أما موقفا الصين وروسيا فلا يلحظ عليهما تغيير عن ما عبّرت عنه الدولتان من مواقف ترتبط بمصالحهما في أفريقيا وإثيوبيا خصوصاً، واعتبار أن موقفهما محايد، غير منحاز إلى أي طرف (عبّر عنه وزيرا خارجية البلدين للقاهرة) وغير محبّذ للاصطفاف كقطب مواجه للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي النهاية تستخدم جميع الأطراف أزمة السد لتعزيز وجودها في القارة الأفريقية وإبراز تأثيرها ونفوذها، وتحويلها أزمة السد إلى أداة للنفوذ والصراع الدولي على الساحة الأفريقية بعد أن باتت خيارات التكامل والتعاون لا تجد أسساً أو نظماً سياسية قادرة على إتمامه.
* باحث في الإنثروبولوجيا الاجتماعية والسياسية